في توقيت مريب صَدَمَ البيت الأبيض، نشر نتنياهو رسالة مرئية ومسموعة، باللغة الانكليزية، مُوجّهة إلى الرأي العام الأميركي، يوم الثلاثاء الماضي، مُتهماً فيها إدارة بايدن “بحجب الأسلحة عن إسرائيل بينما هي تخوض معركة وجودية”. هذا الاتهام لن يكون الوحيد، إذ يتوقع مراقبون كثيرون أن ينقضّ نتنياهو على بايدن، في الخطاب الذي سيُلقيه في 24 تموز/يوليو المقبل أمام الجلسة المشتركة للكونغرس.
واللافت للانتباه أن كل ما قام به بايدن منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر لحماية إسرائيل، ولا سيما إعادة ارسال أساطيل بلاده إلى المنطقة لمنع انخراط قوى وحكومات في المعركة إلى جانب حركة “حماس”، لم يكن كافياً بالنسبة إلى نتنياهو، الأمر الذي أدهش الناطقين باسم الإدارة الأميركية وتركهم في حيرة، لم تحل دون إعادة تذكيرهم بما فعله الرئيس الأميركي، من المسارعة إلى زيارة إسرائيل بعد عشرة أيام من أكبر اخفاق لها منذ تأسيسها عام 1948، إلى الجسور الجوية التي حملت عشرات آلاف القنابل والأسلحة المختلفة، إلى المشاركة في المعلومات الاستخباراتية والحماية الديبلوماسية في المنابر الدولية وتحديداً في مجلس الأمن، من قرارات تدعو إلى وقف النار الفوري للحرب. وليلة 13-14 نيسان/أبريل الماضي، تدخلت الولايات المتحدة بقوة لحماية إسرائيل من عشرات المُسيّرات والصواريخ التي أطلقتها إيران، رداً على اغتيالها القائد البارز في “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد رضا زاهدي في غارة على القنصلية الإيرانية بدمشق في الأول من نيسان/أبريل الماضي. زدْ على ذلك الزيارات المكوكية لكل من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومدير الإستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز وغيرهما من كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض.
وفقط الإثنين الماضي، تغلب بايدن على معارضة الكونغرس لأكبر شحنات الأسلحة لإسرائيل بما يصل إلى 18 مليار دولار هي عبارة عن صفقة مقاتلات “إف-15”. هذا عدا عن 14 مليار دولار أخرى كانت جزءاً من صفقة تضم مساعدات لأوكرانيا وتايوان في آذار/مارس الماضي. وهناك مباحثات لتزويد إسرائيل بـ50 طائرة “إف-35”.
الشحنة الوحيدة التي عُلّقت (ولم تلغها إدارة بايدن) هي تسليم 3500 قنبلة من زنة 200 باوند و500 باوند في أوائل أيار/مايو الماضي، خشية استخدامها في الأماكن السكنية في قطاع غزة بعد اطلاق الجيش الإسرائيلي هجوم رفح.
كلُ هذا الدعم المطلق الذي وفّره بايدن لإسرائيل يُعتبر في مقياس كل المتابعين، هو الأكبر على الاطلاق الذي يُقدّمه رئيس أميركي للدولة العبرية منذ 1948، حتى أن أحد الديبلوماسيين الأوروبيين لم يتردد في القول إن بايدن “هو الرئيس الأكثر إسرائيلية في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية”.
منذ الأشهر الأولى للحرب، ترك بايدن رئيس وزراء إسرائيل يتلاعب به ويتملص من القبول بوقف الحرب، مما أفقد الرئيس الديموقراطي دعم الجناح التقدمي في حزبه وأصوات الأميركيين من أصل عربي. وكل استطلاعات الرأي التي تجريها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، تمنح ترامب تقدماً بنسبة إثنين ومن واحد في الولايات المتأرجحة
إذن، إلامَ يرمي نتنياهو من وراء هذا الجحود ونكران الجميل؟
يُحيلنا هذا السؤال إلى اللقاء الذي عقده نتنياهو في أيار/مايو الماضي مع مبعوثين أوفدهم ترامب إلى إسرائيل برئاسة مستشار الأمن القومي السابق روبرت أوبراين. وأوبراين، الذي سبق وعمل مستشاراً لدى السناتور الجمهوري ميت رومني، مرشحٌ ليكون وزير الخارجية في إدارة دونالد ترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
ويسبر رئيس تحرير موقع مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية جاكوب هيلبرون، في مقال له في 19 حزيران/يونيو الجاري، أغوار أفكار براين للسياسة الخارجية، فيُشير إلى أنه سيُقنع ترامب بالمضي على خطى رونالد ريغان، من حيث السعي إلى إحياء القوة الأميركية في الداخل والخارج.
ويرى براين، بحسب هيلبرون، أن ثمة تراخياً خطيراً في الأهداف الأميركية في الشرق الأوسط، ويُحمّل إيران مسؤولية الحرب بين إسرائيل و”حماس”. ولذلك، يدعو إلى “العودة إلى حملة الضغط الأقصى على إيران”، وإلى منح إسرائيل “شيكاً على بياض لسحق حماس”، معتبراً أن ذلك “سيؤدي إلى السلام والاستقرار في المنطقة”، ويؤكد أن “السياسة الأميركية في المنطقة يجب أن تُركّز على النظام الإيراني، باعتباره في نهاية المطاف اللاعب الخبيث المسؤول عن الإضطراب والقتل”.
يتطابق ما يدعو إليه أوبراين مع ما يدعو إليه نتنياهو منذ مجيئه للمرة الأولى إلى الحكم عام 1996، أي التركيز على “الخطر الإيراني”، مُنكراً وجود قضية فلسطينية أو حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
ونتنياهو الذي يلعب على التناقضات في كل من تل أبيب وواشنطن ويُمدّد الحرب قدر المستطاع لتفادي المساءلة عن اخفاق 7 تشرين الأول/أكتوبر، يرى أن ورقته الكبرى هي عودة ترامب إلى البيت الأبيض، كي يتسنى له ترميم شعبيته في إسرائيل وخوض انتخابات مبكرة تُعيده إلى رئاسة الوزراء مجدداً، ولا سيما أن استطلاعات الرأي التي تُجريها صحيفة “معاريف” دورياً، أظهرت في وقت سابق من الأسبوع، أن نتنياهو تمكن من سد الفجوة مع الوزير السابق في مجلس الحرب بيني غانتس. وتبين أن 42 في المئة يؤيدون أداء غانتس بينما 37 في المئة يؤيدون نتنياهو، وتقلص الفارق إلى مقعد واحد بين حزب الوحدة الوطنية وحزب الليكود (23-24).
وتأتي هذه النتائج لِتُظهر التراجع المستمر في شعبية غانتس، لمصلحة معارضين آخرين، وذلك بعدما كانت استطلاعات الرأي في شهر كانون الأول/ديسمبر 2023 أعطت حزبه حوالي الأربعين مقعداً، أي أكثر من ثلاثة أضعاف قوته (12 مقعداً)، فيما هبط الليكود، وقتذاك، من 32 مقعداً إلى 18 مقعداً.
وأظهرت استطلاعات رأي قبل أسبوع حول من هو الأكثر ملاءمة لرئاسة الوزراء أن غانتس حصل على 54% مقابل 46% لنتنياهو. ونال المعارض نفتالي بينيت 52% مقابل 48% لنتيناهو، وحصل رئيس حزب “يسرائيل بيتنا” (حزب اليهود الروس) أفيغدور ليبرمان على 35% مقابل 37% لنتنياهو، وقال ربع المشاركين في الاستطلاع إنهم لا يثقون بالمرشحين الأربعة لرئاسة الحكومة.
وفي حسابات نتنياهو أن بقاء بايدن لولاية ثانية ربما يُضعف موقعه في إسرائيل ويقوي موقف غانتس والأحزاب الأخرى المناوئة له، في حين أن عودة ترامب تعني ضمان نتنياهو البقاء لأربعة أعوام أخرى على الأقل في رئاسة الوزراء.
وهذا ما لم يعه بايدن منذ الأشهر الأولى للحرب، عندما ترك نتنياهو يتلاعب به ويتملص من القبول بوقف الحرب، مما أفقد الرئيس الديموقراطي دعم الجناح التقدمي في حزبه وأصوات الأميركيين من أصل عربي. وكل استطلاعات الرأي التي تجريها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، تمنح ترامب تقدماً بنسبة إثنين ومن واحد في الولايات المتأرجحة التي ساهمت عام 2020 في إيصال بايدن إلى البيت الأبيض.
يرى نتيناهو أن ورقته الكبرى هي عودة ترامب إلى البيت الأبيض، كي يتسنى له ترميم شعبيته في إسرائيل وخوض انتخابات مبكرة تُعيده إلى رئاسة الوزراء مجدداً
ذروة الحملة التي بدأها نتنياهو على بايدن ستبلغ ذروتها في خطابه أمام الكونغرس قبل نهاية شهر تموز/يوليو المقبل. وأكثر من أدرك الخطأ الذي ارتكبه الديموقراطيون بقبولهم اقتراح رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون دعوة نتنياهو إلى الكونغرس، كانت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي التي أنّبت رئيس الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز على موافقته على الدعوة، التي ستزيد العقبات أمام انتخاب بايدن لولاية ثانية.
وأتت استقالة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الفلسطينية – الإسرائيلية أندرو ميلر من منصبه، تعبيراً عن مزيد من الاستياء داخل إدارة بايدن من السياسة الأميركية التي تنتهجها الإدارة حيال غزة.
في المحصلة، لا يختلف بايدن ونتنياهو على الأهداف من وراء حرب غزة، لكنهما يختلفان على تصور كل منهما لما يُسمى “اليوم التالي” في غزة وأيضاً على مسألة التوقيت، فكلما اقترب موعد الإنتخابات الأميركية، كلما ارتفع منسوب التباين الأميركي الإسرائيلي، في ظل رغبة واشنطن باطلاق دينامية مختلفة عن دينامية أثبتت، على مدى تسعة أشهر، أنها لن تكون كفيلة لا بسحق “حماس” ولا باطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ولا بناء ما يُسمى “الشرق الأوسط الجديد”.