– هل تخشى ألّا تتطابق نتائج الحلول السياسية الآتية مع الذي تحقّق إستراتيجياً في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول كإنجاز عظيم عسكرياً؟
– نحن لا نخشى الأداء السياسي للمقاومة الفلسطينية وحركة حماس، ولكننا بالتأكيد بسبب ضعف بيئاتنا العربية والإسلامية وتخلفها وتشرذمها، وحالة النفوذ الأجنبي فيها، فإننا نخشى من أن تسعى الأنظمة الرسمية إلى تفريغ هذا الانتصار من محتواه ومن عناصر قوته على مستوى الأمة، أو على مستوى البيئات الإقليمية والاستراتيجية المحيطة بفلسطين، وبالتالي إضعاف قيمة هذا النصر العظيم الذي تحقق يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. فهناك ملفات مرتبطة بالأداء المقاوم على الأرض تحتاج إلى بيئة استراتيجية مساندة، مثل كسر الحصار عن غزة، وهذا لا يتم إلا من خلال البيئة العربية والإسلامية الداعمة، وهذا ينطبق على العمل على المستوى الدولي، ولا سيما في الأمم المتحدة ومؤسساتها. وبالتالي، هناك خشية من ألا تتوازى مخرجات النتائج لهذا الإنجاز العظيم مع مستوى الأداء العربي والإسلامي الرسمي على الأرض.
– هل فوجئت بكل هذا الدعم والتحشيد الغربي، وبلامبالاة الشارع العربي والإسلامي وهذا الانكشاف الكوني تجاه ما يحصل في غزة من حرب إبادة جماعية؟
– ليس إلى درجة المفاجأة الكبيرة، ولكن درجة التخلف والتراجع والخذلان في ما وصلت إليه بيئتنا العربية، كانت مؤلمة بالفعل. فكيف انتقلت البيئة العربية الرسمية من حالة المشاركة القتالية الفعّالة ضدّ الصهاينة إلى حالة اللامبالاة، أو حتى التآمر على المقاومة، هو أمر مثير للغضب؛ خصوصاً أن المقاومة تُشكّل حائط الصدّ الأول والمانع لحماية الأمة في مواجهة المشروع الصهيوني.
نعم، أنا لم أكن متفاجئاً كثيراً، والسبب أنه بعد مرور حوالي إحدى عشرة سنة على الموجة المرتدة على ما يسمى “الربيع العربي”، فإن البيئة العربية الرسمية للأسف تكرّس فيها تيار عام يتبنى مسار التسوية ويُعادي المقاومة، مع جو عام معادٍ للتيارات الإسلامية وحركات التغيير. حماس في فلسطين تجمع بين الأمرين: هي حركة إسلامية، وهي حركة مقاومة معارضة لمسار التسوية. بالنسبة للأنظمة العربية، تحوّلت المقاومة الفلسطينية من واجب إلى عبء. وبعض قيادات هذه الأنظمة كانت تتحدث مع مسؤولين أمريكيين وشخصيات من خلف الأبواب المغلقة وتُعبّر عن رغبتها بسحق حماس، وأن يتم الأمر بسرعة حتى لا يُحرَجوا أمام شعوبهم.
– أين “الإخوان” مما قامت وتقوم به حماس، بدءاً من تركيا؟
– في تركيا حركات وجماعات إسلامية محلية ولكنها ليست جزءاً من تنظيم الإخوان المسلمين، بما في ذلك التيار الذي جاء منه الحزب الحاكم (العدالة والتنمية).
صالح: أثبتت معركة طوفان الأقصى أنه لا يمكن تجاوز إرادة الشعب الفلسطيني، وأن خط المقاومة هو الذي يُعبّر بصدق عن إرادة هذا الشعب، بل وعن إرادة الأمة، وعن كل إنسان حرّ يحمل معاني الحرية والعزة والعدالة
– عذراً للمقاطعة، ولكن تركيا حرصت على أن تضع يدها في كل مكان يوجد فيه حضور لحركة الإخوان المسلمين مثل مصر، تونس، سوريا، وليبيا؟
– العضوية في الإخوان شيء، والتعاون بين الاتجاهات الإسلامية شيء آخر. هناك حركات إسلامية مختلفة في العالم الإسلامي وتريد أن تعبّر عن الإسلام بدرجات متفاوتة. بعضها يُعبّر من خلال التغيير الإصلاحي في الحكم، أو من خلال الانتخابات تحت سقف النظام العلماني، ولكن ليس لديها أفكار تتعلق بالمقاومة ومشاريع الوحدة ومشاريع التحرير. هي بيئات محلية إصلاحية وهم يتفاعلون مع بيئاتهم. بصراحة هناك مشكلة في الأمة تتعلق بالانكفاء القطري.
– ولكن الإخوان المسلمين حركة عالمية؟
– أريد أن أوضح أن الانكفاء القطري انعكس بشكل متزايد في السنوات الماضية على الحركات القومية العربية، وحتى على الحركات الإسلامية؛ وإن بدرجات متفاوتة، بحيث أصبحت الهموم والأولويات المحلية تتقدم على هوية الأمة وقضاياها الكبرى بشكل عام؛ ويتم التعامل معها وفق الظروف والأسقف المحلية التي تفرضها الأنظمة القُطرية.
– أعود إلى سؤالي السابق عن الإخوان المسلمين، أين هم؟
– ربما كانت التوقعات أعلى مما رأيناه، ولكن القراءة الموضوعية تشير إلى أن الإخوان كانوا هم الأنشط والأكثر تفاعلاً في الإطار الشعبي حيث يوجد لهم حضور. وفي الوقت نفسه، ليس الإخوان في وضع قيادي رسمي في أي من البلدان العربية، ولا في أي وضع يمكنهم من الإسهام الخشن (العسكري). فبعدما صعدت الموجة المضادة لما يعرف بالربيع العربي منذ 2013، تمّ إسقاط الإخوان من القيادة أو الشراكة السياسية في البلدان التي برزوا فيها. وأصبحوا تحت حالة من الاجتثاث أو الإضعاف والتهميش والمطاردة. كما حدث في مصر واليمن وتونس وليبيا وغيرها. الواقعية السياسية تقتضي تفهّم الظروف التي يمرُّون بها. فهناك مثلاً نحو ستين ألف شخص من الإخوان وأنصارهم في السجون المصرية منذ 12 سنة. لذلك لا نجد الاخوان في بيئة قادرة على الفعل، وإنما هم الآن في بيئات تحت المطاردة.
– كيف قرأت مواقف الرئيس رجب طيب أردوغان؟
– المدرسة الإسلامية التركية ترجع في تيارها الأكبر إلى الشيخ سعيد النورسي رحمه الله، ومدرسة نجم الدين أربكان هي امتداد لها. وهي مدرسة إصلاحية نهضوية بشكل عام تركّز على الشأن المحلي، وقريبة من فكر الإخوان، وعندما حدث الربيع العربي دعم الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) ذو الخلفية الإسلامية، تيارات التغيير والتيارات الإسلامية.
ولكن دعيني أؤكد أن الحسابات التركية ظلّت تحكمها حساباتها وأولوياتها المحلية الخاصة، باعتبارهم يحكمون ضمن منظومة علمانية، وهم بالتالي لم يقطعوا علاقاتهم مع الكيان الإسرائيلي ولم يخرجوا من حلف الناتو، وظلوا على رغبتهم في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
– ولكن هم حزب بعقيدة إسلامية؟
– حزب العدالة والتنمية لا يُعرّف نفسه أنه حزبٌ إسلاميٌ، وإنما كحزب إصلاحي تركي محافظ ملتزم بسقف وضوابط النظام العلماني ومصالحه.
محسن صالح: قيادة السلطة للأسف ما زالت تعيش في أوهام التسوية، ولكن غالبية الشارع الفلسطيني مع المقاومة، بقاء السلطة ليس ناتجاً عن شرعية شعبية، وإنما بقوة الأمر الواقع، وبسبب الدعم الخارجي، ولو حصلت انتخابات حالياً في الشارع الفلسطيني لفازت حركة حماس وفق استطلاعات الرأي
– أرجو التوضيح، تركيا ساهمت بتدمير سوريا وما تزال تحتل قسماً من أرضها، وتصرّفت على أنها قوة إسلامية تتحكّم بالمنطقة؟
– لا أريد الخوض في تفاصيل من هو المسؤول عن تدمير سوريا، وهم عديدون، لأنني معني هنا أساساً بالحديث عن التفاعل التركي مع فلسطين. النظام الحاكم في تركيا عندما تدخل في سوريا لم يتدخل باعتباره حركة إسلامية أو قوة إسلامية، وإنما بناء على الحسابات الاستراتيجية والمصالح العليا للأمن القومي التركي، وما يراه هو دعماً لإرادة الشعب السوري ومنعاً لقمعه، وكذلك تخفيفاً من تدفق اللاجئين عليه.
– وماذا عن موقف حماس خلال الأزمة السورية؟
– قرار حماس بمغادرة سوريا، لم يأتِ بالتنسيق مع تركيا، وإنما كان قراراً ذاتياً مستقلاً بناء على قراءة موضوعية، تُقدِّر للشعب السوري دعمه للمقاومة وحقه في التعبير عن إرادته الحرة وبعيداً عن النفوذ الخارجي، كما تُقدِّر لنظام الحكم وقوفه مع حماس ودعمه لها على مدى سنوات عديدة؛ وقد رأت حماس أن خروجها هو القرار الأسلم حتى لا تكون طرفاً في الصراع.
– لو أن أربكان في الحكم هل كان ليفعل الشيء ذاته الذي فعله أردوغان؟
– أربكان رحمه الله معروف بالتزامه الإسلامي، ولو كان حيّاً فإني سأتوقع منه سلوكاً أكثر فاعلية وقوة. أما حزب العدالة والتنمية فقد انشقت معظم قيادته عن حزب أربكان، ووسعوا دائرة استيعابهم لرموز وقوى أخرى، وحاولوا أن يكون أكثر تماهياً مع النظام العلماني، حتى لا يتم إقصاؤهم كما حدث سابقاً. وعندما تولوا القيادة كانوا متفاعلين بدرجة محسوبة مع القضايا الإسلامية، بما لا يخالف الخط العام للدولة التركية. وقد تفاعلوا بشكل إيجابي مع “الربيع العربي” باعتبار أن التيارات الصاعدة هي تيارات إسلامية وديموقراطية وتعبّر عن إرادة شعوبها. ولكن عندما تمّ ضرب هذه التيارات، وهيمنت الأنظمة العربية المتماهية مع الخط الأمريكي ومع التطبيع على المنطقة؛ وعندما أخذت تركيا تتعرض لأزمات اقتصادية، وحتى محاولة انقلاب، صار النظام التركي أكثر براغماتية، وعاد ليُطبّع علاقاته مع هذه النظم مثل مصر والسعودية والإمارات، كما طوّر علاقاته مع الكيان الصهيوني. أي أن الحزب الحاكم في تركيا صار مشغولاً أكثر بالهموم المحلية وكيفية البقاء في الحكم.
– واجبهم الأخلاقي والإنساني ألا يستدعي قطع الإمدادات الغذائية عن إسرائيل؟
– نعم، هناك حالة صدمة وأسف لأن الموقف التركي الرسمي تراجع عن الموقف المعتاد، واكتفى بالموقف السياسي العاطفي.
– عاطفي متأخر!
– تركيا رابع أكبر شريك تجاري مع الكيان الصهيوني سنة 2022، وخامس أكبر شريك سنة 2023، والشراكة التجارية تجاوزت 8 مليارات دولار سنوياً. أظن أنه كان ينبغي لتركيا أن يكون لها كدولة وازنة في المنطقة وفي العالم الإسلامي أدوار غير مقتصرة فقط على المواقف السياسية، وأردوغان ربما كان عليه أن يضرب يده على الطاولة، باعتباره رئيس دولة إقليمية محورية، في ما يتعلق بوقف العدوان على غزة، وبما يتعلق بالقدس، وكسر الحصار.
– مَن مِن الدول الإسلامية التي تتشابه مواقفها مع موقف أردوغان؟
– الموقف التركي موقف يحسب له الحساب لأنه يمثل دولة كبيرة في الشرق الأوسط مثل إيران ومصر، ويصعب إيجاد حالات مشابهة لتركيا من الناحية الجيوسياسية. مثلاً، في المغرب خسر حزب العدالة والتنمية هناك، ولم يعد يؤثر في سياسات الدولة السائرة في قطار التطبيع. بينما إندونيسيا وماليزيا فإن التفاعل الشعبي فيها كبير، وموقفها الرسمي معقول، لكنها دول بعيدة عن مركز الصراع في المنطقة.
– هل تخشى على المقاومة في فلسطين خصوصاً إذا تم مشروع التهجير؟
– أنا لا أخشى على المقاومة ولا على الشعب الفلسطيني، وقد تعرضت المقاومة لمحاولات اجتثاث عدة مرات في العقود الماضية، وكانت تخرج أقوى في كل مرة، ولدينا الانتفاضة المباركة 1987-1993 وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وخرجت حماس والمقاومة منتصرة من أربع حروب على قطاع غزة في سنوات 2009، 2012، 2014، و2021.
محسن صالح: الحسابات التركية ظلّت تحكمها حساباتها وأولوياتها المحلية الخاصة، باعتبارهم يحكمون ضمن منظومة علمانية، وهم بالتالي لم يقطعوا علاقاتهم مع الكيان الإسرائيلي ولم يخرجوا من حلف الناتو، وظلوا على رغبتهم في الانضمام للاتحاد الأوروبي
الآن المؤامرة كبيرة وهائلة بفعل الضربة القاصمة التي تلقاها الكيان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. أداء المقاومة على الأرض حتى الآن مذهل، وما يزال العدو يتلقى ضربات قاسية بعد خمسة أشهر من عدوانه، وهناك حالة الخلاف والاختلاف داخل الكيان الصهيوني، ثم إن صمود أهلنا في غزة فاجأ العدو، وهناك في شمال غزة ما يزال مئات الآلاف صامدين، كما أن أهل غزة بطبيعتهم إذا خرجوا يعودون، حتى لو اضطر الآلاف مثلاً للخروج المؤقت للعلاج أو الدراسة أو العمل، فستبقى عيونهم على غزة والإصرار في حقهم في العودة إليها. ومنذ 1953 ومشاريع تهجير أهل غزة موجودة وقائمة لكنها سقطت كلها، وستسقط أي مشاريع تستهدف تهجير أهل غزة أو أبناء فلسطين.
– ما هو الأسوأ الذي تخشاه؟
– الأسوأ الذي أخشاه أن تتوقف المقاومة. إن عزة الأمة وكرامتها ونهضتها مرتبطة بالمقاومة ومواجهة العدو الصهيوني. وكثرة الشهداء والتضحيات ضريبة العزة والنصر والتحرير، أما الذي نخشاه فهو ضريبة الذل الذي تعاني منه أمتنا. إن صمود هذا الشعب ومقاومته في كل السنوات والحروب السابقة هو من مبشرات الانتصار. وأهل غزة صابرون، وصاروا مدرسة عالمية في العزة والصمود، وأصبحوا مصدر إلهام للأمة وللعالم في الثورة على الظلم وانتزاع الحقوق.
– أين تجد أغلبية الشارع العربي اليوم؟
– هناك استطلاع رأي أجراه المركز العربي لدراسة السياسات في الدوحة في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وقد أظهر أن البيئة العربية بنسبة 89 بالمئة ضد التطبيع، كما أظهر أغلبية ساحقة مؤيدة للمقاومة. لكن الأنظمة الرسمية، وربط ضمانات بقائها مع الأمريكان والإرادة الخارجية يمثل القشرة السطحية لمنظومة مصالح لا تُعبّر عن إرادة الشعوب.
– كيف يمكن تحقيق “مأسسة التأثير” هذا المصطلح الجديد الذي ذكرته في أحد مقالاتك؟
– ثمة مسؤولية على عاتق الحركات الإسلامية وحركات الإصلاح والتغيير بأن تُبادر إلى مراجعة أدائها، وأن تنتقل من التفاعل الموسمي إلى التفاعل المنهجي المستمر مع قضايا الأمة، وأن تخرج من القيود القطرية إلى روح الأمة الواحدة، ومن فقه غير ذات الشوكة إلى فقه ذات الشوكة، وأن تعيد تعريف حدود “الاستطاعة” التي أمرها الله بها، من حيث بذل الوسع وتحمل المسؤولية بقوة وفعالية.
– هل بدأت حركة الإخوان المسلمين بإجراء مراجعة على مستوى قيادتها العالمية؟
– لست متأكداً، لكن أتوقع أن هناك مراجعات تحدث بعيداً عن الإعلام خصوصاً أنهم يعيشون في بيئات صعبة، وهم في حالة مطاردة. وإن شاء الله تكون مراجعات مثمرة. الزلزال الذي أحدثه طوفان الأقصى لن يقتصر تأثيره على الإخوان وعلى الاتجاهات الإسلامية، وعلى القوى الحية في الأمة، بل سيشمل الأمة بشكل عام. وسيكون الطوفان حالة إلهام، وما صنعه الإنسان في غزة سيكون نموذجاً يحتذى به عربياً وإسلامياً وعالمياً.
– وماذا عن الانقسام الفلسطيني الداخلي؟
– قيادة السلطة للأسف ما زالت تعيش في أوهام التسوية، ولكن غالبية الشارع الفلسطيني مع المقاومة، بقاء السلطة ليس ناتجاً عن شرعية شعبية، وإنما بقوة الأمر الواقع، وبسبب الدعم الخارجي، ولو حصلت انتخابات حالياً في الشارع الفلسطيني لفازت حركة حماس وفق استطلاعات الرأي.
ولكن بشكل عام، أثبتت معركة طوفان الأقصى أنه لا يمكن تجاوز إرادة الشعب الفلسطيني، وأن خط المقاومة هو الذي يُعبّر بصدق عن إرادة هذا الشعب، بل وعن إرادة الأمة، وعن كل إنسان حرّ يحمل معاني الحرية والعزة والعدالة.