أصبح التفكير السائد أنه لا بدّ للمرء من أن يجد حالة يتصرّف من خلالها كأنه موجود بغير كثير اهتمام بالواقع السياسي والاجتماعي، وخاصة الاقتصادي، لما في ذلك من علاقة بحياته اليومية. لذا، أصبح قانعاً منها بما تيسّر. لم يعد يتطلّع للأفضل، ولم تعد تطلعاته مصدر قلق لسلطة الاستبداد التي اعتبرت أنها استطاعت تدجين هذا المواطن، وأنها اكتسبت شرعية دون مشروعية، وحتى بمشروعية تناقض ما اعتاد الناس على أن تكون عواطفهم.
مع الوقت، صار الناس كتلاً بشرية دون إرادة، فهذه الأخيرة هي ما يحتفظ به الحاكم ويمليه على الناس. من الطبيعي في هذه الحالة أن يتسابق الناس الى أن ينعزل كل واحد منهم في قوقعة تصير هي عالمه؛ وأن تلحق النخب الثقافية بأنظمة الاستبداد من أجل كسب لقمة العيش.. وفي كل الأحوال الاندراج في دين جديد يغني عن البحث والسؤال والطلب.
لم يجد المواطن، بالأحرى الكومة البشرية التي تُسمى مواطن، سوى شذرات من الدين، يمضي معها بقية حياته. الدين صار مقياس أو مرجعية كل الأفعال البشرية، وما بقي من الحياة إلا النزر اليسير للتواصل والعيش مع الآخرين. تفاقم وهن الجماعة. وما عادت تملك من زخمها شيئاً. هو إنكار لا للبرهنة على شيء بل على أي شيء؛ يشيح ما تبقى من المواطن وجهه كي لا يرى أحداً وكي لا يراه أحدٌ. هناك إنكار للحياة العامة (لا الحزبية) ولا اعتراف بها. المهم أن تأتي للمواطن أقل كمية ممكنة من تعليمات السلطة وتوجيهاتها، كي يفهم ما فيها ويُنفّذ دون أن تطاله أجهزة الأمن. فهو يعرف تماماً جزاء كل مخالفة.
فقد المواطن جذوته لقاء هذا الإنكار. ذوت الحياة الثقافية وصارت المعلومات تتدفق من شاشة التلفزيون لا من القراءة، فتراجعت صناعة الكتب. تراجعت القراءة إلا بعض الكتب التراثية يُعيدها القارئ على أنها الحقيقة. وعلى كل حال هناك حقيقة واحدة وهي الحقيقة المقدسة في الكتاب المقدس، حتى صار هو الكتاب الوحيد، يضاف إليه كتب الحديث والتفسيرات التي لا علاقة لها بالحياة المعاصرة. غابت عنه ثقافة العصر وصار موقفه منها سلبياً، ليس لأنه يعرفها بل لأنه يجهلها. فقد غاب الإبداع وانتهى السؤال. فكل شيء له جواب في الكتب التراثية. وهو على كل حال مضطر الى أن يستورد ويستهلك منتجات الحداثة بحكم الضرورة، دون أن يؤثر ذلك في أفكاره.
اختفت ثقافة الأسئلة. لم يعد السؤال كيف تصنع الأشياء (العالم الحديث)، بل كيف تستخدم منتجاته (التكنولوجيا وثقافة الاستهلاك). تؤدي ثقافة السؤال إلى زعزعة الحاضر، وتفتح الآفاق لأجوبة جديدة، تكون هي في جوهر التطور الثقافي، بتجاوز القديم وتلقف الحديث. لم يخترق العلم الحديث وعي هذا المواطن بل بقي متصلباً مع الأجوبة القديمة على أسئلة قديمة؛ فالأسئلة الجديدة غير مرغوبة في الدين الجديد، الدين السياسي السائد، ولا لدى أنظمة الاستبداد، خاصة أنها شددت ضغطها على الوعي بفعل الثورة المضادة. سؤال الـ”لماذا” هو أساس العلم الحديث. وسؤال الـ”كيف” هو سؤال التكنولوجيا التي تستند الى العلم الحديث. نحن في مجتمعات استهلاك لا يهمها الـ”لماذا” بل الـ”كيف” لما يسهّل ذلك من أمور الاستهلاك.
أما التصلّب العقيدي، وهو يشتمل على كل ما يرد في أمور السياسة والمجتمع والدين، وحتى العلم، فإن معناه التوقف عند رأي لا محيد عنه. مع التوقف عن سؤال الـ”لماذا”، الذي يستدعي الكثير من الشك والقلق، ترتاح النفس الى ما تفكر به أو لا تفكر به، الى ما هو معلن للظاهر وما هو مكبوت. فإن النفس تستريح الى ما عندها من آراء، وتصديق أو عدم تصديق ما يرد. ولا تريد المزيد، فلا يتراكم الكم المعرفي. وفي الواقع تتحجّم المعرفة الى ما هو مُدْرك مسبقاً. هذا هو “العقل المستريح”، الذي لا يريد أن يُتعب نفسه بالأسئلة وما يتبعها من شكوك، خوفا من أن تظهر من الآراء ما يمكن أن يُعرّض أصحابها الى ما لا تُحمد عقباه لدى الاستبداد السياسي والدين. فالدين السياسي لديه الحل والجواب لكل ما يريد، والاستبداد السياسي يفرض أجوبة لقاء كل سؤال. والواحد منهما يغذي الآخر في البنية العقلية حتى ولو تقاتل أصحابهما، وغالباً ما يتصارع أصحابهما في سبيل السلطة.
التصلب العقيدي هو ما ينتج عن قراع أفكار بأفكار دون أن تكون الظروف الموضوعية هي مصدرها. الذات تُفكّر بالذات ولولا ذلك لما كانت المعرفة؛ الذات التي تفكّر بالذات غالبها تأمل وكلها استنباط، أي توليد أفكار من أفكار، لكن ما لم تُفكّر الذات خارجها لما تبدت إمكانية التجديد والإبداع والتطوير. وما يُحكى عن تجديد الخطاب الديني معنيٌ بتوليد أفكار من أفكار معطاة أو ما يسمى الاجتهاد، وهذا ما فيه من فائدة عن الخروج إلى العالم الأوسع
هناك اعتقاد دائم بالتفوّق على الآخرين، ولا بدّ لأصحاب هذه الرؤية من نصر حتى ولو كان هزيمة. تحتاج العامة الى هذا الشعور فتغذيها به النخب المناضلة. وهي في واقع الأمر علاقة فاسدة بين الذات والموضوع، إذ تنبع الحقائق من الذات، ولا يُستدل عليها من الموضوع. تتلاشى الموضوعية أمام الذاتوية، فتصير الحقائق مُمْلاة من الذات كما تُملى، هي أو غيرها، من السلطتين السياسية والدينية. ينسحب الاستبداد الديني والسياسي على الوعي، فيصير إنتاجه من الذات لا من التفاعل بين الذات والموضوع، كله أو معظمه. لدى الناس كما لدى أهل السلطتين، وإن اختلفت التفاصيل، بنية ذهنية واحدة، توزع نماذجها على عقول مختلف الأطراف، حتى المتنازعة للوصول إلى “العقل المستريح”؛ كل راض بما عنده!
التصلّب العقيدي لا يختص به دين أو مذهب أو حزب أو طائفة أو أمة أو إثنية، بل هو عام عند الجميع؛ وهو ربما وصل في توكيده أولوية الذات على الموضوع الى إهمال هذا الأخير بحيث لا يبقى إلا هو ذاتاً منتفخة متعالية مستعصية على الحوار والسياسة، التي لا يستقيم أمرها، وهو ليس ضرورياً أن يستقيم، إلا بالحوار والاعتراف بأن الآخر يملك بعضاً من الحقيقة، وبالتالي يتوجب على “الأنا” التواضع والتخلي عن الاعتقاد بأن الحقيقة عنده وحده، بل هي عند الجميع ونسبيتها لا تُغيّر بل تُقلّل من انتفاخ الذات عند صاحبها. يتوجب على المرء الاعتداد بالنفس دون الكبرياء التي غالباً ما يصل صاحبها الى أن يصبح موضع سخرية لدى الآخرين. التكبّر والاستعلاء نقيضا التواضع والموضوعية. التواضع والامتناع عن التصلّب العقيدي هما وحدهما (ويمكن التعبير عن الأمر نفسه بألفاظ شتى) لب السياسة والاعتراف بالآخر. والسياسة غير ممكنة إلا بالاعتراف المتواضع أننا كأفراد وجماعات يمتلك كل واحد منا جزءاً من الحقيقة، لا كلها، مما يُوجِد التعددية لتكتمل الحقيقة بالجميع ويصير المجتمع حاملاً لإمكانية أن نعيش سوية.
قيل بوجوب السعي في سبيل الإحكام، وهذه يجب أن تصدر عن معرفة، وأن من سعى فقد اجتهد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. والسعي لا بدّ منه، والاجتهاد هو ما يصدر عن العقل، سواء الديني وغير الديني. والديني متعلّق بمسائل الإيمان وحسب. وفيما عدا ذلك يتعلّق بمسائل الدنيا. والله مصدر كل شيء من حيوان أو جماد؛ إذ لا يمكن فصل الديني عن الدنيوي. لكن الإيمان علاقة بالخالق، والدنيا علاقة أو علاقات بأمور الدنيا. والعبّد ينفّذ مشيئة الإله في كل شيء، شراً كان أو خيراً، وأن الدنيا تتعلّق بالخير والشر. والشر مخلوق مع الدنيا. والإنسان عليه أن يُميّز بين الخير والشر. ففي هذا التمييز دور العقل؛ وفي التمييز لا خيار إلا بين ما هو معطى من الله ومعطى آخر. كلاهما من خلق الإله. فالعقل لا يتعلّق بإرادة تبدع. إذن فالإرادة إما أن تكون مخلوقة مع الإنسان أو هي من صنعه. وإذا كانت مخلوقة مع الإنسان فهي مخلوقة مع الفعل، والأفعال مخلوقة مع الخلق، فلا يبقى للإنسان إلا أن يُميّز بين أمرين ليسا من صنعه، إلا بما هو مناط، أو بالأحرى مُملى من غيره، فلا بدّ من التسليم.. والتسليم خضوع.
يؤدي بنا هذا النوع من الحجاج إلى السفسطة، أي النقاش، ولو ببراءة، لكنه يعود بنا الى نقطة البداية، وهي ما كان يمكن الانطلاق منه والبناء عليه.
التصلب العقيدي هو ما ينتج عن قراع أفكار بأفكار دون أن تكون الظروف الموضوعية هي مصدرها. الذات تُفكّر بالذات ولولا ذلك لما كانت المعرفة؛ الذات التي تفكّر بالذات غالبها تأمل وكلها استنباط، أي توليد أفكار من أفكار، لكن ما لم تُفكّر الذات خارجها لما تبدت إمكانية التجديد والإبداع والتطوير. وما يُحكى عن تجديد الخطاب الديني معنيٌ بتوليد أفكار من أفكار معطاة أو ما يسمى الاجتهاد، وهذا ما فيه من فائدة عن الخروج إلى العالم الأوسع.
وتحسب أنك جرم صغير/ وفيك انطوى العالم الأكبر
لن ينطوي فينا العالم الأكبر ما دام شأننا التصلّب العقيدي والخوف على منطلقاتنا والحرص على أن لا نخطئ. في الخطأ الناتج عن سعي صادق فضيلة، وله أجر. لن يستقيم أمر العقل دون التجريبية، وهي ببساطة الشك وخوض تجربة الخطأ والصواب. ولا يكون حظنا من التقدم شيئاً دون التجريبية والخوض مع الخطأ والصواب والابتعاد عن القداسة، سواء كانت لنا أو لغيرنا. تقديس أمر ما هو رفعه فوق منزلة ما يمكن تجريبه. هو حقيقة بعينها أو ما يرفع فوق مستوى الحوار والنقاش. لقد كثرت مقدساتنا وقاربت مناقشاتنا من الانعدام.
نبقى نحن والعلم الحديث على طرفي نقيض. ولو استهلكنا ما شئنا من التكنولوجيا الحديثة. نحتفظ بإجلال العلم الديني، وكل ما غيره من موروث على أنه مقدس، علما بأننا لا نتقدم ونكتسب أسباب القوة دون الخروج من التراث والتقديس.
لن تنقذنا مقدساتنا من الهزيمة. تعبئة المجتمع على غير ما هو عليه بالعلم والإنتاج والتفكير العقلاني هي العامل الحاسم في عالم مضطرب، وحروب تشن علينا دون هوادة. الدين ليس كل الثقافة، والعقلانية تتطلّب أكثر مما هو تجديد خطاب ديني، بل الخروج منه إلى العالم، واعتبارنا جزءاً منه آخذين بثقافته (الثقافة العالمية)، معادين للنظام (الرأسمالي) القائم على الاستغلال والحرب.
نحن ننكر واقعنا ونعيش في عقيدة متصلبة ولا نقبل الجدل.