يعترف السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأهمية موضوع الهوية وحيويته، لكنهم لا يزالون أقل إقداماً في الانخراط الواجب والجاد والعميق فيه. وهذا بالطبع لا يُقلّل من أهمية النقاش الدائر بين فواعل الفكر والسياسة في البلاد بشأن الهوية، بل يعضده ويدعو إلى المزيد، إنما بقدر أكبر من العمق والجدية.
لا شك أن تقدير المخاوف والتبعات أمرٌ مطلوبٌ، إلا أن الحل الأمثل في مثل هذه الحالات هو المزيد من الجرأة في التفكير في الأطر والسبل المناسبة للتعاطي مع واحدة من القضايا الأكثر حساسية في مجتمع ودولة في حالة حرب أو تهديد بالحرب منذ عقود طويلة. ومن المعروف أن جانباً من الأزمة والحرب في البلاد وعليها يتعلق بالهوية والرهانات المخيالية والهووية (أو الهوياتية) لدى مختلف أطراف الحرب وفواعلها، من السوريين وغير السوريين؛ وأن تجاهل أو تأجيل قضايا من هذا النوع غالباً ما يزيدها تعقيداً واستغلاقاً.
ما دون الدولة؛ عابر الدولة
يُمكن الحديث عن “عطب عميق” في مسألة الهوية، لم يمكن تجاوزه، إذ ركزت فواعلُ الفكر والسياسة في سورية خلال عدة عقود من تاريخها الحديث والمعاصر على مستويين رئيسين من ديناميات الفعل والاستقطاب الهووي أو الهوياتي: الاجتماعي والسياسي والقيمي: الأول، ما دون الدولة. والثاني، عابر للدولة.
كان التفكير بـ”الدولة” على هامش الاهتمامات والأولويات بالنسبة للخطاب السياسي والثقافي، وعلى مستوى برامج الأحزاب والتنظيمات السياسية. فيما كانت “الدولة” نفسها هي موضوع الصراع الفعلي والجائزة التي يُراد الحصول عليها أو الإمساك بها أو التمكن من قيادتها، سواء للانطلاق إلى “الهوية الكبرى” وهي الهوية العربية، بالنسبة للمنظور العابر للدولة؛ أو لتعزيز وتأكيد “الهوية الصغرى” والإمساك بالسلطة والتحكم في توزيع الموارد المادية والمعنوية أو على الأقل احتواء سطوة الدولة وتدخلها في الداخل، وذلك بالنسبة لمنظور “ما دون الدولة”؛ لكن من دون أن يكون للدولة (والمجتمع) لدى المنظورين هوية بذاتها!
لكن المشكلة ليس فقط في نقل الموضوع من مستوى “ما دون الدولة”، إلى مستوى “عابر للدولة” في أفق إقليمي عربي من المحيط إلى الخليج، و”رسالة عالمية” أو “رسالة كونية”، بل في إغلاق باب التفكير في الهوية على المستوى الوطني أو الدولتي، وحتى على مستوى “سورية التاريخية” أيضاً. وبالطبع في إغلاق باب التفكير في الهويات “ما دون الدولة”، وهو مستوى المِلَل والنِّحَل، والتكوينات الأقوامية والدينية والقبلية إلخ.. وهو إغلاق تم بقوة الدولة وإيديولوجيتها الرسمية وشبه الرسمية وقوة حضورها ومخياليتها النشطة في فترة ما بعد الاستقلال، وخاصة مع بداية الستينيات من القرن العشرين.
وهكذا، برزت مركزيتان هوويتان حاكمتان أو مهيمنتان في البلاد: العروبة والإسلام. ومع ذلك، أخفق السوريون عموماً في تخليق معان للعروبة والإسلام في “أبعاد” أو “تمثلات” أو “خصوصيات سورية”. ولم يُغيّر من ذلك كثيراً الحديث عن “الإسلام الشامي” أو “الإسلام السوري”، إذ أن الفكرة ظهرت متأخرة نسبياً وفي ظروف الأزمة.
فَوَّتَ فواعلُ الفكر والسياسة في سورية، وخصوصاً فواعل الحكم خلال أكثر عقود القرن العشرين وحتى وقت قريب، فرصة التفكير في بناء وتكوين مجتمع ودولة في أفق الفكرة السورية والظاهرة السورية.. وكشف حدث العام 2011 السوري والحرب التي تلته عن اختلالات عميقة في هذا الباب، أنتجت صدوعاً وجروحاً عميقة وقاسية في الظاهرة السورية والاجتماع السوري
“التفكير السالب”!
والواقع أن الحديث في “الهوية السورية” و”الهوية الوطنية”، وهما ليسا سواء، كان متعذراً حتى وقت قريب، فقد “حسمت” الإيديولوجية العروبية، البعث ومن في أفقه، النقاش حول الهوية “في” سورية، إلا بما هي “امتداد” أو “تفريع” أو “تجلٍّ قطريٍّ” لـ”الهوية العربية”. وكان مجرد الحديث عن “هوية سورية” يحيل – من هذا المنظور – إلى أمور سالبة:
- نزعات إقليمية “مشوشة” و”مريضة” و”مُخْتَرَقة” و”مغامرة”، تخدم الاستعمار بقصد أو من دون قصد، وتُضمِر أهدافاً وتطلعات جهوية بالمعنى الجغرافي أي “الهلال الخصيب” أو “سورية التاريخية” على حساب “الوطن العربي”.
- نزعات أقلوية بالمعنى الأقوامي والديني، تعطي اعتباراً نسبياً أكبر للتكوينات غير العربية، من كرد وشركس وتركمان وغيرهم؛ وللتكوينات الدينية غير المسلمة، من مسيحيين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم؛ وللتكوينات الدينية المسلمة غير السنية، من علويين وموحدين دروز واسماعيليين وشيعة اثني عشرية وغيرهم. ولا تتوافق بالتمام مع خط العروبة والإسلام الذي يُمثلّ عماد السردية الإيديولوجية الحاكمة في سورية.
مواضعات مؤقتة
كان الحديث عن سورية، بوصفها حيز اجتماعي وتاريخي وسياسي، تَشَكَّلَ بوازع استعماري وتواطؤات أو قابليات محلية، حيزاً لأقوام وتكوينات مختلفة وجدت نفسها في إطار دولة “نُزِّلَت” أو “تشكلت من أعلى”، وليس “جغرافيا سورية” أو “اجتماع سوري” أو “دولة سُوريّة”. كما لو أن الكلمات والتسميات هي عبارة عن “مواضعات لازمة” لكنها “مؤقتة”، أو “بحكم العادة”، أو “بحكم الوجود الكياني” السياسي الدولتي المعروف في النظام العالمي اليوم، من دون كبير اهتمام بأن تحيل الأسماء إلى معان أو وقائع مطابقة أو متوافقة.
الضبط والكبت
تمكنت الدولة من “ضبط” و”تنحية” أو “كبت” الصدوع والانقسامات وديناميات الصراع “ما دون الدولة”، بـ”القوة والإكراه” أو “الهيمنة”، أكثر منها بـ”التعاقد” و”التعاهد” الاجتماعي والقيمي. وطالما أن الدولة قوية فإن خطوط الانقسام أو الاستقطاب الهووي كانت تعمل في خلفية المشهد أو في النطاقات “العميقة” و”غير العلنية” للفعل الاجتماعي والسياسي. لكن ما أن تتراجع سلطة أو فكرة وقابلية الدولة حتى تعاود خطوط الانقسام والصدوع الهووية بالظهور مجدداً.
وعاء قطري!
وهكذا، تشكلت سوريةُ دولةً، لكنها لم تتشكل “مجتمعاً سورياً” أو “روح مجتمع سوري”، ولم تتمكن السياسة والدولة من أن تُقيم “مجتمعها”. لم يقتنع “المجتمع” بها، ولم تقتنع به. وهكذا فإن الحديث ليس عن “مجتمع سوري”، بل عرب “في” سورية، مع تكوينات غير عربية؛ وليس عن “دولة سورية” وإنما “قطر عربي سوري” أو بالأحرى “قطر عربي” اسمه “سورية” أو “الجمهورية السورية” لبعض الوقت، ثم “الجمهورية العربية السورية” منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين حتى اليوم.
وبالتالي، بقيت سورية مجرد وعاء “يحتوي” عرباً ومسلمين في المقام الأول، كما “يحتوي” غيرهم، لكنه ليس أكثر من وعاء أو حيز جغرافي مكاني لا معنى له بذاته، ولا منعكس أو تأثير للوجود الاجتماعي والتاريخي والثقافي والاقتصادي إلخ.. في سورية. ولم يغير من ذلك كثيراً الحديث في بدايات الأزمة عن “سورية أولاً” أو “أولوية سورية” في تقديرات الفكر والسياسة والاجتماع في البلاد، وبخاصة أن ذلك الحديث تراجع فيما بعد. وهذه مسألة تتطلب المزيد من التدقيق والتقصي.
لكن، مع ذلك، لا ينبغي تجاهل أو التقليل من أهمية بروز ديناميات قيمية وحركية عابرة للتكوينات “ما دون الدولة”. كانت الأفكار والاتجاهات الحداثية مهمة، وتشكلت أحزاب سياسية على أسس حداثية وبامتدادات عابرة للدولة: قومية عربية، ماركسية أممية، ودينية إسلامية. ولم تظهر أحزاب أو تيارات وازنة تتحرك في إطار الدولة القائمة أو تُعدّها أفقاً تاماً أو نهائياً.
إخفاق تاريخي!
لم ينجح السوريون في بناء مجتمع على أي من الأسس التي أعلنوها، فضلاً عن أن الأسس الأعمق وذات القوامة لم تتمكن منهم أو لديهم أيضاً، إذ أن ديناميات الفعل الاجتماعي والسياسي والثقافي إلخ.. كانت أقرب إلى ديناميات متداخلة ومتخارجة يتفاوت حضورها وتأثيرها بتغير الظروف والأحوال. وإذ يحضر العامل القومي العروبي على مستوى الثقافة والإيديولوجيا، إلا أن العامل القبلي والمناطقي كان أقوى، حتى على معنى العروبة نفسها.
الأكثر خطورة في حالة سورية اليوم هو أن بقاء ديناميات التشكل القبلي والمناطقي والعشائري، قوامة على التشكل مجتمعاً بالمعنى الحديث للكلمة، ومثل ذلك بالنسبة إلى ديناميات التشكل والتكوين الديني والمذهبي، التي بدت قوامة على معنى الدين نفسه، بوصفه رابطة قيمية روحية.
وفي الختام،
فَوَّتَ فواعلُ الفكر والسياسة في سورية، وخصوصاً فواعل الحكم خلال أكثر عقود القرن العشرين وحتى وقت قريب، فرصة التفكير في بناء وتكوين مجتمع ودولة في أفق الفكرة السورية والظاهرة السورية، وليس بعد سورية مجرد “امتداد” جغرافي لـ”الوطن العربي”، و”جزء” من “المجتمع العربي” أو “الأمة العربية”، على أهمية ذلك. وكشف حدث العام 2011 السوري والحرب التي تلته عن اختلالات عميقة في هذا الباب، أنتجت صدوعاً وجروحاً عميقة وقاسية في الظاهرة السورية والاجتماع السوري.
إن القفز من ديناميات “الِمَلل والنِّحَل” و”الهويات الصغرى” وديناميات “ما دون الدولة”، إلى ديناميات الأمة و”الهوية الكبرى”، سواء العروبية أو الدينية الإسلامية، لم يكن هو الجواب الصحيح على أسئلة الهوية ومدارك التهديد لدى السوريين. وكان بالإمكان التركيز على فكرة مجتمع ودولة وهوية وطنية في سورية، لا تتغول على “ما دون الدولة”، ولا تذوب فيما هو “فوقها” أو ما هو “عابر لها”.. وهذا باب يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.. والحوار.