في 27 أيلول/سبتمبر الماضي، اغتالت إسرائيل الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصرالله، عندما ألقت نحو 85 طناً من القنابل الخارقة للتحصينات على مقره، وسط حي مكتظ بالسكان في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد أسفرت الغارة عن استشهاد عدد من قادة وعناصر الحزب، وجنرال في الحرس الثوري الإيراني، وأكثر من 35 مدنياً، وإصابة العشرات بجروح.
هذا الهجوم، والهجمات التي تلته، وتلك التي سبقته، ومحاولات التوغل البرّي في جنوب لبنان، يمثل تصعيداً مكثفاً للتصعيد الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي منذ 14 شهراً. فخلال هذا الإطار الزمني، طالت العمليات العسكرية الإسرائيلية المئات من مقاتلي الحزب؛ بينهم نحو عشرون من كبار القادة العسكريين والسياسيين، بالإضافة إلى آلاف المدنيين.
في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن عمليات الاغتيال والتدمير كانت “ناجحة” (…)، وأنها ستساعد في تدمير حزب الله إلى الأبد. لكن الواقع هو أن منطق نتنياهو ليس بالضرورة أبداً أن يكون صحيحاً. فحزب الله عريقٌ (تأسس قبل 42 سنة)، وممثلٌ في مجلسي النواب والوزراء، له قاعدة اجتماعية متينة وواسعة جداً، يحظى بدعم قوي جداً من إيران، والأهم أنه قادر على التكيّف والصمود- بحسب ما أثبت طوال مسيرته. لربما تنجح إسرائيل في شرذمة صفوفه إلى حدٍ ما ومؤقتاً، ولكن الحزب؛ بالتأكيد؛ سيعيد توحيد صفوفه وبناء قوته من جديد. كما أن القادة الجُدد حتماً سينتقمون من إسرائيل على كل ما اقترفته آلتها العسكرية.
وعلى افتراض أن إسرائيل نجحت في إضعاف حزب الله وتحجيمه، من المحتمل جداً أن ينهض الحزب من جديد، أو تنبثق من رحمه مجموعات مقاومة أخرى تملأ الفراغ. هذا ما حصل مع أغلبية حركات المقاومة على مرّ التاريخ (…). فالاغتيالات مجرد تكتيك، وليست حلاً سياسياً، ولا تبطل القضايا التي تُحرك الصراع. أضف إلى ذلك أن عمليات الاغتيال دائماً ينجم عنها أضرارٌ جانبية: قتل مدنيين أبرياء، تدمير البنية الأساسية للمجتمعات المدنية، تضخيم المظالم الشعبية، تشجيع إنضمام مقاومين جُدد، وتعطيل المفاوضات السياسية. بعبارة أخرى: عمليات القتل المستهدف تُطيل عمر الصراع ولا تُنهيه.
التاريخ القذر لتكتيك معيب
على مدى أكثر من 50 عاماً، اغتالت إسرائيل قادة حركات مقاومة في لبنان، تارة بالغارات الجوية وتارة أخرى بعمليات “كوماندوز” أو تفجير. وقد سلطت هذه الهجمات الانتباه على ما يطلق عليه بعض الباحثين والاستراتيجيين العسكريين مصطلح “قطع رأس القيادة“، أي قتل أو أسر القادة على أمل إضعاف الصفوف وجعلها تنهار (…).
وبموجب أغلب تفسيرات قوانين النزاع المسلح، بما في ذلك تفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن العديد من الأشخاص الذين تتسبب إسرائيل بمقتلهم يتمتعون بوضع الحماية. وطبقاً لهذه التفسيرات، فإن الأشخاص العاملين أو المتطوعين في الخدمات الاجتماعية والأجنحة السياسية لحزب الله يعتبرون غير مقاتلين، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال القتالية. ولكن إسرائيل وأميركا لديهما تفسيرهما الخاص (المتساهل) لما يُشكل مشاركة مباشرة في ما يعتبرونها “أعمالاً عدائية”. على سبيل المثال، في 16 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على النبطية (جنوب لبنان) وقصف مبنى البلدية، ما أدَّى إلى مقتل رئيس البلدية المُنتخب وعدد من الموظفين والمتطوعين في لجنة خدمات الطوارئ في المدينة (الإسعاف والدفاع المدني).
على افتراض أن إسرائيل نجحت في إضعاف حزب الله وتحجيمه، من المحتمل جداً أن ينهض الحزب من جديد، أو تنبثق من رحمه مجموعات مقاومة أخرى تملأ الفراغ. هذا ما حصل مع أغلبية حركات المقاومة على مرّ التاريخ (…). فالاغتيالات مجرد تكتيك، وليست حلاً سياسياً، ولا تبطل القضايا التي تُحرك الصراع
حتى لو كانت الضربات الإسرائيلية تستهدف مقاتلين فقط، فإن عمليات “القتل المستهدف” تأتي بنتائج عكسية أيضاً. وبرغم أن الأبحاث حول هذا التكتيك أسفرت عن مجموعة من النتائج المتناقضة على ما يبدو، ويرجع هذا جزئياً إلى مقاييس مختلفة للنجاح، فإنها تشير عموماً إلى أن مثل هذه الهجمات تفشل في تحقيق أهدافها في الأمد البعيد. وخير مثال على ذلك أن العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وسوريا واليمن لم تنجح “لأن أميركا ركَّزت على الانتقام وتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل بدلاً من إيجاد حلول مستدامة”، بحسب ديبالي موخوبادياي، الأستاذة في جامعة “جونز هوبكنز”. إذاً القانون الدولي لا يعترف بـ”القتل المستهدف” أو “قطع رأس القيادة” ويعتبرها عمليات إعدام خارج نطاق القضاء.. وتفسير المؤيدين – إسرائيل وأميركا على وجه الخصوص – لا يجعلها مبررة نهائياً.
يزعم مؤيدو منطق عمليات “القتل المستهدف” أن “الهجمات ضد الأفراد المشاركين في التخطيط وتنفيذ أعمال عنف تؤدي إلى تقليص قدرة المنظمة وانهيار معنوياتها”. وتزعم الحكومة الإسرائيلية أن عملياتها العسكرية على لبنان تُحقّق هذه الأهداف بالضبط. ومع ذلك فقد أثبت حزب الله قدرته على الصمود ومواصلة التصدي. فبرغم الضربات القاسية التي تعرض لها، واغتيال أمينه العام وكبار قادته، استطاع- وفي وقت قياسي- إعادة رصّ صفوفه وملء كل المناصب الشاغرة، وفي الوقت نفسه، مواصلة هجماته والعمل على تدريب وحدات شبيهة بـ”الخلايا المقاومة” للعمل بشكل مستقل بحيث لا يؤثر استهداف أي من القادة على عمل التنظيم أو الحد من قدراته (…).
من المؤكد أن اغتيال كبار القادة يُعرّض العناصر لصدمة وإحباط وحزن، خصوصاً إذا انقطع الاتصال بينهم وبين القيادة. ومع ذلك، حتى لو قُتل قائد من الصف الثاني أو الثالث أو شخصية عسكرية رفيعة المستوى أو زعيم كبير، فإن نواب هؤلاء ينتظرون على أهبة الاستعداد ليأخذوا دورهم ويؤدون واجباتهم وإتمام المهمات. فمنذ استشهاد السيّد نصرالله، على سبيل المثال، أطلق حزب الله مئات ومئات الصواريخ والقذائف والمسيَّرات الحربية التي استهدفت قواعد عسكرية ومدناً كبرى في إسرائيل (حيفا ويافا وعكار ونهاريا وغيرها) وطالت حتى مقر إقامة نتنياهو نفسه في قيسارية بضاحية تل أبيب.
الحزب أكثر تصميماً وثباتاً
في الواقع، ربما يكون حزب الله الذي فقد عدداً من كوادره وعناصره الرئيسيين صار أكثر تصميماً الآن على إثبات قدراته وإعادة بناء قوته. فالمرة الأولى التي عبرت فيها صواريخه الحدود ووصلت إلى إسرائيل كانت غداة تشييع أمينه العام الأسبق، السيّد عباس الموسوي، الذي اغتاله الجيش الإسرائيلي في عام 1992. إن إستشهاد الموسوي لم يُضعف عناصر حزب الله ولم يحبط قادته، بل دفعهم إلى الإنتقام، وأتاح لهم تدشين مرحلة جديدة من المواجهة عبر تنفيذ عمليات نوعية بشكل متزايد ضد جيش الإحتلال في جنوب لبنان وأماكن أخرى. وهذا ما أكده أيضاً رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية آنذاك أوري ساغي (1991-1995).
وبعد ما يقرب من عقد من الزمان على استشهاد الموسوي، أصبح حزب الله أقوى وأكثر قدرة، ونجح في إجبار الجيش الإسرائيلي على الإنسحاب في العام 2000. وبرغم أن إسرائيل واصلت تنفيذ عمليات “قتل مستهدف” ضد حزب الله في السنوات التي تلت انسحابها من لبنان، استمر نفوذ الحزب في النمو والتعاظم. وفي 12 تموز/يوليو 2006، نجح الحزب في أسر جنديين إسرائيليين عند الحدود، وانتصر في الحرب التي شنَّتها إسرائيل رداً على تلك الحادثة.
إن الاغتيالات قد تؤدي أيضاً إلى صعود قادة أكثر فعَّالية. فقد أدَّى اغتيال الموسوي إلى صعود السيّد حسن نصرالله الأكثر كاريزمية. وبصفته أميناً عاماً، يُنسب إلى نصرالله ــ إلى جانب كبير الاستراتيجيين العسكريين في حزب الله عماد مغنية ــ الفضل على نطاق واسع في تحويل الحزب من ميليشيا محلية إلى جيش غير نظامي يتمتع بقوة تفوق قوة الجيش اللبناني. وعندما اغتالت إسرائيل مغنية، في عام 2008، أصبح مستشارو الحرس الثوري الإيراني أكثر انخراطاً في العمليات اليومية لحزب الله. وعلى نحو مماثل، في غزة، مهَّد اغتيال زعيم “حماس”، الشيخ أحمد ياسين، في عام 2004، الطريق أمام انخراط إيراني أعمق مع الحركة (…).
إن تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، في العام 1982، توضح حقيقة صارخة أخرى، وهي أن إضعاف حركة مقاومة ما (منظمة التحرير الفلسطينية)، أو حتى هزيمتها والقضاء عليها، يؤدي حكماً إلى ظهور حركات مقاومة جديدة. لقد نشأ حزب الله في آب/أغسطس 1982 كرد مباشر على الاحتلال الإسرائيلي ولملء الفراغ الذي تركه خروج مقاتلي المنظمات الفلسطينية من لبنان (…).
عقاب جماعي للشعب اللبناني
تتسبب عمليات “القتل المستهدف” بمقتل الكثير من المدنيين الأبرياء وإحداث دمار واسع النطاق. فقد أدت الغارة الجوية التي استهدفت السيّد نصرالله إلى تدمير مربع سكني بالكامل (7-10 مباني سكنية) وسط أحد أكثر أحياء لبنان اكتظاظاً بالسكان (…). وكثيراً ما تدعي الحكومة الإسرائيلية أنها تصدر تحذيرات مسبقة لحث السكان على الإخلاء قبل مهاجمة الهدف. لكن “إشعارات الإخلاء غالباً ما تكون غير واضحة، أو لا تمنح المدنيين الوقت الكافي للفرار، أو أنها لا تصل بالأساس”، وفق تقرير منظمة العفو الدولية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وحتى العمليات التي يُشيد محللون عسكريون بتطورها التقني تفتقر إلى الدقة اللازمة لتجنب إلحاق ضرر بالمدنيين على نطاق واسع. فقد اندهش العديد من المراقبين، على سبيل المثال، عندما فجَّرت إسرائيل، في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، آلاف أجهزة “البيجرز” والاتصال اللاسلكي التي يستخدمها عناصر حزب الله. تلك الهجمات أيضاً قتلت وأصابت العشرات من المدنيين الذين لا ينتمون للحزب. وقد وصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووزير الدفاع السابق ليون بانيتا هذه الهجمات بأنها “شكل من أشكال الإرهاب”.
إسرائيل لن تنجح في تدمير حزب الله مهما صعَّدت عملياتها العسكرية. فهي تتبع هذا التكتيك منذ عقود من الزمن. وبدلاً من الانهيار، أثبت حزب الله قدرته على الصمود والتكيف والتطور. وقد أدَّت محاولات “قطع رأس القيادة” إلى تصعيد المواجهات وتوسع الحزب تنظيمياً
في كثير من الحالات، لا يتمكن المدنيون الذين يرغبون في الفرار، خصوصاً إذا كانوا كبار السن أو مرضى أو معوقين. وفي بلد يعيش فيه ما يقرب من نصف سكانه في فقر، لا يملك كثيرون آخرون الوسائل المالية اللازمة للإخلاء.
ونظراً للعواقب المُدمّرة التي تخلفها هذه الهجمات، فإن المدنيين في لبنان يتعرضون لهجمات مستهدفة كعقاب جماعي. وربما تكون هذه هي النقطة المهمة بالنسبة للحكومة الإسرائيلية. فهي تأمل بالتأكيد أن تؤدي هذه المحنة إلى تثوير اللبنانيين ضد حزب الله. ففي تشرين الأول/أكتوبر، هدَّد نتنياهو بـ”تحويل لبنان إلى غزَّة ثانية”- لناحية التدمير الممنهج وتشريد السكان وتجويعهم ومحاصرتهم- ما لم ينتفض اللبنانيون على حزب الله. أي أنه خيَّر اللبنانيين بين أن يساعدوا إسرائيل في التخلص من حزب الله أو أن يموتوا قتلاً وجوعاً وتشريداً (…)!
ولكن هذا لن يحدث أبداً. العكس هو الذي سيحدث. فإسرائيل تبقى في أعين جميع اللبنانيين قوة معادية غزَّت لبنان ثلاث مرات بالفعل، وشنَّت آلاف العمليات العسكرية ضدهم، وخصوصاً خلال فترة الاحتلال (1982-2000) عندما كانت تنكل بسكان الجنوب اللبناني، وتعمل على تذكية التوترات والانقسامات الطائفية (…).
إن تجربة المدنيين اللبنانيين مع العمليات العسكرية الإسرائيلية العشوائية التي تطال كل لبنان تؤثر بشكل أكبر على عملية اتخاذ القرار لديهم. وسوف تعمل هذه الأعمال العدائية على تعزيز قناعات أنصار حزب الله المدنيين. وقد يصبح بعض الذين لم يكونوا مقاتلين من قبل على استعداد للانضمام إلى حزب الله والقتال في صفوفه (…). وكما حدث بين عامي 1982 و2000، فقد تحشد قطاعات أكبر من السكان اللبنانيين ضد إسرائيل.
في المجمل، يشير سجل عمليات “القتل المستهدف” إلى أن إسرائيل لن تنجح في تدمير حزب الله مهما صعَّدت عملياتها العسكرية. فهي تتبع هذا التكتيك منذ عقود من الزمن. وبدلاً من الانهيار، أثبت حزب الله قدرته على الصمود والتكيف والتطور. وقد أدَّت محاولات “قطع رأس القيادة” إلى تصعيد المواجهات – كماً ونوعاً – وإلى توسع الحزب تنظيمياً، وفي الوقت نفسه، استمر النفوذ الإيراني في لبنان.
لا أحد يعرف هذا أفضل من الشعب اللبناني نفسه. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024، قال رامي مرتضى، سفير لبنان لدى المملكة المتحدة، رداً على تهديد نتنياهو بتحويل لبنان إلى غزة ثانية: “إن الهجمات الإسرائيلية سوف تعمل على ترسيخ حزب الله. وسوف تصب في مصلحة ما يُردّده حزب الله منذ أربعين عاماً، وهو أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة”.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) سارة إي. باركنسون هي أستاذة مشاركة في العلوم السياسية والدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز. مؤلفة كتاب “ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان في زمن الحرب“.
جونا شولهوفر-فول أستاذ جامعي في العلوم السياسية بجامعة لايدن (هولندا) وأستاذ زائر في مركز أبحاث “تحولات العنف السياسي” بجامعة غوته ومعهد أبحاث السلام في فرانكفورت. مؤلف كتاب “المستنقع في الحرب الأهلية“.