فرنسا إلى “مساكنة غير لطيفة” بين ماكرون.. وبارديلا

عندما قرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية، إنما قرّر أن ينظر فقط إلى الساحة الداخلية، لينقلب السحر على الساحر. نعم، انقلبت السياسة الداخلية رأساً على عقب ولكن ليس لمصلحة الأكثرية التي كانت تلتف حول ماكرون.

بعد أن ظهرت مؤشرات تدل على انهيار حزب ماكرون واحتمال حصول اليمين المتطرف على أكثرية مطلقة في البرلمان، وبغض النظر عن «الثورة» التي يُحضّر لها اليمين المتطرف، ولا سيما على الصعيد الإجتماعي، بدأت تتسلل من بين خيوط ضباب الفوضى التي أسدلها ماكرون على فرنسا أسئلة وتساؤلات حول دور فرنسا ودبلوماسيتها على المستوى الدولي. أسئلة تستثير حكومات عديدة في كافة القارات وبدأت بالفعل بإضعاف صوت باريس في أوروبا ومختلف أنحاء العالم.

لنبدأ من عند السيناريو شبه اليتيم الذي ستحمله إلينا الإنتخابات التشريعية المسبقة المقررة غداً (الأحد)؟

في حال حصول اليمين المتطرف على أكثرية تسمح له بإرسال «جوردان بارديلا» (Jordan Bardella) إلى رئاسة الحكومة، تكون المسألة بحق قفزة في المجهول على الأصعدة كافة. هكذا احتمال، أي وصول بارديلا إلى ماتينيون (Matignon) قصر رئيس الوزراء، في أعقاب الانتخابات التشريعية، يجعل الدبلوماسيين في وزارة الخارجية يتصببون عرقاً بارداً، كذلك الأمر بالنسبة لكبار موظفي وزارة الدفاع. وفي سياق مختلف فإن وكالات تقييم الملاءة بدأت تضع باريس تحت مجهر رقابة لصيقة.

ومع ذلك، إذا تحقق هذا السيناريو، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها فرنسا فترة «مساكنة» (cohabitation): كان هذا هو الحال في ثلاثة عهود رئاسية: فرانسوا ميتران (رئيساً) وجاك شيراك (رئيس حكومة)؛ فرانسوا ميتران (رئيساً) وإدوار بالادور (رئيس حكومة) وأخيراً مساكنة دامت ثلاث سنوات بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الحكومة ليونيل جوسبان.

ولكن «التجمع الوطني» RN ليس من الطاقم السياسي الكلاسيكي. حتى سنوات قليلة ماضية كان منبوذاً من كافة القوى السياسية، وجماهيره ترى انه حان وقت «الانتقام». أضف إلى أن نقص الممارسة السياسية سيكون عامل توتر في حال الوصول إلى لحظة المساكنة القسرية.

وقد بدأت طواقم “التجمع الوطني” RN ببث بعض العناوين لما يعتزم فريق مارين لوبان القيام به في حال حصول المساكنة.

لم يعد ماكرون قادراً على اتخاذ قرارات، كما كان يفعل من دون تشاور مع حكوماته، كحال تعامله مع الأزمة الأوكرانية وإرسال أسلحة ومدربين إلى كييف. في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية واحتمال فوز اليمين المتطرف، لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك من دون التشاور مع رئيس الوزراء، ذلك أن مبيعات الأسلحة يجب المصادقة عليها من قبل «الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني»

ومن المعروف في فرنسا أن الدبلوماسية والجيش (السياستان الخارجية والدفاعية) بعهدة رئيس الجمهورية حصراً؛ فهو من يتكلم باسم فرنسا وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلا أن الأمور ليست بهذه السهولة، ففي المساكنات السابقة تم التنسيق بشكل «مهذب» فكان ميتران يسافر برفقة شيراك ويجلسا سويةً على الطاولة ولكن الرئيس ميتران هو المتكلم.. وحصل هذا أيضاً بين شيراك الرئيس وجوسبان رئيس الحكومة.

السبب هو التباس في نص الدستور الفرنسي الذي برغم تأكيده أن رئيس الجمهورية له السلطة العليا على الدبلوماسية والجيش، إلا أن مواد الدستور تقول أيضاً إنّ مجلس الوزراء يُقرّر سياسة الدولة، ويضع ميزانية الإدارات ومنها وزارة الخارجية ووزارة الدفاع. وبالطبع يكون للرئيس الحق في رفض توقيع مراسيم تعيين لوزيري الخارجية والدفاع في حال وجد أنه لن يكون من السهل أن يتلاءم عمله معهما.

والمرجح أن “التجمع الوطني” لن يكتفي بهذه المساكنة «اللطيفة»؛ فقد صرّحت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان (Marine Le Pen) أن منصب قائد القوات المسلحة بالنسبة لرئيس الجمهورية هو لقب فخري لأن رئيس الوزراء هو الذي يُمسك بزمام الأمور، وتابعت أن إرسال قوات (فرنسية) إلى الخارج هو من اختصاص رئيس الجمهورية، ولكنّ رئيس الوزراء، يستطيع، من خلال الموازنة، معارضة ذلك بالوسائل الدستورية المناسبة. كذلك الأمر بالنسبة للسياسة الخارجية التي هي مسؤولية «الكي دوسيه» Quai d’Orsay، الذي يُقدّم تقاريره إلى الحكومة، وبالتالي إلى رئيس الوزراء. وما غاب عن بال لوبان أن الحقيبة النووية لا تُطيع إلا «أصبع ماكرون».

عملياً؛ لم يعد إيمانويل ماكرون (Macron) قادراً على اتخاذ قرارات، كما كان يفعل من دون تشاور مع حكوماته، كحال تعامله مع الأزمة الأوكرانية وإرسال أسلحة ومدربين إلى كييف. في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية واحتمال فوز اليمين المتطرف، لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك من دون أن يتشاور مع رئيس الوزراء، ذلك أن مبيعات الأسلحة يجب المصادقة عليها من قبل «الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني» (SGDSN)، التي تقع تحت سلطة رئيس الوزراء.

إذاً على رئيس الدولة ورئيس الوزراء توزيع الأدوار بينهما، فرئيس الجمهورية يتفاوض ويُصادق على المعاهدات ويُعيّن السفراء ويُمثّل البلاد في القمم الدولية، بينما يُصادق رئيس الوزراء على ميزانيات كل هذه المبادرات في الخارج.

إقرأ على موقع 180  واشنطن تبحث عن "صفقة كردية" في سوريا والعراق

وماذا عن أهم العناوين الدبلوماسية التي تشهد تناقضاً في المواقف بين ماكرون و”التجمع الوطني” في حال حصول الأخير على أكثرية تسمح له بالحكم؟

أولاً؛ الحرب في أوكرانيا:

ماكرون هو الداعم الرئيسي لأوكرانيا، وقد وعد كييف بدعم مالي كبير وبتقديم طائرات وأسلحة وذخائر. وهي وعود يصفها اليمين بأنها «فارغة»، علماً أنه يستبعد عضويتها في الاتحاد الأوروبي.

جوردان بارديلا هو وريث “حزب الجبهة الوطنية” السابق المؤيد تاريخيًا للكرملين. يريد الرجل الحفاظ على الدعم العسكري لأوكرانيا، ولكن مع وجود خط أحمر: عدم إرسال صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تضرب الأراضي الروسية. كما أنه يرفض إرسال جنود فرنسيين إلى أوكرانيا.

ثانياً؛ الحرب في غزة:

الحرب بين إسرائيل وحركة حماس هي الموضوع الجيوسياسي الرئيسي الذي احتل حيزاً بارزاً في المعركة الانتخابية لأسباب عدة. وقد لعب على هذا الحبل كل من ماكرون واليمين المتطرف بهدف إضعاف «الجبهة الشعبية الجديدة» (NFP) وخصوصاً «فرنسا الأبية» (LFI) وزعيمها المخضرم جان لوك ميلانشون (Jean Luc Mélanchon). وحتى ضمن “الجبهة”، يُمكن القول إن الموضوع شائك ومعقد، بسبب حملة ميلانشون في الأشهر الأخيرة على إسرائيل إلى درجة اتهامه ومعه كل اليسار الفرنسي بمعاداة السامية.

بالطبع غابت إدانة المجازر الإسرائيلية عن قاموس اليمين المتطرف الذي لبس ثوباً جديداً في مجال محاربة اللاسامية. في المقابل، تمايز ماكرون فقط بالمطالبة بوقف إطلاق النار وكان موقفه داعماً لإسرائيل منذ اللحظة الأولى لـ7 تشرين الأول/أكتوبر. الماكرونيون لا يريدون الاعتراف بفلسطين “الآن”، لكنهم يدعمون حل الدولتين. في حين أن فلسطين غائبة كلياً عن برنامج اليمين المتطرف الذي دعمَ إسرائيل منذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى يومنا هذا.

إذاً لا خلاف كبيراً بين ماكرون وبارديلا حول مسألة غزة، فالفريقان يدعمان إسرائيل من دون أدنى تردد.

ثالثاً؛ الاتحاد الأوروبي:

انتقد “التجمع الوطني” اليميني منذ سنوات التزامات فرنسا في الاتحاد الأوروبي وفي برامج القوانين الأوروبية التي تفرضها المفوضية على الدول الأعضاء. لم يعد يطالب بالخروج من الاتحاد «فريكسيت» (Frexit) على نسق «بريكسيت» (Brexit)، ولكنه يطالب بحرية تطبيق القوانين المفروضة أوروبياً، بحيث تُقرّر الدول أن تتعاون أو لا تتعاون في موضوع معين. وبالطبع مسألة تأشيرة الـ”شينغن” (الفيزا) لا تتوافق مع طروحات اليمين الذين يطالب بالحد من دخول المهاجرين غير الأوروبيين، في حين أن ماكرون يدعو الدول الأعضاء إلى تحمل وتقاسم أعباء المهاجرين بنسبة عدد سكان هذه الدول، وهذا الأمر مرفوض مطلقاً من قبل اليمين المتطرف.

رابعاً؛ حلف شمال الأطلسي (الناتو):

بالنسبة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، يقول ماكرون بضرورة البقاء ضمن الحلف مع ضرورة تقوية إمكانيات الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع والتسلح. ماكرون يعتبر، خلافاً لليمين، بأن “الناتو” يضمن سيادة فرنسا. ومن المعروف أن حزب مارين لوبان كان دائماً معارضاً لـ”الناتو” ولوضع إمكانات الجيش الفرنسي بتصرف الحلف.

هدف “التجمع الوطني”، كما أعلنت رئيسته مارين لوبان، هو دفع «ماكرون للاستقالة» لتستفيد من ديناميكية نتائج الانتخابات الأوروبية التي كانت بمثابة هدية ومكافأة لاعتقادها أنها ستفوز قريباً بسباق الرئاسة والوصول إلى الإليزيه.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كفى إنتظاراً للخارج، هل يريد قادة لبنان الإصلاح؟