

“هيئة تحرير الشام” والتي يُعدّها هاكان فيدان بالطبع أحد أهم “إنجازاته التاريخية”، بكل ما تضم من مسلحين أجانب، لم تخرج يوماً عما ترسمه السياسة التركية ولو لساعة واحدة أو حتى لبضعة أمتار على جبهات أعزاز وعفرين. أبو محمد الجولاني نفسه قدّم للأمن التركي هدايا قيّمة في ملعب الاستخبارات كان أبرزها “ضبط الشارع” السوري يوم اشتعل القتال بين اللاجئين السوريين والأتراك من شوارع إسطنبول حتى أنقرة.
لا تفيد الإطالة هنا، ولكن السؤال البديهي هو هل كان بإمكان الاستخبارات التركية إيقاف المجازر بحق العلويين في الساحل السوري منذ اشتعال شرارتها في اليوم الأول أم لا؟
الجواب الذي يعرفه جميع العارفين بـ”سوريا الجديدة” من دول وأجهزة أمينة هو “بالتأكيد نعم”، فلماذا لم تفعل إذاً؟
قبل اشتعال المجازر الطائفية في الساحل السوري، برز عبر وسائل التواصل الاجتماعي نقاش يومي حول “حماية الأقليات” في سوريا، وكان للدروز والأكراد الحصة الأكبر من الاهتمام الإسرائيلي، أما على “الضفة العلوية” فبالرغم من صعود بعض الأصوات التي طالبت بحماية إسرائيل أو بحماية دولية إلا أن تأثير التداخل بين مناطق الساحل ولواء إسكندرون الذي تسيطر عليه تركيا كان واضحاً، فالتركيبة الديموغرافية والجغرافية بين المنطقتين متشابهة إلى حد كبير بالإضافة إلى التركيبة العرقية أيضاً.
ولطالما اتهم حكام أنقرة سابقاً الحكم في دمشق باستغلال الهوية العرقية والدينية لرئيس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان خلال تواجده في دمشق بالتأثير على الداخل التركي، كما أن منطقة ريف اللاذقية التي تعتبر امتداداً للواء اسكندرون سُميّت تاريخياً بجبل الأكراد. أما التركيبة العرقية للعلويين داخل تركيا والذين يبلغ تعدادهم حوالي 20 بالمئة من السكان أي ما يقارب العشرين مليون هي أيضاً مزيج من الكرد والسوريين.
اختارت أنقرة منتصف الشهر الماضي، الاتفاق مع أوجلان بعد سنوات من الاعتقال، وهي بذلك كما يقول صالح مسلم أحد قيادات “قسد” استهدفت من خلالها تخفيف الاحتقان الداخلي لديها أكثر ما استفادت من مواجهة “قسد”، التي إختار الشرع أيضاً الاتفاق معها بعد يوم من بدء المجازر بحق العلويين في الساحل السوري.
في هذا السياق، وجد أحمد الشرع نفسه بعد دخوله إلى دمشق، أمام معادلة في الحكم لا تشبه ما تصوره أبداً، وسرعان ما ظهرت في وجهه معادلة “معضلة الحكم لسوريا المتنوعة”، وبما أن الدولة السورية وجيشها كانا قد انهارا ما فتح الأبواب أمام تحول الجغرافية السورية إلى منطقة صراع نفوذ بين تركيا وإسرائيل، ما كان على تل أبيب سوى أن تُعيد فتح كتبها الدينية وتوجه دعوات لحماية الكرد والدروز وفي بعض الأحيان العلويين.
ويقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في معرض شرحه لأهمية “وقوف تركيا إلى جانب فلسطين”، إن الدفاع عن غزة هو بمثابة الدفاع عن الأناضول، وهو خرج اليوم ليتغنى بأربعة عقود من العلاقة بين تركيا وما أسماها “أرض كنعان”، كما حذّر من “مؤامرة خبيثة” لنقل الانقسامات الطائفية والعرقية إلى تركيا. وهنا يكون الرئيس التركي قد دلّنا بنفسه على استفادته من المجازر بحق العلويين في الساحل السوري التي كان بإمكان استخباراته إيقافها ولكنها لم تفعل ذلك.
وكانت اسكندرون قد شهدت في مطلع الأسبوع الحالي، تظاهرات عدة، من بينها تظاهرة قال فيها الشيخ العلوي سليم نارلي، إنه “في حال لم تتمكن تركيا من وقف ما يجري بسوريا، فإنّه سيتقدم بطلب إلى إسرائيل للتدخل لحماية العلويين”. وأثارت تصريحاته جدلاً كبيراً في تركيا، بينما كتب الشيخ نفسه قبيل المجازر في تعليق على موقع “فايسبوك”، إن جيش تركيا هو الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، وتركيا وسوريا إخوة والجيش التركي لا طائفية لديه، والحماية (أي الحماية التركية) عبارة عن فترة من الزمن حتى يستقر الحكم في سوريا، من الأفضل طلب الحماية من تركيا”. وكان ذلك في معرض نقاش حول طلب الحماية من تركيا أو من إسرائيل.
إنّ طلب العلويين الأتراك توفير الحماية للعلويين في سوريا من إسرائيل أحدث ضجة في الشارع التركي أعادت الجميع إلى دعوة الشيخ نارلي الأولى أي طلب الحماية من تركيا، كما أن حجم المجازر التي أدخلت الخوف إلى قلوب الناس، وطموح تركيا بالسيطرة على جبل الأكراد كامتداد للإسكندرون، بعدما دفعت للاتفاق مع أوجلان، ومسارعة أحمد الشرع إلى الاتفاق مع مظلوم عبدي ودعم مسعود البرزاني للاتفاق (البرزاني هو الجيب الكردي العراقي الذي لا يُخيف أردوغان)، ودعوة نارلي للحماية التركية وبيان الضابط السوري غياث دلا الذي دعا للتهدئة بعدما تمّ جره إلى مواجهة قرية الدالية في جبلة، توحي جميعها بأن الاستخبارات التركية نصبت فخاً لتقتل فيه المئات من المدنيين الأبرياء على مذبح تزاحم النفوذ بين “أناضول أردوغان” و”كنعان نتنياهو”.