يحاول الجيش “الإسرائيلي” استغلال نقاط القوة لديه إلى أقصى حد، عبر استخدام القوات الجوية بأعنف ما يُمكن؛ وفي المقابل، تحاول المقاومة استغلال نقاط قوتها ما تستطيع، أي مواصلة ضرباتها في الميدان لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الجيش الغازي. وبين هذين الحدين يبدو واضحاً أن لا حيز للكلام عن وقف لإطلاق النار في المدى المنظور مهما كثرت التصريحات السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
ومن الملاحظ أن تكتيك المقاومة اللبنانية الراهن يعتمد تدريجياً على ضرب عمق المدن التي تشكل ممراً للتحشيد العسكري “الإسرائيلي” بالصواريخ الثقيلة ومن ثم ضرب تجمعات الجيش “الإسرائيلي” في المستوطنات الواقعة شمال فلسطين المحتلة والمتاخمة للحدود اللبنانية، بهدف إعاقة عمليات فتح أنساق قتالية لجنود الإحتلال نحو الأراضي اللبنانية، وعندما ينجح الجنود في التقدم قرب هذه القرية أو تلك، تعمد المقاومة إلى تفجير الكمائن المعدة مسبقاً لهم لتعاجلهم بعد ذلك بمواجهات نارية بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة وقذائف الهاون وتجبرهم على الإنسحاب تحت النيران.
وما المواجهات التي حصلت من يارون ومارون الراس في القطاع الأوسط وصولاً إلى العديسة وكفركلا في القطاع الشرقي مروراً بعيترون إلا تأكيداً لهذا التكتيك الذي أثبت نجاحه وأوقع في صفوف الجيش “الإسرائيلي” قرابة مائة جندي بين قتيل وجريح، وهو الأمر الذي وصفه الإعلام “الإسرائيلي” بـ”كارثة الشمال”.
وللتغطية على اخفاقه، عمد الجيش “الإسرائيلي” إلى تصعيد غاراته مُركزاً بصورة أساسية على الفرق الصحية والمستشفيات التي أخرجت من الخدمة تباعاً، من مستشفى بنت جبيل الحكومي ومستشفى الشهيد صلاح غندور (بنت جبيل) إلى ميس الجبل ومرجعيون والخيام، كما صعّد غاراته على الضاحية الجنوبية وبعض المناطق في بيروت، مثل الباشورة وزقاق البلاط ومخيم البداوي شمالاً. وبالإضافة الى هذا التصعيد، عمد إلى توجيه انذارات إلى سكان عدد غير محدود من القرى الجنوبية لإخلائها فوراً والتوجه شمال نهر الأولي، في تعبير عن قرار “إسرائيلي” بإخلاء منطقة جنوب الليطاني وربما جنوب نهر الأولي في مرحلة لاحقة من السكان وتحويل هذا الموضوع إلى نقطة تفاوض مستقبلية.
أمام هذا الواقع، هل هناك من فرصة للتوصل إلى اتفاق لوقف اطلاق النار؟
حتى الآن، لا يرى رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو أن هناك حاجة لوقف النار، في ظل معطيات الميدان من جهة والضوء الأخضر الأمريكي للمضي في قرار الغزو البري من جهة ثانية، وهذان العاملان مرشحان للاستمرار، على الأقل، حتى موعد الإنتخابات الرئاسية الأمريكية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. حتى ذلك التاريخ، ستكون هناك فرصة نتنياهو لتحقيق ما يمكن تحقيقه من انجازات ميدانية إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن أخفق جيشه في الميدان ستكون الولايات المتحدة جاهزة لانقاذه من أي مأزق قد يقع فيه، من خلال العمل على وقف لاطلاق النار يحفظ له ماء وجهه وتحقيق ما أمكن من أهدافه لهذه الحرب، وإن تمكن من تجاوز عقبة المقاومة واندفع جيشه شمالاً، فإن اندفاعته لن تتوقف عند حدود معينة، تماماً كما حصل في غزو العام 1982 عندما كان قرار الحكومة “الإسرائيلية” يقضي بالوصول إلى نهر الليطاني، وعندما وصل جيشها إلى النهر من دون مقاومة تذكر واصل اندفاعته نحو بيروت.
التساؤل الآخر الذي يطرح نفسه هو مدى قدرة المقاومة ومجتمعها على الصمود بوجه الوحشية “الإسرائيلية”؟ الجواب ليس سهلاً؛ من جهة تستطيع المقاومة تحمل الأكلاف العسكرية، لكن وجعها الأساس في الأكلاف التي تتحملها البيئة المدنية قتلاً وتدميراً وتجريفاً وتهجيراً وإيواء، فهل تستطيع هذه البيئة تحمل أعباء أكبر وخسائر أكثر، ولا سيما عندما يراها كثيرون تعض على جرح خسارة رمز مثل السيد حسن نصرالله إلى حد انكار أنه استشهد حتى الآن؟
والراسخ أن الضربات القاسية التي تعرضت لها المقاومة ولا سيما اغتيال السيد نصرالله تزيد المقاومين شراسة في الميدان، هذا داخلياً، أما خارجياً فمن الواضح أن إيران لا تستطيع ترك حزب الله ينهار، وقد عبّر عن ذلك المرشد علي الخامنئي في خطبة الجمعة بالعربية بعد صلاة الغائب لروح السيد نصرالله في مصلى جامعة طهران وسط حشود كبيرة، كما تم التعبير الإيراني عن ذلك بزيارة وزير الخارجية عباس عراقجي إلى بيروت برغم المخاطر الأمنية عليه.
قد يقول قائل، كيف يمكن لإيران أن تُساعد حزب الله وتدعمه وهي غير راغبة بتوسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية؟ وهل يُمكن أن يؤدي التدحرج إلى انخراط إيران المباشر في الحرب إذا استشعرت خطراً وجودياً على حزب الله؟
برغم حملات التشكيك بالدور الإيراني، لن تجد طهران أمامها إلا خيار الدخول في الحرب ولو أدى ذلك إلى اشتعال المنطقة برمتها. فالأمر هنا ليس قضية عاطفية وتضامنية وما شابه؛ إنها قضية أمن قومي للإيرانيين، فإن تم القضاء على حزب الله، ستتغير خريطة المنطقة كلها وستجد إيران نفسها مضطرة للإنكفاء إلى داخل حدودها وستكون عرضة لأخطار أكبر بكثير من تلك التي ستواجهها في حال دخولها الحرب الآن.
في المحصلة، يُمكن القول إن المرحلة الحالية هي مرحلة دموية لن تكون سهلة وقصيرة وسنشهد خلالها سياسة عض أصابع بين “إسرائيل” ومن يدعمها (أمريكا وكل الغرب) من جهة وإيران ومحور المقاومة من جهة أخرى، وفي ضوء النتيجة، لن تستمر وضعية اللاغالب واللامغلوب التي كانت سائدة قبل “طوفان الاقصى”.