

لم تعد تُجدي نسبةُ تلك الجرائم التي شهدناها مؤخراً إلى فلول النظام البائد، كما جرت العادة، أو إلى حالات فردية. يجب الاعتراف بالواقع: الضالعون أكثرهم من الفصائل المسلحة، وربما من “هيئة تحرير الشام”، وإلا لتمت ملاحقتهم كما تلاحق «فلول النظام».
الحقيقة مكشوفة – بما أنّ البلد «ضيعة» كبيرة، أخبارها تدور على أنحاء الوطن وسرعان ما تنتشر في المغتربات- وقلّما توافق الصيغة الرسمية. فالبعض يعتبر أن تلك الجرائم تأتي تشفياً من طائفة بمجملها تؤخذ بجريرة نظام من صُلبها، كما لو أن الكثيرين من أفرادها لم يكونوا من ضحاياه، وكما لو أن عبد العزيز الخيّر – وهو ابن القرداحة – أو عارف دليلة وكثيرين غيرهما لم يقفوا في الصف الأول من المعارضة للحكم. ويخشى آخرون تأتي هذه الجرائم وفق مخطط واضح يقضي بأن يُعوّض المقاتلون الوافدون عمّا خسروه، من ممتلكات سُلبت أو من رواتب لم يتقاضوها، بالسطو على ممتلكات طائفة ما، من دون اللجوء إلى الهيئة القضائية. وقد ينسبها البعض الآخر إلى متنفذين عسكريين يستغلون الحروب لتكديس الثروة، تماماً كما كان ضباط النظام، أثناء اقتحامهم الغوطة الشرقية، يتقاسمون الأحياء فيُخلونها من أهلها وينهبونها. وإلى مثل ذلك كان الغزاة، أياً كانوا، يلجأون بعد كل نصر: يُبيحون لجندهم لفترة ما نهب المدينة المفتوحة، إما لقاء أتعابهم أو بمثابة مكافأة إضافية لهم على مساهمتهم في النصر.
وأياً يكن الأمر، فإن ذلك التصرف شديد الخطورة، ولا سيما أنه يغري بالامتداد بسرعة إلى مجموعات وفئات اجتماعية أخرى. وإن لم يوضع له حدٌّ على الفور وقُدّر للسطو والقتل أن يتماديا، فعلى الوطن السلام.
إنّ شُكرَنا لإخواننا الوافدين من إدلب أتى عن صدق، من حيث أنهم ملأوا فراغاً كنا نخشى أن يمتلئ بالدم السوري. ولكن الشكرَ، وهو على كل حال لا يدوم إلا لله سبحانه، كادت تجفّ منابعُه، لأن أكثر الوعود التي قام عليها العقد المعنوي بيننا بقيت وعوداً، فيما شروط الحياة ترمي بثقلها على الناس أجمعين. لذا ننتظر من أولي السلطة، وبالاحترام الواجب لمناصب لم يساومهم عليها أحد، أن يتوجّهوا إلى المواطنين لا بلغة البلاغة، بل بلغة القلب، وهي وحدها التي تتحلى بالصدق، وبالصدق، وبالصدق. نعم، ننتظر منهم ألا تناقض أفعالُهم أقوالَهم على مدى أيام وأسابيع. وكما أخلصنا لهم الشكر، فليخلصوا لنا القول، ولهم بعد ذلك أن يطلبوا منا السند والدعم فيما يؤول لمصلحة الوطن بأجمعه. إننا نستشعر لهب الجمر يستعر تحت الرماد، فتكرّموا بإشراكنا في مساعيكم. وبعدها، كما تكرّمنا بالشكر والترحيب، نتكرم بقبول «طرائق» نصوغها معاً. في سبيل الوطن المنشود. اقتضى التنويه!
حصار متعدد الأوجه
وأما بعد؛
لنعد إلى موضوعنا، إلى ما يعانيه الوطن من حصار مزدوج يكاد يقصف ظهرنا. حصار داخلي، يحول دون قيام دولة المواطنة تحت رعاية دستور يُقرّه الشعب، من خلال ممثليه الشرعيين أو بتصويت مباشر، فيضمن الحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية، وتُطبّقه دولة تسهر على وحدة الوطن وسيادته على كامل ترابه. ثم حصار خارجي يتمثل بالعقوبات الاقتصادية (“قانون قيصر” الأميركي)، التي بعد أن أنهكت الجسد، راحت تطحن الروح، حين زجّت بالمواطن في العوز والفقر، فأصبح همه الوحيد تأمين كفاف لقمة عيشه اليومية، مستسلماً لقدر يحول بينه وبين التفكير ببناء مستقبله الفردي والجماعي تحقيقاً لكرامته الإنسانية.
حصارنا اليوم، وهو متعدد أوجه، أدهى من ذلك الذي صوّره قلم محمود درويش إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية في قصيدته الرائعة «حالة حصار». ذلك أنه يدور في مرحلة تحوّلت فيه العولمة من كونها أداة تواصل بين الأفراد والشعوب إلى أداة هيمنة شبه مطلقة يمارسها الرأسمال – بوصفه إلهاً واحداً أحد – على النخب المتحكمة بالسلطة والاقتصاد، فيتسنّى له أن يتمكّن ليس فقط من رقاب الشعوب ومصيرها، بل أيضا من مخيلتها الفردية والجماعية، ليُحوّلها إلى قطيع من العبيد.
إنّا نعيش حقبة تاريخية شديدة الشبه بما يذكره التاريخ عن الامبراطورية الرومانية وهي تشرف على الزوال، من جرّاء انهيار أحوالها بسبب غياب قيمها الجمعية وأهدافها المشتركة، بحيث أنها تتناسى قبائل الغزو المتربصة بها على أسوار المدينة.
دروب التوحش!
إن عالمنا الراهن، وعلى عكس ما يوحي به التقدم العلمي الباهر، يسير على خطى تلك الإمبراطورية، في طريق توحُّشٍ يتفاقم يوما عن يوم. فبعد أن قضى على قيم سامية كان يدين بها فترة، ها هو يقضي على القيم الإنسانية التي كرّسها هو نفسه بالأمس، وعلى رأسها القوانين الدولية الناظمة للعلاقات بين الشعوب وبين الحكام والمحكومين. أي تلك القوانين التي استُنبطت من مجزرة الحرب العالمية الثانية، فقامت مقام شرعة دولية استكملت مبادئ الثورة الفرنسية التأسيسية، فصوتت عليها الأمم المتحدة بالإجماع.
ويكفي على ذلك التوحش شاهداً إجرام الصهيونية الإسرائيلية في السنتين الأخيرتين تجاه الشعب الفلسطيني، وامتداداً إلى شعبي لبنان وسورية. توحشٌ دعمته معظم الدول الغربية، مُتنكّرة لكل ما تتشدّق به من قيم، وعلى رأسها ذلك القانون الدولي القاضي بحماية المدنيين أثناء الحرب الذي أضيف إلى شرعة الأمم المتحدة بعد انعقاد محكمة نورنبيرغ . فهي اليوم محكومة بنُخب رعناء توغل في التوحّش وهي تسعى إلى ترميم سلطانها المهدد داخلياً (الانتفاضات الشعبية) وخارجياً (انتفاضات الشعوب المقهورة). وهي لا تتورع الآن من أن تجرف معها، في مسارها العدمي هذا، عدداً من نخب دول أخرى، دانت لها طمعاً أو خوفاً. وفي مواجهة ذلك الغرب الأطلسي، تسير شعوب من الشرق (ونحن من عدادها) هي أيضاً في طريق التوحش، حتى وهي تسعى إلى الدفاع المشروع عن نفسها. تتخبّط في اختيار الأسلوب المناسب، وتعجز في نهاية المطاف على تلمّس سبيل يتجنّب سريان العنف إلى داخلها. فأنّى توجهتَ، حروبٌ أهليةٌ مستعرةٌ أو متوقّدةٌ تحت الرماد على مدار الوطن العربي، تدلّ على تغوّلنا، من الداخل. يكفي على ذلك شاهداً أن مقاومة العدوان الغربي وما خلّفه من استبداد داخلي آلَ إلى «عرس» من العنف الهائج في كل من لبنان والعراق وليبيا والسودان وسورية؛ عنفٌ يتنافى مع القيم الدينية المعلنة ويتناقض مع طموحات الشعوب. ولعلّ سورية قد استحقت، في حربها الأهلية الفظيعة، أن تنال سعفة التفوق الثانية بعد أسبانيا فرانكو (في ثلاثينيات القرن الماضي) في مجال التغوّل الذاتي.
جرّ ذلك التغوّل علينا شرّين عظيمين: من جهة، الحظر الاقتصادي (“قانون قيصر” الأميركي-الأطلسي) المتنكر بزي أخلاقية أممية. فاستباح مصير شعب بكامله بذريعة مساعدته على بناء الديموقراطية. ومن جهة أخرى، تبنّي المعارضة للنظام البائد، وبسرعة فائقة، نهجاً جهادياً أممياً، مُتلبّساً بزيّ ديني، تخفّى تحته وحش، يعرف باسم “داعش”.
ومن المؤسف أنه، في كلا الحالتين، تواطأت معظم النخب، عن علم منها أو عن جهل، مع هذين الشرين الداهمين. وبالرغم من انكشاف الأمور، لا تزال هذه النخب عاجزة عن الاعتراف بخطأها، لفداحة نتائجه.
ولا بد من تذكير هذه النخب بأنها ساهمت منذ البداية في دفع حراك الشبيبة المدني إلى العسكرة، تحت وصاية قوى خارجية، محلية ودولية، تنصاع لمصالح لا علاقة لها بمصالحنا الوطنية، ما أدّى، بعد أقل من سنة ونصف، إلى حرب أهلية هوجاء، أضفت عليها صفة الشرعية بتسميتها «ثورة» (تسمية لا تزال تتمسّك بها)، كما ظلّ النظام يُبرّرها من جهته بكونها دفاعاً عن الدولة والشرعية.
ومن حسن الحظ أن بعض المناضلين – ممن شاركوا في وقبعوا أحياناً في سجون النظام على مدى عقد أو عقدين – لم يعودوا يجدون أي حرج في التأكيد على أنّ ما يجوز تسميته «الثورة»، كما جسّده حراك الشبيبة، اختفى من الوجود عام ٢٠١٣، حين صعد نجم “جيش الإسلام”، فأنهى دور الحراك وقضى على الناشطين الحقوقيين من رجال ونساء اشتهرت بينهم المحامية رزان زيتونه. مُذّاك تلاشى دور الحراك وعصفت بالوطن حرب أهلية شعواء.
من مصلحة الوطن أن يصدُق رأس الحكم الشعب السوري بصدد مشروعه الذي ما يزال يبدو ضرباً من اللغز، وألا يستسلم للعقلية الجهادية، ولا سيما أنه اعترف أمام الصحافة العالمية أن تجربته تلك تشكل مرحلة ذهبت إلى غير رجعة. ولذا فإنّا نرجو بأنه إذا، لا سمح الله، تناقضت المصالح واللغات، فإن ولاءه سيكون أبداً لشعب سوريا، لا لجهادية هو أعلم الناس ببؤس انجازاتها!
جهل.. النخب!
يجب التأكيد على أن مفهوم الثورة لا ينطبق إلا على دينامية الحراك التأسيسي، الذي حملت الشبيبةُ السلمية وحدها مشعله المقدس وعمّدت أرضنا بدمها الطاهر. وهي وحدها التي تتناغم مع جوهر الثورة التي قام بها نلسون مانديلا ورفاقه في جنوب إفريقيا، أو تشي جيفارا في أميركا اللاتينية.
ومن باب الوفاء لأهل الفضل أن نسمّي الأمور بأسمائها، لئلّا تختل المعايير ويتعذر على الإنسان وعيه لنفسه، فيقع في التيه والعجز. صدق مصطفى لطفي المنفلوطي حين نعى على عصره، لقرن خلا، «ضلالَ الأسماء عن مسمياتها، وحيرة مسمياتها بينها، واضطراب الحدود والتعاريف حتى سُمي الشحُّ اقتصاداً والكرم إسرافاً والحلم جبناً، والفجور فتوة والتبذل حرية، واشتبهت طرق الفضيلة ومسالكها على من يريد ركوبها».
وليس من باب الصدفة أن تكون هذه النخب نفسها هي التي هلّلت لـ”قانون قيصر” بحجة أنه سيُسقط النظام المجرم خلال أسابيع، فأعدوا العدة مع الائتلاف الوطني للتربع في قصر الشعب قبل نهاية ذلك العام المشؤوم. والنتيجة تفقأ العين: شعب سورية المعروفة بثرواتها يتهاوى إلى قعر الفقر بنسبة تتجاوز، وفق الإحصاءات العالمية، الثمانين بالمئة، ويعيش الهوان والذل، بينما راح النظام يتلقف اللقمة من فم الجائع، وراح أغلب أهل الائتلاف يستأنفون حياتهم «الوادعة» في بعض عواصم العالم. وأنكى من ذلك كلّه، ادّعاؤهم بأن ذلك الحصار هو الذي أدّى إلى سقوط النظام، فيما تثبت القرائن أن سقوطه تمّ من داخله، بعد أن استعدى الشعب بأكمله وتخلّى عنه حلفاؤه، وبسقوطه تمكن العدو الإسرائيلي-الأطلسي من الإطباق على المقاومة في لبنان. وبما لا يكاد يتجاوز رفّة العين، تبخّر جيش سورية، فراح العدو يستبيح تراب الوطن ودفاعاته، ثم يتمدد حتى مشارف دمشق، دون أن يردعه رادع. ومن فداحة جهل هذه النخب أنها لم تستدل من تاريخ العقوبات الدولية، عادلة كانت أم ظالمة، على عدم جدواها. فهي، منذ نشأتها، لم تنجح إلا في حالة واحدة استئصال نظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا. وهي حالة استثنائية ناجمة عن الهشاشة العددية الفادحة المرتبطة بذلك النظام.
لملمة أوصال الوطن أولاً
والآن، وقد ذاق الجميع طعم حرية لم يختبرها إلا من هم منا فوق السبعين، نتطلّع إلى صيغة ديموقراطية للحكم، مبنية على دستور منبثق عن شرعية شعبية تحل محل «الشرعية الثورية» الطارئة (التي ما تزال تُزكّي نفسها لنفسها)، فيضمن استقلال القضاء ليُقيم العدل باسم القانون وحده. وكلنا اليوم مجمعون، سلطةً وشعباً – بما فينا المعترضون على بعض ممارسات وقرارات وأفعال الحكم القائم – على المطالبة برفع حصار شكّل في الواقع صيغة وحشية لاستكمال الحرب الأهلية.
ولكن لا بد من التنبيه إلى أنه لا يجوز أن يُستغلّ رفع الحصار في غير موضعه، بل يجب أن يؤول أوّلاً وأخيراً إلى خدمة المصلحة العامة، فلا يؤخذ مطية لركوب ليبرالية متوحشة يفرضها علينا الخصم والحَكَم معاً (أي أميركا-إسرائيل-الحلف الأطلسي) ليستأثر هو وتابعوه بالثروة من دون الطبقة الشعبية المتمثلة بالسواد الأعظم من الشعب. ألم نرَ أن مثل هذه الليبرالية لم تجدِ نفعاً في مصر ولا في غيرها؟ كما لا ينبغي أن يؤول إلى تثبيت النظام على حالته المنقوصة الراهنة فيهمل المطالب الوطنية الأساسية، وعلى رأسها لملمة أوصال الوطن المتقطعة وضمان كرامة المواطن وحريته، لئلا يُرتهن من جديد مصير الوطن. وإلا، نعم وإلا، عدنا إلى الخانة الأولى، خانة النظام البائد.
إننا نعلم علم اليقين أن على المسؤولين رفع تحديات لا قبل لهم بها إلا مع الشعب وفي سبيله.
وبما أننا نفضل أن نفترض فيهم حسن النية وحسن السعي، نأمل أن يستقووا، في سبيل ذلك، بالحاضنة العربية والإسلامية والدولية القادرة على دعمنا، خارج الإطار الإيديولوجي أو الإمبريالي المتحكم بمصائرنا منذ معاهدة سايكس-بيكو. وقد يكون من الضروري الترفع عن الجراح التي تسببت بها مقاومة كان لها في لبنان على الأقل شرف ردع العدو على مدى عدة عقود. فمصالحنا المشتركة ما تزال قائمة، برغم كل عداء، ومصيرنا ما يزال متواشجاً. ولا بد كذلك من الترفع عن الإيغال في معاداة جيران لنا أو قوى عالمية صاعدة تحالفت مع النظام القديم، إذا ارتضت التعامل معنا ندّاً لند، ومنها روسيا والصين وحتى إيران التي ما يزال يُحسب لها الحساب على المستوى العالمي.
الخروج من “الجهادية”
من المؤكد أنّ سلامة الوطن مرهونة برفع الحصار الآخر، الحصار الإيديولوجي المتمثل بالجهادية، دينية كانت أم إيديولوجية، بخاصة وأنها لم تجرّ إلا الخراب على شعوب كثيرة: منها كمبوديا أثناء حكم الخمير الحمر، وأفغانستان بشعبها المسلم الوديع قبل أن ينجرّ إلى عصبية ليست منه في شيء. فتلك الجهادية ما هي إلا الوجه الأبشع من حرب أهلية نسعى إلى الخروج منها نهائياً، حتى لا نفقد هويتنا السورية العربية وحتى تلك الإسلامية السمحة التي يعرفها الجميع عنا وطالما افتخرنا بها. فالجهادية ليست من حمضنا النووي، ولا من أخلاقنا. ألم نشهد على فظاعتها في الإيديولوجية الصهيونية الإسرائيلية، بصيغتها اليهودية، التي هوت إلى أدنى دركات الانحطاط الإنساني في تعاملها مع أهلنا في فلسطين كما مع جوارها العربي وحتى مع شعبها بالذات؟ ألم نشهد على فعل الجهادية الأميركية التي بدأت مسيرتها بالقضاء على الهنود الحمر (أكثر من ثمانين مليون قتيل)، ومن بعدها على الجهادية الإسبانية المنتحلة صفة المسيحية التي قضت على أكثر من نصف مليون نفس؟ ألم نختبر الجهادية القومية الأوروبية التي قتلت خلال الحربين العالميتين عدداً من أهلها يتراوح بين خمسين وثمانين مليون نسمة؟ وهل نعرف أن الجهادية الوهابية الساعية إلى توحيد الجزيرة العربية على أنقاض الأسرة الهاشمية في مطلع القرن العشرين أبادت من المسلمين السنّة أكثر من نصف مليون نفس على مدى عقدين ونيّف؟ فالجهادية تستبيح وتُشرّع لنفسها كل محرم، في كل مكان وكل ديانة وكل ثقافة. إذ أنّها تتغذى من عنفها الداخلي، متجاوزة في كل مرحلة أهدافها المعلنة ومقاصدها، في سعيها المجنون إلى التدمير، حتى التدمير الذاتي، كما آلت إليه “داعش”. وإن كان لا بد من جهادية، فلمَ لا نأخذ بجهادية عالية القدر، منبثقة من أرضنا ومستمدّة من نبل الإسلام، أقصد جهادية الأمير عبد القادر الجزائري في القرن التاسع عشر، وهو النابغة في لمّ الشمل وفي فن الحرب والفلسفة والتصوف ونظم الشعر، حتى أنه أبهر أعداءه بعنفوان المؤمن حتى وهو يستسلم لهم. ومن حسن حظنا أنه اختار دمشق محطة أخيرة، فاحتضنت ضريحه على بعد أمتار قليلة من ضريح ابن عربي.
ماذا عن لغة الوطن؟
لعلنا نتساءل في قرارة نفوسنا ماذا يتبقى اليوم من الفرحة الأولى، التي فكّت عقدة الألسن وعمّرت القلوبَ بالأمل؟
تبقى حرية التعبير والتداول والتجمع، ومعها حرية السفر والتنقل، مما جعل المغتربين يتوافدون للمشاركة في عرس جماعي عارم لم يشهدوا مثله قطّ من قبل. أما في الطرف الآخر فيتبقى حسن القول وحسن التعامل في أكثر الأحيان، بينما التصرف يتّخذ منحى آخر، بل منحى معاكساً. وما أكثر الأمثلة: خلل متزايد بالأمن؛ تدهور متفاقم في الحياة المعيشية؛ تساؤل مستمر عن وحدة الوطن وحمايته من العدو الإسرائيلي؛ قرارات مذهلة تمّ تنفيذها فأضرّت بمئات الآلاف من المواطنين؛ تغييب للمؤسستين التشريعية والقضائية وبالمقابل الإسراع المفرط في إقامة سلطة تنفيذية بالوسائل المتوفرة ولأمد طويل، إضافة إلى حوار مبتسر مقتضب، والعديد من نتائج أخرى يشير إليها المفكر الإسلامي محمد حبش، وكذلك الحقوقي عبود السرّاج الأستاذ في جامعة دمشق.
ومن الجليّ أنه هيهات أن تتجلّى في هذه التصرفات لغة الوطن، ولا لهجة بلاد الشام من أدناها إلى أقصاها. بل يستشعر البعض فيها لهجة تركية، لا ترقى -كما يشاع- إلى العثمانية بل إلى قومية تركية متعنتة، باشرها حزب تركيا الفتاة بمذبحة الأرمن عام ١٩١٥، ثم صاغها أتاتورك في إطار علماني مبتذل، قبل أن يترجمها وريثه وصنوه رجب طيب أردوغان بلهجة ظاهرها إسلامي وجوهرها قومي النزعة. وها شبح الحرب الأهلية يتراءى من جديد. «ما هكذا، يا سعد، تورد الإبل».
وأخيراً، إن غياب عقد اجتماعي واضح، مستوحى من تاريخ البلد وعبقريته الخاصة، ومكتوب بحبر الوطن ولغته، يربط بين الحاكم والمواطن، في سبيل تذليل العقبات الكبرى، من شأنه أن يثير شكوكاً متزايدة في صحة المسار، وقد يغري باندلاع العنف، لا قدّر الله. فمن مصلحة الوطن أن يصدُق رأس الحكم الشعب السوري بصدد مشروعه الذي ما يزال يبدو ضرباً من اللغز، وألا يستسلم للعقلية الجهادية، ولا سيما أنه اعترف أمام الصحافة العالمية أن تجربته تلك تشكل مرحلة ذهبت إلى غير رجعة. ولذا فإنّا نرجو بأنه إذا، لا سمح الله، تناقضت المصالح واللغات، فإن ولاءه سيكون أبداً لشعب سوريا، لا لجهادية هو أعلم الناس ببؤس انجازاتها وانعدام صلاحيتها!
قُلناها ونُكرّرها: وطنٌ يُستعادُ أو حربٌ أهليةٌ تُستأنفُ على غير وجه.