في 28 آب/أغسطس 2016، بدأت عملية “درع الفرات” التي قادتها تركيا ضد “تنظيم داعش” داخل الأراضي السورية. لم تمر بضع ساعات إلا وكانت الدبابات التركية داخل التراب السوري خارقة بذلك سيادتها، ومُدخلة معها بضعة فرق عسكرية راجلة ومؤللة من المعارضة السورية.
لم يكن هذا التدخل التركي الأول من نوعه منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011 ولا كان الأخير. إذ أن الأتراك عمدوا لمرات عديدة إلى قصف الأراضي السورية ودخولها تحت ذرائع وحجج متعددة. حيناً هُم يحاربون “الدولة الإسلامية” (داعش)، وحيناً آخر هُم يحمون ضريح “سليمان شاه”، وأحياناً أخرى هُم يمنعون الأكراد من إقامة منطقة مستقلة عند حدودهم الجنوبية. إلا أن كل هذه الحجج تصطدم بالواقع القانوني الذي لا يُتيح لدولة دخول أخرى من دون موافقتها، وذلك على الرغم من الجدل الذي استمر طويلاً حول مدى شرعية السلطة التي كانت قائمة في دمشق من جهة، وتحت وطأة التهديدات التي يواجهها الأمن القومي التركي من الحدود السورية من جهة أخرى.
ولطالما كانت العلاقات التركية – السورية متوترة حتى منذ ما قبل استقلال البلدين، وهي علاقات أخذت فيها القوانين والإتفاقيات الثنائية كما جنازير الدبابات دوراً في تشكيلها. في التالي خلفية للصراعات المستدامة بين تركيا وسوريا منذ “اتفاقية أنقرة” عام 1921 وحتى عملية “درع الفرات” عام 2016، تليها مقالة ثانية حول الاجتياح التركي الثاني لشمال سوريا عام 2019، الأعمال التركية بحق الأكراد، ودخول حلفاء رجب طيب إردوغان إلى دمشق.
لواء الاسكندرون
مع سقوط الدولة العثمانية ودخول فرنسا وبريطانيا إلى المشرق كدول منتدبة على شعوب المنطقة قبل قرن ونيف من الزمن، نشأت قضايا خلافية كثيرة بين الدول التي تشكّلت إثر الحرب العالمية الأولى، والتي ما تزال تتردد آثارها إلى يومنا هذا. وكانت قضية لواء الإسكندرون واحدة من هذه القضايا التي بقيت شائكة حتى زمننا الحالي، وهي المنطقة التي تنازعت سوريا وتركيا عليها منذ عام 1921، تاريخ “اتفاقية أنقرة” الموقعة بين تركيا ودولة فرنسا المنتدِبة على سوريا.
وقد نصت المادة السابعة من “إتفاقية أنقرة” على “إقامة نظام إدارة خاص للواء الإسكندرون، وضمان حصول الأتراك فيه على كامل التسهيلات لتطوير ثقافتهم الخاصة وإعطاء اللغة التركية صفة رسمية. إلا أن فرنسا تصرّفت كلاعب الميسر الذي تعامل مع لواء الإسكندرون، حسب ظروف اللعبة السياسية، كما حسب طبيعة العلاقة بينها من ناحية وبين تركيا وسوريا من ناحية أخرى. وعلى الرغم من تفضيل فرنسا مقايضة تركيا على اللواء في غالب الأحيان، إلا أنها قايضت السوريين عليه مرات عديدة، فكانت تسمح للواء بأن يتمثل في المجالس السورية المحلية حيناً، وأن يكون له نواب وممثلون عرب أحياناً أخرى. إلا أن المقايضة تلك لم تكن كاملة، بل أبقت فرنسا على نوع من استقلالية للواء عن كل من تركيا وسوريا، كما ضمنت له، إلى حد كبير، استقلالية مالية وإدارية.
هاتاي بدلاً من الإسكندرون
في العام 1936، جرت انتخابات نيابية مهمة في لواء الإسكندرون، فاز فيها العنصر التركي على العنصر العربي الذي فضّل مقاطعة الإنتخابات احتجاجاً، فبات الممثلون الشرعيون لسكان اللواء يتحكمون بالسلطة فيه ويُقوون الأتراك على العرب، فيما كانت الصدامات المتكررة بين الطرفين تُوقع العديد من الضحايا على مدار السنة. وفي العام 1939 انسحبت فرنسا بشكل نهائي من اللواء بتنسيق مسبق مع الأتراك، فقامت دبابات الجيش التركي في الأيام التي تلت الانسحاب بالسيطرة على المنطقة، وكانت النتيجة انضمام اللواء إلى الجمهورية التركية وجعل إسمه “هاتاي” بدلاً من الإسكندرون.
ولم يُغيّر الموقف السوري الرافض للاتفاق الفرنسي – التركي شيئاً في قضية اللواء السليب، فذهبت المواقف المؤيدة لوحدة الأرض السورية هباءً منثوراً لم يُغيّر حرفاً في حقيقة أن المنطقة المتنازع عليها باتت في عهدة أنقرة باعتراف دولي. كما قدّمت سوريا الكثير من الشكاوى إلى الأمم المتحدة وسعت إلى فتح النقاش في موضوع اللواء بعدما حصلت على استقلالها، إلا أن الجانب التركي كان يرفض أي وساطة أو مسعى، أو حتى التكلم في موضوع يمس بوحدة أراضيه.
وبما أن لا إمكانية لمقارنة القدرة العسكرية السورية بتلك التركية في تلك الفترة، ضاع اللواء من أيدي دمشق. هذا في وقت لعبت فرنسا دوراً ماكراً في التفريط بالأراضي السورية، على الرغم من أن صك الانتداب كان يُلزمها بالمحافظة على أراضي الدولة المنتدبة عليها. إلا أن الأجواء السياسية والعسكرية التي كانت قد بدأت تخيّم على أوروبا عام 1939 دفعت بفرنسا إلى إرضاء تركيا بلواء الإسكندرون مقابل ضمان وقوفها بصفها ضد ألمانيا النازية.
اتفاقية أضنة المذلة!
بعد الحرب العالمية الثانية، مارست سوريا سياسة تقليدية تجاه موضوع اللواء، حيث قامت بحثّ سكانه العرب، وبخاصة أبناء الطائفة العلوية منهم، على الهجرة إلى دمشق والاستفادة من سيطرة حزب “البعث” على السلطة في العام 1963. كما أبقت على زعمها بأن أرض اللواء ملكها أكان في إعلامها وكتبها المدرسية أم في خطابات ساستها وفي لقاءاتهم الدبلوماسية. إلا أن هذا الإدعاء إنتهى بشكل جدي عام 1998 مع إجبار دمشق على توقيع “إتفاقية أضنة”، التي تضمنت شروطاً قاسية فرضتها تركيا على جارتها في مواضيع الأمن والمياه والأكراد. وذلك بعدما استخدمت تركيا علاقاتها الجيدة مع إسرائيل خلال تلك الفترة، كما سوء علاقة سوريا بكل من العراق والأردن لتشكل نوعاً من كماشة جغرافية عليها، أجبرتها، بعدما حرّكت دباباتها تهديداً لحدود سوريا، على توقيع الإتفاقية المُذلة!
وعلى الرغم من أن “إتفاقية أضنة” لم تذكر بشكل حقيقي قضية اللواء، إلا أن الساسة الأتراك والدبلوماسيين الغربيين يؤكدون دوماً، وبشكل أقرب إلى الإجماع، أن واحدة من بروتوكولاته السرية تضمنت تخلي سوريا عن المطالبة بلواء الإسكندرون في أي لقاء دبلوماسي أو أمام أي هيئة دولية. وهذا ما لم ينفه أي طرف سوري بشكل رسمي، على الرغم من أنه لا وجود لأي وثيقة رسمية منشورة تؤكد وجود هذا البروتوكول السري، هذا في وقت تتصرف جميع القوى الفاعلة في قضية اللواء على أن وجود البروتوكول هو حقيقة لا لبس فيها.
وتُعطي قضية لواء الإسكندرون فكرة كيف أن القانون هو آخر ما تم اللجوء إليه في العلاقات التركية – السورية. فلم يتم اللجوء إلى التحكيم الدولي في القضية، أو حتى التفاوض حوله بشكل دبلوماسي، بل كانت الدبابات، في العام 1939، كما في العام 1998، هي الفيصل الذي حدد الملكية النهائية للواء لمصلحة الأتراك.
ضريح “سليمان شاه”!
على بُعد حوالى 30 كيلومتراً من الأراضي التركية، توجد منطقة صغيرة في الداخل السوري تابعة لسيادة أنقرة وفيها ضريح “سليمان شاه”، جد مؤسس الدولة العثمانية “عثمان الأول”. وكان “سليمان” قد غرق عام 1231 خلال محاولته عبور نهر الفرات، فأقيم له قبرٌ في المكان، ثم عاد العثمانيون عام 1516 وبنوا مزاراً حول القبر. ولاحقاً، عام 1916، تم وضع منطقة ضريح “سليمان شاه” تحت السيادة السورية تبعاً لاتفاقية سايكس بيكو التي أنشأت معظم دول الشرق الأوسط.
لم تدم السيادة السورية على ضريح “سليمان شاه” كثيراً، إذ أن “إتفاقية أنقرة” الموقعة بين فرنسا وتركيا عام 1921 تضمنت في مادتها التاسعة نقل السيادة على الضريح إلى الجانب التركي، فتكون فرنسا بذلك قد فرّطت مرة ثانية بسيادة الدولة السورية. وتبع هذا الأمر التوقيع على عدد من الإتفاقيات بين الجانبين التركي والسوري نصت على حراسة الجنود الأتراك للضريح، كما إمكانية دخول الأتراك عسكرياً إلى هذه المنطقة لتبديل الجنود بعد إطلاع الجانب السوري على ذلك في كل مرة.
إلا أن الحرب السورية جعلت من الضريح والمنطقة المحيطة به قضية تتخاصم الجارتان حولها، بخاصة بعد وصول جنود “الدولة الإسلامية” (داعش) إلى محيط الضريح ومحاولتهم الدخول إليه، وإصدارهم فيديو يدعو إلى تدميره وتدمير كل المزارات الدينية والتاريخية الأخرى. ثم تبع هذا الأمر قيام تركيا، في أوائل عام 2015، بإدخال رتل عسكري ضخم عبَر الحدود السورية وصولاً إلى الضريح، وإجلاء حوالى 40 عسكرياً تركياً كانوا يحمونه، وتم نقل الضريح إلى منطقة أخرى كانوا قد استولوا عليها داخل الأراضي السورية.
قد تكون أنقرة قد أبلغت دمشق حول هذه العملية بشكل رسمي أو غير رسمي، وربما لم تفعل ذلك أبداً، إلا أن الخرق الحقيقي لسيادة دمشق وقع مع استحداث مكان جديد داخل الأراضي السورية لوضع ضريح “سليمان شاه” عليه. وهو مكان في أقصى شمال سوريا ولا يبعد عن الحدود التركية إلا عشرات الأمتار. وبرغم الإعتراض السوري إلا أن انشغال دمشق في الحرب الداخلية لم يسمح لها بأي شكل من الأشكال بمحاربة الجيش التركي الذي يفوق جيشها قوة وعديداً وعتاداً بأضعاف مضاعفة. كما أن تركيا، تماماً كما فعلت في موضوع لواء الإسكندرون على مدى العقود الماضية، رفضت البحث في موضوع اقتطاعها قطعة من الأراضي السورية، ولم تقبل اللجوء إلى القانون الدولي من أجل البت بهذه المسألة.
تركيا في شمال سوريا
منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، عمد البرلمان التركي إلى إقرار تفويض يجيز للحكومة التركية قيادة عمليات عسكرية خارج الحدود “من أجل مواجهة المخاطر المُهدّدة للأمن القومي (التركي)”. كما عمد البرلمان إلى تجديد هذا التفويض سنوياً بموافقة معظم الكتل النيابية. ويمنح هذا التفويض الحكومة صلاحية اتخاذ كافة التدابير الضرورية ضد التهديدات الإرهابية وجميع أشكال المخاطر الأمنية التي تتعرض لها الدولة وسكانها وذلك ضمن إطار القانون الدولي. كما أجاز التفويض صراحة للحكومة إرسال قواتها المسلحة إلى دول أجنبية حدّدها بالعراق وسوريا، وأبقى لها صلاحيات تحديد حدود ومدة العمليات العسكرية وكمية الأفراد المشاركين فيها.
وخلال السنوات الماضية استخدمت تركيا، حكومة وجيشاً، هذا التفويض للرد على القذائف التي كانت تطلق على أراضيها من جانب الجيش السوري حيناً، ومن جانب “الدولة الإسلامية” أحياناً أخرى. كما استخدمت التفويض ذاته لشن عمليات عسكرية جوية على مواقع حزب “العمال الكردستاني” شمال العراق، وحزب “الإتحاد الديمقراطي” الكردي شمال سوريا.
وفي العام 2016، أعلن الجيش التركي بداية عملية “درع الفرات” داخل الأراضي السورية، وأكد أن دباباته قد دخلت إلى بعض القرى والمدن على الجانب الآخر من الحدود. كما أعلنت الحكومة أن جيشها يستخدم حقوقه في الدفاع عن أمن تركيا القومي، وهي حقوق تنبع من الاتفاقيات الدولية ومن التفويض الذي منحها إياه البرلمان. كما حدّدت الحكومة أن المخاطر ضد أمنها القومي نابع من وجود “الدولة الإسلامية” (داعش) قرب حدودها، كما سيطرة مقاتلين أكراد معادين لها على مناطق واسعة في شمال سوريا والعراق، مؤكدة أن ارتفاع حجم المخاطر والتهديدات للعناصر الإرهابية في كلا البلدين يُشكّل خطراً عليها وعلى شعبها.
وارتكز التبرير القانوني التركي بالدخول إلى سوريا على القرار رقم 2249 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، والذي دعا الدول إلى “القيام بكل ما في وسعها لمضاعفة وتنسيق جهودها لمنع وإحباط الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم داعش وجبهة النصرة”. كما حثّ القرار الدول على “تكثيف جهودها لوقف تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب إلى العراق وسوريا ومنع وإحباط تمويل الإرهاب”. وهذا ما يُبرّر، بالنسبة لتركيا، إجراء عملية عسكرية خارج حدودها، طالما أن القرار رقم 2249 أجاز لها مقاتلة التنظيمات الإرهابية، بخاصة وأن أمنها تعرض خلال الحرب السورية إلى تهديد فعلي، أكان من خلال إطلاق الصواريخ على أراضيها، أو تنفيذ عناصر من “الدولة الإسلامية” تفجيرات إرهابية في بعض المدن التركية.
من ناحية أخرى، يبقى موقف دمشق الرسمي اليتيم الذي عبّرت عنه وزارة الخارجية السورية في رسالة مفتوحة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في حينها، بان كي مون وإلى مجلس الأمن، واعتبرت فيها أن عمل تركيا هو عبارة عن “مجازر وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان”، ووصفت عملية “درع الفرات” بأنها “غزو للأراضي السورية”، في حين تجاهل بان كي مون الرسالة ولم يأخذها على محمل الجد أو يتكفل عناء الرد عليها. هذا في وقت كانت الدبابات التركية قد سيطرت بالفعل على عدة قرى ومدن شمال سوريا وطردت جنود “الدولة الإسلامية” (داعش) كما الأكراد منها، من دون أن تقوم دمشق بأي رد فعل عسكري، قانوني أو حتى سياسي أبعد من الرسالة الموجّهة إلى أمين عام الأمم المتحدة ومجلس الأمن.