بارنيه الملتزم لبنانياً.. أمام تجربة حكومية صعبة

كيف يبدو المشهد السياسي الداخلي الفرنسي وتداعياته الخارجية بعد تشكيل ميشال بارنيه حكومته الجديدة؟

بعد مخاض عسير ومشاورات صعبة وطويلة ومعقدة، تمكن رئيس الوزراء الفرنسي الجديد ميشال بارنيه من تأليف حكومة هي الأولى، منذ وصول ايمانويل ماكرون إلى الرئاسة منذ أكثر من سبعة أعوام، برئاسة سياسي لا ينتمي إلى حزب سيد قصر الاليزيه.

ما هي قدرة بارنيه على الصمود وإلى متى؟

لن يكون مشوار بارنيه الحكومي “نزهة سهلة وممتعة”؛ على العكس، فالمؤشرات الاولى تدل على أن طريقه سيكون “مساراً صعباً وخطيراً” بفعل كثرة الألغام المزروعة وتعدّد المطبات القائمة، من هنا لا يتوقع المراقبون عمراً طويلاً لهذه الحكومة الجديدة.

عقبات متعددة واستحقاقات صعبة

أولاً؛ العقبة الأولى تكمن في اللون اليميني الفاقع فيها (الحكومة الأكثر يمينية منذ 12 عاماً) والطابع الماكروني غالب عليها، حيث أن بعض منتقديها رأوا فيها “استمراراً لسابقاتها” وكأن ماكرون لم يأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات الأوروبية ومن ثم التشريعية الفرنسية التي ألحقت بحزبه هزيمة موجعة.

ثانياً؛ العقبة الثانية التي لم يتمكن بارنيه من تجاوزها تتمثل في عدم القدرة على توسيع قاعدتها السياسية والفشل في اقناع شخصيات سياسية وازنة تنتمي إلى اليسار المعتدل والقريبة من الحزب الإشتراكي للانضمام إليها (وحده وزير العدل الجديد ديديه ميغو شخصية قريبة من اليسار). واعتبرت الأوساط اليسارية أن ماكرون “سرق” منها نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي أعطت لتحالف قوى اليسار والخضر أكبر كتلة برلمانية بحيث كان يعود لشخصية تنتمي إليها حق تشكيل الحكومة الجديدة في وقت اختار ماكرون شخصية تنتمي إلى أصغر كتلة برلمانية. وقد سارعت هذه الأحزاب اليسارية إلى انتقاد الحكومة الجديدة فور اعلانها مشيرة إلى أنها “غير ديموقراطية وغير شرعية ولا مستقبل لها”.

ثالثاً؛ بقاء الحكومة الجديدة تحت “مراقبة” اليمين المتطرف، على حد وصف زعيمة “التجمع الوطني” مارين لوبن، وذلك بفعل ثقل كتلتها البرلمانية وقدرتها على اسقاط حكومة بارنيه في الجمعية الوطنية إذا صوّتت مع التحالف اليساري. وستكون المواجهة الأولى لدى طرح نواب التجمع مشروع اسقاط الخطة الإصلاحية للتقاعد التي أقرتها الحكومة السابقة.

رابعاً؛ الاستحقاق الأساسي يتمثل بمضمون البرنامج الحكومي الذي سيقدمه بارنيه في بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل أمام النواب في البرلمان بغية نيل الثقة على أساسه، وهو يجد نفسه أمام عقبات متعددة أبرزها ثلاث:

1-عقبة أولى مالية، تتمثل بكيفية معالجة ارتفاع قيمة الدين العام من خلال فرض ضرائب جديدة شرط ألا تتناول الطبقة الوسطى. كما سيلي هذا الاستحقاق نشر مشروع الميزانية الذي سيكون بمثابة الإمتحان الأول.

2-عقبة ثانية اجتماعية، تتناول موضوع تحسين الوضع المعيشي والقدرة الشرائية للفرنسيين خصوصاً الطبقة المعدمة ولكن دون الحاق ضرر بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ذات القدرات المحدودة التي ستواجه صعوبات مالية في حال قرّرت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور.

3-عقبة ثالثة أمنية، تكمن في مشكلة الهجرة المعقدة والدقيقة وكيفية الحد من تفاعلاتها على الأمن الداخلي واستغلالها سياسياً من قبل الجهات المتطرفة.

الرئيس الفرنسي، بحسب معارفه، لن يستسلم بسهولة بل على العكس سيبقى متمسكاً بسلطته وصلاحياته وأكثر عزماً على المضي في مهامه حتى نهاية ولايته في العام 2027

خامساً؛ تأتي العقبة المتمثلة في صراعات الديوك السياسية والطموحات الشخصية، في إطار الاستعداد للمعركة الرئاسية المقبلة، لتزيد في جعل مهمة بارنيه الحكومية أكثر تعقيداً وصعوبة. ذلك أن زعماء الأحزاب والكتل البرلمانية لا يخفون هذه الطموحات بدءاً من فريق ماكرون وحلفائه (رئيسا الحكومة السابقين ادوار فيليب وغبريال آتال، ورئيس الحركة الديموقراطية فرانسوا بايرو) مروراً بزعيم حزب “الليبراليين” اليميني المعتدل لوران فوكييز ورئيسة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف مارين لوبن وصولاً إلى مرشحي أحزاب اليسار والخضر وفي مقدمهم جان لوك ميلونشون.

الامتحان الأول أمام بارنيه سيكون نيل ثقة الجمعية الوطنية؛ الامتحان الثاني يتمثل في نشر الميزانية الجديدة، أما الامتحان الثالث فيتمثل بمواجهة المعارضة السياسية والشعبية والنقابية في الشارع. الامتحان الرابع هو القدرة على التعاون مع ماكرون ذلك أن بدايات التعامل بين رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه الجديد لم تخلُ من التوتر وشد الحبال.

كل هذه الامتحانات إضافة إلى ما سبقها ويرافقها من تحديات تزيد في العوامل التي قد تحد من عمر الحكومة التي لا يتوقع لها عددٌ من المراقبين أن تُعمّر أكثر من سنة وهي المهلة الدستورية التي على رئيس الجمهورية الالتزام بها قبل الدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة.

“الالتزام اللبناني” لبارنيه

في انتظار معرفة قدرة رئيس الوزراء الجديد على مواجهة كل تلك التحديات والضغوط السياسية لا بد من التوقف عند شخصيته وخصوصاً عند اهتماماته الخارجية. ميشال بارنيه ليس جديداً في عالم السياسة (73 عاماً). فهو متمرس في العمل السياسي أكان على الصعيد المحلي والمناطقي (في منطقة سافوا في جبال الألب) أو على الصعيد الوطني (نائب في الجمعية الوطنية) إضافة إلى خبرة ديبلوماسية أوروبية ودولية (وزير للشؤون الخارجية والأوروبية ومفوض في الإتحاد الأوروبي). ينتمي بارنيه إلى الوسط اليميني المعتدل (حزب الجمهوريين) ويُجاهر بانتمائه إلى المدرسة الديغولية وتمسكه بخط الرئيس الراحل شارل ديغول مع تأكيده على عدم تقوقعه بل انفتاحه على كل المكونات السياسية الفرنسية.

إقرأ على موقع 180  إنحطاط الغرب.. أو سيرة "ضرّاب السيوف"!

من ضمن اهتمامات بارنيه الخارجية، إضافة إلى خبرته الأوروبية الطويلة (رَأَس الجانب الأوروبي المفاوض في عملية خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي على مدى أربعة اعوام)، يبرز وضع لبنان. كان بارنيه عضواً منذ عام 1998 في المجلس الاستراتيجي لجامعة القديس يوسف التابعة للرهبانية اليسوعية في بيروت. وكان يشارك بانتظام (مرتان سنوياً)، في اجتماعات المجلس إلى جانب شخصيات لبنانية وأجنبية فرنكوفونية.

الأب سليم دكّاش

وحول شخصية ميشال بارنيه، يقول رئيس الجامعة اليسوعية البروفسور الأب اليسوعي سليم دكاش لموقع (180post) إن بارنيه “رجلٌ مخلص لالتزامه وقناعاته”، ويضيف أن لبنان “في صميم رؤيته السياسية نظراً لأن لبنان بهيئاته العريقة وديموقراطيته ومؤسساته الجامعية والاجتماعية يُشكّل وعداً لنهضة سياسية في الشرق الأوسط”.

ويشير الأب دكاش إلى أن بارنيه “لدى المداولات المرافقة لانعقاد المجلس الاستراتيجي (للجامعة) كان حريصاً على معرفة كل تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية والإقليمية لأن لبنان يُشكّل أرضية لفهم ما يجري وما ينبغي عمله”. ويضيف: “القضايا الإقليمية وفي مقدمها القضية الفلسطينية تأتي في صلب التحديات التي يعود للمجتمع الدولي رفعها من أجل أن يتمكن الشرق الأوسط من العيش بسلام”.

وفي هذا الاطار، لا بد من التذكير بمقال كتبه بارنيه بعنوان “دولة فلسطينية.. الآن” ونشرته صحيفة “لوفيغارو” عام 2006، وفيه يُطالب بـ”إعادة تقويم السياسة الأميركية في إسرائيل وفلسطين”.. وفي الوقت نفسه، يدعو إلى “تدخل أوروبي فاعل”. وهو رأى في حينه “أن خلق جو جديد ملائم للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو الشرط الأساس لسلام شامل في المنطقة”.

سليم دكاش لموقع 180 بوست: بارنيه كان حريصاً على معرفة كل تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية والإقليمية لأن لبنان يُشكّل أرضية لفهم ما يجري وما ينبغي عمله كما أن القضايا الإقليمية وفي مقدمها القضية الفلسطينية تأتي في صلب التحديات التي يعود للمجتمع الدولي رفعها من أجل أن يتمكن الشرق الأوسط من العيش بسلام

تراجع الثقل الفرنسي الخارجي

ولكن ما هو هامش تحرك بارنيه على الصعيدين الخارجي والديبلوماسي؟

من الناحية الدستورية، الاختصاص الحكومي في مجالي الدفاع والخارجية من صلاحيات رئيس الجمهورية الذي له الكلمة الفصل في اختيار الوزراء الذين سيشغلون هذه الحقائب المختصة (الدفاع والخارجية). ويبدو أن هذه القاعدة تم احترامها في الحكومة الجديدة. فوزير الدفاع في الحكومة الماكرونية السابقة سيباستيان لوكورنو احتفظ بحقيبته في حكومة بارنيه، كما أن وزير الشؤون الأوروبية السابق جان- نويل بارو انتقل إلى وزارة الخارجية.

ولا تتوقع أوساط ديبلوماسية تغييراً جذرياً في السياسة الخارجية مع الأخذ في الحسبان أن مقاربات ماكرون وبارنيه متقاربة حيال هذه المواضيع. إضافة إلى نقطة أساسية أن رئاسة الوزراء وخصوصاً وزارة الخارجية جرى تهميشهما إلى حد كبير في المجال الخارجي منذ وصول ماكرون إلى قصر الاليزيه حيث تولى مستشاروه بالتعاون مع الخلية الديبلوماسية الرئاسية مهمة متابعة ملفات السياسة الخارجية الأساسية. إضافة إلى أن الكي دورسيه مقر وزارة الخارجية تعرّض إلى حال من عدم الاستقرار إذ تعاقب عليه منذ عامين ونصف أربعة وزراء خارجية!

واللافت للانتباه أن الثقل الديبلوماسي الفرنسي، بالرغم من جهود السفراء الفرنسيين في العواصم المعنية، عانى من الكثير من التراجع. وترى الأوساط المتابعة أن عدم الاستقرار السياسي الداخلي يُضعف قدرة باريس على التحرك أوروبياً ودولياً. فبعد الانسحاب العسكري التدريجي الذي اضطرت فرنسا إلى الإقدام عليه في عدد من البلدان الإفريقية، تدهورت علاقاتها مع روسيا نتيجة موقف باريس الداعم لأوكرانيا. والتطور الأخير الذي عرفته العلاقات بين العاصمة الفرنسية ورئاسة المفوضية الأوروبية عزّز هذا التراجع. فبعد أن رفضت رئيسة المفوضية فون ديرلاين تجديد مهمة انتداب فرنسا ممثلها المفوض تييري بروتون (برغم نجاحاته في مهامه) بسبب علاقتها الشخصية السيئة معه واضطرار ماكرون إلى ابداله بوزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه، حصل جدل سياسي واطلقت انتقادات بحق ماكرون نتيجة خضوعه وقبوله بتراجع نفوذ فرنسا الأوروبي.

وفي المحصلة، صحيح أن التخبط السياسي الداخلي من شأنه إلحاق الضرر في صورة فرنسا الخارجية، إلا أن الأوساط الفرنسية تُشدّد على ان فرنسا ما تزال تحتفظ بموقع متميز دولياً وأوروبياً كدولة عضو دائم في مجلس الأمن إضافة إلى دورها في الإتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ويراهن عدد من المراقبين على انتخابات نيابية فرنسية جديدة، كما أن بعضهم لا يستبعد انتخابات رئاسية مبكرة. الأكيد أن وضع حكم ماكرون بعد حكومة بارنيه ليس كما قبلها وأن انحدار شعبيته الداخلية بشكل غير مسبوق وتراجع دوره الخارجي زادا مع نتائج الانتخابات الأوروبية وتأكدا بشكل حاسم مع الانتخابات النيابية المبكرة الأخيرة. لكن الرئيس الفرنسي، بحسب معارفه، لن يستسلم بسهولة بل على العكس سيبقى متمسكاً بسلطته وصلاحياته وأكثر عزماً على المضي في مهامه حتى نهاية ولايته في العام 2027.

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "أبو نضال" يضرب في لندن.. وشارون يجتاح لبنان (44)