جاءت الدعوة إلى انتخابات عامّة في كلّ من بريطانيا وفرنسا لتصدم كثيرين. لا أدري ما هو المنطق الذي جعل رئيس وزراء بريطانيا السابق ريشي سوناك يطلب في 22 أيّار/مايو الفائت تقريب موعد الإنتخابات البرلمانيّة. الشيء نفسخ تكرّر مع قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 حزيران/يونيو الفائت بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
وبغضّ النظر عن حقيقة أنّ العالم باتت تقوده قماشة رديئة من القادة السياسيّين، فإن مغامرة سوناك وماكرون تدلّ على أنّ الطبقة السياسيّة في أوروبا عامّةً باتت أسيرة فُقّاعة من اللاعقلانيّة، بحيث لا تأبه للضرر الذي سبّبته وتُسبّبه لشعوبها وبلدانها.
فشلت رهانات سوناك وماكرون، بدليل هزيمة حزبيهما الكبيرة. لكن الأعتى من ذلك أنّ مغامرتهما تُسرّع (عن جهل وغباء) مسار عودة الفاشيّة للتحكم بأوروبا .. وها هو اليمين المتطرّف الأوروبي في صعود قياسي مقابل ضمور بقيّة التيّارات التقليدية يميناً ويساراً.
***
في خريف سنة 2016، إلتقيت في باريس بالوزير اليساري الفرنسي جان بيار شوفينمون (Jean-Pierre Chevènement) وهو من قدماء الماركسيّين في الحزب الإشتراكي الفرنسي. إنضمّ للحزب في سنة 1969، وتركه في سنة 1993، وذلك بعد سنتين من إستقالته من منصب وزير الدفاع في حكومة ميشال روكار (في أواخر عهد الرئيس فرنسوا ميتران) لرفضه تورّط فرنسا في حرب الخليج الأولى في سنة 1991. له تاريخ حافل وهو من الوجوه اللطيفة والفكريّة في المشهد السياسي الفرنسي.
سبب زيارتي لفرنسا كان إلقاء بعض المحاضرات وإجراء مقابلات صحفية حول كتاب جديد كان صدر لي باللغة الفرنسيّة قبل ذلك بأشهر قليلة. قرأ شوفينمون الكتاب وأعجبه، لكن السبب المباشر للّقاء هو تعيّينه في آب/أغسطس من سنة 2016 رئيساً لمؤسّسة الإسلام الفرنسي (La Fondation de l’Islam de France) التي أنشأها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند من أجل “حلّ” مشكلة الإسلام في فرنسا (للشفافية، لم يكن شوفينمون من المقتنعين بأنّ الإسلام والمسلمين يُشكّلون مشكلة، بعكس الجوّ العام في فرنسا). من هنا جاء إهتمام شوفينمون، فطلب من صديقة مشتركة أن نجتمع سوية رفقتها، فكانت لنا جلسة مسائية طويلة في مطعم إيطالي صغير في حي سان جرمان الباريسي الجميل.
تناولنا أموراً كثيرة (تاريخيّة وحديثة، سياسيّة ودينيّة، فرنسيّة وشرق أوسطيّة وعالميّة، إلخ.). وكان في بالي سؤال أردت أن أطرحه عليه، يتعلّق بالإنتخابات الرئاسيّة التي كان موعدها في أيّار/مايو 2017. سألته: “كيف فقد اليسار معاقله التقليديّة في فرنسا لمصلحة حزب التجمع الوطنيّ اليميني”؟ هزّ شوفينمون برأسه وبلع ريقه وكأنّه يتحسّر على ماضٍ كان فيه لليسار هيبة وسطوة وشعبيّة عارمة، خصوصاً بين العمّال والكادحين. لكنّه لم يجب على سؤالي. لم أعد طرحه لأنّني شعرتُ أنّ السؤال محرجٌ كونه “السؤال” الذي يسأله كل يساري فرنسي.
ويُمكن أن نسأل السؤال نفسه لأي سياسي فرنسي أم بريطاني من حزب “عريق”، وأنا على ثقة أنّه سيتهرّب من الإجابة عليه. مأزق الأحزاب والتيّارات “العريقة” أو التقليدية في أوروبا أنّها تنام على حرير الماضي، لكنّها عاجزة عن مخاطبة مشاكل الحاضر إلاّ بالتبجّح بمبادئ لا تحترمها فعليّاً أو تتلطى وراء شعارات برّاقة سرعان ما يسأم منها الناخبون. عملياً، أصبح اليسار التقليدي (باستثناء تيّار جيريمي كوربين في بريطانيا وجون-لوك ميلونشون في فرنسا) واليمين التقليدي في أوروبّا جزءأً لا يتجزأ من منظومة النيوليبراليّة الجديدة التي شعارها “إنتخبوني لأنّني أقلّ ضرراً عليكم من الآخرين، لكنّني لن أفيدكم بشيء”!
إنتخابات بريطانيا وفرنسا تُعيدنا مائة سنة إلى الوراء. إلى صعود النازيّة في ألمانيا والفاشيّة في إيطاليا في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم. في ذلك الوقت، كان لليسار برنامج، أمّا الآن، فنحن أمام يسار تائه، إلاّ من بعض الأسماء التي لها بعض الشعبيّة، لكن الجو العام ضدّها، مثل كوربين وميلونشون
***
لن أخوض في أرقام الانتخابات البريطانية، وسأكتفي بالإشارة إلى أن ما حقّقه حزب العمّال ليس فوزاً بقدر ما هو نكسة له أمام الناخبين، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ هذا الحزب حصل على عدد أصوات أقل من الإنتخابات السابقة وأن نسبة الإقبال على التصويت في الإنتخابات الأخيرة كانت 59,9%، وهي ثاني أقلّ نسبة إقبال في تاريخ بريطانيا (بعد إنتخابات سنة 2001).
وما تعنيه الأرقام أيضاً أنّ حزب المحافظين مُنيَ بهزيمة تاريخيّة، حيث نال 23,7% من الأصوات. أكثر من ذلك، ما فقده المحافظون من أصوات (مقارنةً بانتخابات عام 2019 التي حصل فيها على نسبة 43,6%) لم تذهب إلى أحزاب أفضل. إمّا أنّ بعض مناصريه التقليديّين قاطعوا الإنتخابات أو ذهبت أصواتهم إلى حزب الإصلاح المتطرّف (الذي يرأسه الفاشي نايجل فاراج) الذي حصل على نسبة 14,3% من الأصوات (وهي أعلى بكثير ممّا حصل عليه حزب فاراج في سنة 2019، والتي كانت 2%).
بمعنى آخر، الحزب الوحيد الرابح في الإنتخابات البريطانيّة الأخيرة هو حزب يميني فاشي. وإذا جمعنا ما حصل عليه الإصلاح والمحافظين، فنحن نتحدّث عن نسبة 38% من الناخبين، أي أكثر ممّا حصل عليه حزب العمّال.
ما هي خلاصة إنتخابات بريطانيا إذاً؟
الجواب هو أنّ حزب العمّال وصل إلى السلطة بشقّ النفس وليس بتفويض شعبي، وهو في موقع ضعيف وعاجز عن استقطاب ناخبين جدد. ينطبق عليه إذاً القول الشامي/اللبناني الشهير: “لحاجتنا للخيل، ركبّنا على الكلاب سروج”. فقدان التفويض والدعم الشعبي ستكون له تداعيات كبيرة في الأشهر القادمة. بمعنى آخر، كيف ستكون حال حزب العمال عندما تبدأ المشاكل بالتراكم وتبدأ الأصوات تطالب بانتخابات جديدة؟ وأي مراقب للجو السياسي العام في بريطانيا يعي جيّداً حجم المشاكل التي تعانيها البلاد – إقتصاديّاً وإجتماعيّاً وتعليميّاً وإستشفائيّاً و.. – والتي ليس لها حلول سهلة، وحتماً ستؤول إلى شرذمة أكبر وصعود أقوى لليمين المتطرّف.
***
إذا انتقلنا إلى فرنسا، حدّث ولا حرج. إنتخابات المرحلة الأولى أعطت حزب “التجمّع الوطني” المتطرّف برئاسة مارين لوبان نسبة أصوات فاقت الـ 33%، مقارنةً بتحالف عشوائي للـيسار الذي حصل على 28%، ونال حزب “معاً” الذي يتزعمه إيمانويل ماكرون نسبة 20,7%. وللمقارنة فقط، لو تمّ تطبيق نظام الإنتخابات البريطاني في فرنسا، لكان “التجمّع الوطني” اكتسح الإنتخابات.
أمّا في الدورة الثانية التي جرت الأحد الفائت (ولنترك الهستيريا الإعلاميّة عن فوز اليسار جانباً)، لم يحصل أي حزب على أغلبيّة تمكّنه من الحكم، ودخلت فرنسا فعليّاً في مرحلة من الغموض واللا استقرار. وما أكّدته النتائج أيضاً أنّ “التجمّع الوطني” سيحصل على ما بين 134 و152 مقعداً، مقارنةً بـ 89 مقعداً في انتخابات سنة 2022، و8 مقاعد في سنة 2017. وهذه ليست بهزيمة بتاتاً. هذا كابوس حقيقي بكل معنى الكلمة.
والملفت للانتباه أيضاً أنّ شريحة من الناخبين لم يُصوّتوا في المرحلة الثانية للمرشّح الذي يُمثّلهم، بل ضدّ من يكرهونه أكثر. واقع لا يشير إلى حياة سياسيّة سليمة أو تفويض سياسي، لا لليسار ولا لماكرون. على العكس، فما نشهده هو نهاية حقيقية للجمهورية الخامسة بدليل انتفاء الأفكار والبرامج وتكريس الخداع والتطرّف وزيادة التشرذم وتعميق المأزق السياسي في بلد “الـحريّة، المساواة، الأخوّة”، وستكون نتيجة أي انتخابات مقبلة استمرار صعود حزب “التجمّع الوطني”، فيما ستبدو الأحزاب الأخرى إمّا عاجزة أو أنّها غير مهتمّة ببرنامج سوى إيقاف زحف مارين لوبان إلى منصب الرئاسة.
***
في الخلاصة، إنتخابات بريطانيا وفرنسا تُعيدنا مائة سنة إلى الوراء. إلى صعود النازيّة في ألمانيا والفاشيّة في إيطاليا في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم. في ذلك الوقت، كان لليسار برنامج، أمّا الآن، فنحن أمام يسار تائه، إلاّ من بعض الأسماء التي لها بعض الشعبيّة، لكن الجو العام ضدّها، مثل كوربين وميلونشون. وهذا أيضاً (الكره الهستيري لليسار السليم) حدث في أوروبّا وعبّد الطريق للفاشيّة والنازيّة لتقوى وتبطش بمجتمعاتها والعالم.. والأخطر أنه قاد العالم إلى الحرب العالمية الثانية، متكئاً على أزمة اقتصادية وكساد وعوامل أخرى.
***
في أمريكا، نحن حرفيّاً في انتظار غودو ليأتي ويُقنع جو بايدن بأن ينسحب من السباق الإنتخابي. ما عدا ذلك، لو عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.. عندها “سيكمل النُقُل بالزعرور”.