

في خضم هذا المشهد، جاءت خطوة الرئيس نواف سلام، الذي توجّه لأداء صلاة العيد إلى جانب أمير أكبر مرجعية عربية سنية، لتكون رسالة سياسية بامتياز، تؤكد على محاولته تثبيت نفسه في موقع المرجعية الوطنية ذات الامتداد العربي. في المقابل، اختار الرئيس جوزاف عون، السفر للقاء رئيس “الأم الحنون” التي لم تعد “تمون” حتى على قرارات قارتها العجوز! وبين هاتين الخطوتين، يبرز سؤال أساسي؛ هل تحوّل لبنان إلى ساحة استقطاب بين خيارات إقليمية متباينة، في وقت يحتاج فيه إلى قرار سيادي موحد؟
وعلى وقع الغارات الإسرائيلية التي طالت تحديداً الضاحية الجنوبية لما تحمله من دلالات، يجد لبنان نفسه مجددًا في مواجهة معضلة كبرى؛ أين هو الردع؟ هذه الضربات، التي لم تقابل بأي رد حاسم، تطرح إشكالية أساسية تتعلق بمكانة لبنان في المعادلة الإقليمية، ودور الدولة والمقاومة في حماية السيادة الوطنية. هل يعود غياب الردع إلى معطيات داخلية، أم أن لبنان بات رهينة معادلات خارجية أكبر؟
متى ينجح الردع ومتى يفشل؟
لم تكن الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان حدثًا طارئًا، بل هي امتداد لسياسة ممنهجة استمرت لعقود، من اجتياح ١٩٨٢ إلى حرب ٢٠٠٦، وصولًا إلى الغارات المتفرقة في السنوات الأخيرة. لكن المفارقة تكمن في أن الردع، الذي كان يشكّل في السابق عنصرًا توازنياً، بات اليوم محلّ تساؤل لانعدامه والعجز عن استرجاعه!
ففي العام ٢٠٠٦، تمكنت المقاومة من فرض قواعد اشتباك واضحة، أجبرت إسرائيل على إعادة حساباتها في أي مواجهة مستقبلية. غير أن المشهد تغير كلّيّاً بعد العدوان الأخير، حيث باتت إسرائيل “مطلوقة العنان” في تنفيذ ضرباتها، متجاوزة الخطوط الحمراء والزرقاء التي وُضعت سابقًا!
الاستفادة من التجارب الماضية
لفهم كيف يمكن استعادة الردع، لا بد من تحليل الفترات التي نجحت فيها المقاومة والدولة في ردع إسرائيل، وأين فشلت، وما الأسباب التي أدت إلى هذا التحول، وعندما يتراجع الردع؛ ما هي الأسباب والأبعاد؟
يمكن قراءة غياب الردّ الحاسم من زوايا متعددة:
أولاً، الأزمة الاقتصادية والسياسية:
انهيار الدولة ومؤسساتها أضعف قدرتها على تبني موقف موحد. الأزمة المالية التي عصفت بلبنان منذ ٢٠١٩ جعلت القرارات الاستراتيجية أكثر صعوبة، حيث انشغلت القوى السياسية بالصراعات الداخلية على حساب الأولويات الوطنية الكبرى.
ثانياً، الضغوط الدولية:
لبنان يخضع لميزان حساس بين القوى الإقليمية والدولية، مما يفرض حسابات دقيقة على أي رد فعل. الولايات المتحدة وفرنسا، على سبيل المثال، تتدخلان بشكل مستمر في المشهد اللبناني، مانعتين أي تصعيد قد يجر المنطقة إلى حرب واسعة النطاق.
ثالثاً، التبدلات الإقليمية:
المتغيرات في المنطقة، من التطبيع العربي مع إسرائيل إلى إعادة تشكيل التحالفات، تفرض تحديات جديدة على قدرة لبنان في التحرك بحرية. تراجع النفوذ الإيراني في بعض الملفات الإقليمية، وظهور تفاهمات جديدة بين المملكة العربية السعودية والحمهورية الإسلامية في إيران، يساهمان أيضًا في إعادة رسم المشهد الاستراتيجي في المنطقة.
توازن الردع أم تآكل المعادلة؟
في السابق، كان لكل اعتداء إسرائيلي ردّ محسوب، مما أرسى نوعًا من التوازن. اليوم، يبدو أن المعادلة بدأت تتآكل لصالح تل أبيب، فهل هو تكتيك ظرفي، أم تحوّل استراتيجي؟
إن استمرار الغارات دون رد واضح يفتح الباب أمام مزيد من الخروقات الإسرائيلية، ويضعف الثقة بالقدرة الدفاعية للبنان، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. كما أن غياب موقف حاسم قد يُفسَّر على أنه ضوء أخضر لمزيد من التصعيد، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى جبهات أخرى أكثر نشاطًا في المنطقة، فهل يقود غياب الرد إلى تصعيد أكبر؟
إنّ التجربة التاريخية تؤكد أن أي تهاون في الردع يؤدي إلى مزيد من التمادي الإسرائيلي. إذا لم تتم إعادة ترسيم قواعد الاشتباك، فقد نشهد سيناريوهات أكثر خطورة، تشمل عمليات اغتيال أو حتى ضربات أوسع نطاقًا وبخاصة في ظل عدم قدرة الدولة على وضع اليد على من أطلق فعلياً في المرتين الأخيرتين الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي المحتلة.
ويُثير غياب الردع نقاشات حادة في الداخل اللبناني حول دور الدولة والمقاومة. فالبعض يرى أن الردع يجب أن يكون بيد الجيش اللبناني حصريًا، فيما يصرّ آخرون على أن المقاومة تظل الضامن الفعلي لحماية لبنان. هذا الجدل يزيد الانقسامات السياسية، ويؤثر على أي محاولة لبناء موقف وطني موحد.
كيف يُمكن استعادة الردع؟
أمام هذا الواقع، لا بد من إعادة التفكير في كيفية بناء منظومة ردع وطنية تتجاوز الحسابات الفئوية، وتحقق التوازن بين الدولة والمقاومة من خلال الآتي:
أولاً؛ تعزيز قدرات الجيش اللبناني ليكون عنصرًا فاعلًا في الدفاع عن السيادة المرجوة والضرورية التي ما تزال حتى الآن شعاراً رناناً بعيداً كل البعد عن التطبيق على أرض الواقع.
ثانياً؛ لا يمكن للبنان الاعتماد حصريًا على أي طرف داخلي أو خارجي لحمايته، بل يجب العمل على تطوير الجيش، وتسليحه بمنظومات دفاعية قادرة على التعامل مع التهديدات الإسرائيلية.
ثالثًاً؛ تبني سياسة خارجية متوازنة تعيد للبنان دوره بدل أن يكون مجرد ساحة صراع.
رابعاً؛ يجب أن يسعى لبنان إلى استعادة دوره كوسيط إقليمي قادر على المناورة، بدل أن يكون مجرد طرف متلقٍّ للأحداث.
خامساً؛ إعادة صياغة معادلة الردع بحيث تراعي المتغيرات الداخلية والخارجية دون أن تفقد فعاليتها.
سادساً؛ المطلوب اليوم ليس فقط الحفاظ على قدرة الردع، بل إعادة ضبطها وفق المستجدات، بما يضمن بقاء لبنان في موقع قوة، وليس في موقع المتلقي للضربات.
سابعاً وأخيراً؛ لبنان اليوم أمام اختبار وجودي؛ إما أن يعيد بناء قدرته على الردع ضمن استراتيجية وطنية متكاملة، أو يبقى ساحة مفتوحة أمام الاعتداءات المتكررة.
في ظل معادلة “اللاحرب واللاسلم”، تبقى السيادة اللبنانية على المحك، فهل يملك لبنان الأدوات اللازمة لاستعادتها؟ وهل يستطيع الفاعلون السياسيون الاتفاق على رؤية مشتركة توقف هذا النزيف الأمني والسيادي؟ للبحث حتماً تتمة.