

ما تزال دولة مصر، وبرغم ما تواجه من مشاكل اقتصادية ومالية ونقدية ومن حزام ناري سياسي ملتهب من القضايا (غزة وليبيا والسودان وسد النهضة)، بمثابة السدّ المنيع الذي يمنع انهيار ما تبقى من قوة عربية، ويعود السبب في ذلك بالدرجة الأولى إلى جيشها الأقوى في المنطقة، عقيدةً وتدريباً وعتاداً، وهو الأمر الذي يجعله هدفاً أساسياً لإسرائيل، ناهيك بعناصر قوة أخرى تتصل بالجغرافية والديموغرافية المصرية. برغم ذلك، ما تزال مصر تُشكّل الحلقة الأضعف والأقوى في الوقت نفسه في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ الحرب التي تُشكّل جزءاً من مخطط كبير تعمل على إسرائيل على تطبيقه منذ عقود، ويتمثّل بإنهاء القضية الفلسطينية عبر استكمال تهجير الفلسطينيين واحتلال أراضٍ عربية جديدة بذريعة أنها “حقّ موعود” لها، وهي قد أعادت التأكيد على مخطط “إسرائيل الكبرى” مراراً خلال الحرب الحالية على غزة.
ومنذ بداية حرب غزة، تقف مصر في موقف لا تُحسد عليه في ما يخص كيفية التعامل مع المشروع الإسرائيلي الهادف لتهجير أهل غزة وتصفية القضية الفلسطينية. فالقيادة المصرية تحاول قدر الإمكان الموازنة بين عدم السماح لإسرائيل بتهجير الفلسطينيين من غزة تحت عناوين إنسانية وفي الوقت نفسه ممارسة أقصى ما تستطيع من الضغط السياسي والديبلوماسي لوقف الحرب ولإجبار إسرائيل على السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والمواد الأولية اللازمة لكي يستطيع الغزيّون الثبات في أرضهم.
وقد تعرّضت مصر وما تزال لانتقادات شعبية وسياسية على خلفية مطالبتها بفتح الحدود مع غزة والدخول في مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي. وبعد أكثر من عام من الحرب، نجحت مصر بالتعاون مع دولة قطر، وبرعاية أميركية مباشرة، في التوصل إلى تسوية لوقف إطلاق النار في غزة، وهي خطوة تنفّست مصر من خلالها الصعداء تماماً مثل غزة لأسباب عدة منها أن الأخيرة، أي غزة، هي خط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري، وبالتالي فإن استقرارها يعني الاستقرار ليس فقط عند الحدود المصرية – الفلسطينية، بل استقرار مصر برمته. إلا أن “الاستراحة” لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مشروعه الشهير لتهجير سكان غزة ليُعلن لاحقاً التفافه على المشروع لا التراجع عنه، أي تبديل مقاربته بعد موجة الردود الرافضة لهذا المشروع من دول عربية وأجنبية، لا سيّما من الدول المعنية مباشرة بهذا المشروع، أي مصر والأردن بالدرجة الأولى ثمّ المملكة العربية السعودية. وهكذا، أعطى ترامب الضوء الأخضر للاحتلال لكي ينقلب على التسوية ويستمرّ في ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين تحت ذريعة الضغط على حماس للإفراج عن باقي الأسرى الإسرائيليين. كما بدأ ترامب بممارسة لعبته المفضلة، وهي تهديد مصر مباشرة وعلانية بوقف كل المساعدات العسكرية والاقتصادية لها إذا استمرّت في موقفها الرافض لتهجير الفلسطينيين، حتى أنه أوفد في الأيام الماضية عدداً من المسؤولين العرب إلى القاهرة وبحوزتهم رزمة من الإغراءات الأميركية في حال التجاوب المصري مع مشروع التهجير.
تقف مصر اليوم كما فلسطين والمنطقة أمام الامتحان الأهم وربما الأخير في مسار القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، فالمستهدف هو الجيش المصري الذي يُمثّل آخر معاقل القوة العربية في المنطقة وإن نجح مشروع التهجير من غزة إلى سيناء سيصبح مشروع التهجير من الضفة الغربية إلى الأردن، بمثابة تحصيل حاصل
وهنا، أعود إلى النقطة الأولى، وهي واقع أن مصر اليوم تشكّل الحلقة الأقوى والأضعف في آن معاً. فإسرائيل تريد محاصرة مصر وإضعافها، وتحديداً تريد القضاء على الجيش المصري الذي ما تزال تعتبره التهديد الأول والأكبر لها في المنطقة على الرغم من توقيع اتفاقية سلام مصرية إسرائيلية في العام ١٩٧٩. ولعلّ أهم ما يُميّز مصر عن باقي الدول العربية هو وجود عقيدة ثابتة عند الجيش المصري لم تتبدّل برغم اتفاقية كامب ديفيد وما تبعها، فهو لم يتراخَ يوماً، بل إن القيادة المصرية تستمرّ في تطوير ترسانة جيشها العسكرية. وفي المقابل، تنظر إسرائيل بعين الريبة إلى هذا التسلّح العسكري المصري، وهي تعلم تمام المعرفة بأن عقيدة الجيش المصري في العداء لإسرائيل لم تتغيّر يوماً. أيضاً، من البديهيّ القول إن إسرائيل ترفض وجود أية قوة عسكرية قوية وقادرة قرب حدودها، فكيف إذا كانت هذه القوة تمتلك عقيدة ثابتة كالتي يتمتّع بها جيش لم تستطع كل الأحداث والظروف أن تغيّرها برغم الحفاظ على “قواعد الاشتباك” ضمن إطار اتفاقية السلام.. ولنا في “النموذج السوري” خير عبرة، عندما شاهدنا على مدى أكثر من مئة يوم كيف أقدم الجيش الإسرائيلي على تدمير كل منظومة سلاح الجيش السوري.
وإذا أردنا العودة إلى التاريخ، ربما يجب التذكير بمقولة مؤسس الدولة الصهيونية دافيد بن غوريون الذي قال بأن “عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول، وهي مصر والعراق وسوريا”. وللأسف نجحت الخطة الإسرائيلية بتدمير الجيشين السوري والعراقي، لذلك، فإن إسرائيل تُعبّر، في الآونة الأخيرة، بلسان عدد من المحللين ومراكز الدراسات والمسؤولين عن “قلقها” الكبير إزاء التسلّح المستمرّ والتدريبات المتواصلة للجيش المصري ومن قوة مصر العسكرية، وهي تراقب “بقلق” الانتشار العسكري المصري على طول الحدود مع غزة.
وكان من اللافت للانتباه التحذير الذي أطلقه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق هيرتسي هاليفي حول إمكانية “أن تتحوّل مصر إلى تهديد أمني مفاجئ لإسرائيل على الرغم من أن هذا التهديد ليس على سلّم الأولويات، لكن يمكن لهذا الوضع أن ينقلب في لحظة”.
وفي هذا السياق، لا يجب إغفال الواقع السياسي والاقتصادي الذي يشكل الأساس لفهم المقاربة المصرية في التعامل مع حرب غزة. فالقيادة المصرية تعي جيداً أن مصر مستهدفة تماماً كما غزة وفلسطين، وهي منذ اللحظة الأولى للحرب تعلم جيداً بأنّها مُحاطة بجبهات لا يقلّ تهديد الواحدة عن الأخرى لأمنها القومي، وأعني هنا ليبيا، السودان، وأثيوبيا (تهديد سد النهضة). وبالتالي، تدرك القيادة المصرية بأن أي خطوة “غير محسوبة” قد تُحرّك كل هذه الجبهات الحدودية ضدها.. دفعة واحدة!
وثمة جزئية أساسية يجب التوقف عندها، وهي أن إسرائيل من خلال رفضها لكل الطروحات التي قدّمتها مصر حتى الآن إنما تهدف إلى وضع الجيش المصري في مواجهة مع الفلسطينيين، وهو ما تعيه جيداً القيادة المصرية، وهذا ما يُفسّر التشدد في رفض كل المشاريع أو الاقتراحات التي تحاول إسرائيل تمريرها في غزة بالإضافة طبعاً إلى التهديد الأكبر وهو خطة التهجير نحو سيناء.
وعلى الرغم من كل الضغوط، استمرت مصر بالحفاظ على ثبات موقفها الرافض لخطة التهجير والرافض أيضاً لأي فخ إسرائيلي تحت العناوين الإنسانية التي تشكّل العبء الأكبر على القيادة المصرية من حيث موقفها ودورها الذي سيُسجله التاريخ بعد أن تنتهي هذه الحرب.
ولعلّ أهمّ ورقة تملكها القيادة المصرية هي التلويح بإلغاء اتفاقية “كامب ديفيد” ومد اليد إلى المنافسين الدوليين للولايات المتحدة، وذلك في مواجهة سياسة الترهيب والترغيب التي تتبعها إدارة الرئيس دونالد ترامب، ولا سيما عبر التلويح بوقف المساعدات الاقتصادية أو بزيادة المساعدات في حال رضخت مصر للمشروع الإسرائيلي وسمحت بتهجير أهل غزة إلى سيناء!
تقف مصر اليوم كما فلسطين والمنطقة أمام الامتحان الأهم وربما الأخير في مسار القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، فالمستهدف هو الجيش المصري الذي يُمثّل آخر معاقل القوة العربية في المنطقة وإن نجح مشروع التهجير من غزة إلى سيناء سيصبح مشروع التهجير من الضفة الغربية إلى الأردن، بمثابة تحصيل حاصل… من هنا، تجري منذ سنوات محاولات عديدة لإنهاك مصر في الصراعات التي تحاصرها في كل جوارها الإقليمي، بالإضافة إلى فخّ البنك الدولي الذي للأسف وقعت به الحكومة المصرية. وبرغم ذلك، ما تزال مصر تمتلك من الأوراق ما يكفي لمواجهة هذا المخطط المتشابك المحاور الذي يستهدف أمنها ووجودها ودورها. لذلك، فإن حماية مصر ودعمها هو واجبٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ وإقليميٌّ وتحديداً من الدول التي ما تزال تتوجّس من المشروع الإسرائيلي وترى فيه تهديداً للمنطقة. فهل من يسمع قبل فوات الأوان؟