

إن عناد الرئيس دونالد ترامب، وإصراره على التمسك بخطته، الطائشة والمتهورة، بفرض رسوم جمركية على العالم أجمع، يستفزني، ويثير لديّ الكثير من التساؤلات وردَّات الفعل. لكن بشكلٍ عام، أكثر ما يراودني ويخطرُ ببالي باستمرار هو القول الشائع: إذا استأجرتَ مُهرّجين، فعليك أن تتوقع سيركاً. ونحن يا رفاقي الأميركيين، قد استأجرنا مجموعة من المهرجين.
فكّروا معي في ما قاله لنا ترامب؛ وفي ما قاله لنا الأحمق الكبير هوارد لوتنيك (وزير التجارة)، وما قاله مساعد الرئيس، سكوت بيسنت (وزير الخزانة)، ونائب الرئيس، بيتر نافارو (كبير المستشارين التجاريين).. فكّروا معي في ما قاله لنا كل هؤلاء، مراراً وتكراراً، خلال الأسابيع الماضية. قالوا لنا: إن ترامب لن يتراجع عن فرض الرسوم الجمركية، لأنه – كل واحد يختار ما يناسبه من تبرير- يحتاجها لمنع مادة “الفنتانيل” من قتل أطفالنا، لأنه يحتاج أموال تلك الرسوم لزيادة الإيرادات وتغطية التخفيضات الضريبية في المستقبل، لأنه يحتاجها للضغط على بلدان العالم لكي يشتروا منَّا المزيد من السلع. لقد قرَّر ترامب فرض الرسوم، ولم يكترث حتى لما قد يقوله أصدقاؤه الأثرياء في “وول ستريت” عن خسائرهم المرتقبة في سوق الأسهم.
وبعد أن أحدث فوضى في الأسواق بسبب هذه “المبادئ” الراسخة في عقلية إدارته، عاد ترامب- الأربعاء الماضي- ونقض جزءاً كبيراً من تلك المبادئ، معلناً “تعليقاً مؤقتاً” لبعض الرسوم الجمركية- لمدة 90 يوماً- على معظم الدول، باستثناء الصين طبعاً. مع الإشارة إلى أن الفوضى لم تستثنِ حتى الأسواق الأميركية، حيث سارع العديد من الأميركيين إلى بيع أسهمهم بأسعار منخفضة، خوفاً من أن يخسروا كل شيء.
كانت رسالة ترامب إلى العالم، والصينيين، هي التالية: “لن أتحمل اي نوع من اللوم أو الانتقاد”. ولو تحولت هذه الرسالة إلى كتاب لكان أفضل عنوان له هو “فنُّ الصُراخ”.
لكن لا تظنوا؛ ولو للحظة واحدة؛ أن كل ما خسرناه كان المال فقط. أطنانٌ من الثقة الثمينة ضاعت، وذهبت أدراجَ الرياح. في الأسابيع القليلة الماضية، أرسلنا إلى أقرب أصدقائنا في العالم – وأعني هنا الدول التي وقفت إلى جانبنا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، في العراق وأفغانستان – رسالة نقول لهم فيها إن لا أحد منكم يختلف؛ بالنسبة لنا؛ عن الصين أو روسيا. وإنكم جميعكم ستخضعون للرسوم الجمركية وفقاً للصيغة نفسها التي وضعها ترامب. ولن تكون هناك أية خصومات، أو معاملة خاصة لأي أحد، بمن في ذلك الأصدقاء وأفراد العائلة.
هل تعتقدون أن هؤلاء الحُلفاء السابقين، الذين كانوا يوماً مقربين، سوف يثقون مرة أخرى بالولايات المتحدة؟ أو قد يوافقون على أن يكونوا في خندق واحد مع هذه الإدارة مرة أخرى؟
ترامب، وبدلاً من أن يجعل العالم الصناعي كله ضد الصين، جعل أميركا ضد العالم الصناعي بأكمله، وضد الصين، في آن واحد
ما كّبده ترامب لأميركا؛ بسبب الرسوم الجمركية؛ يشبه ما كبّدنا إياه الخروج الفاشل لإدارة الرئيس السابق، جو بايدن، من أفغانستان، وهي تكلفة لم تتعافَ منها أميركا كلياً؛ حتى الآن. لكن على الأقل، بايدن أخرجَنا من حربٍ كانت تُكلفنا أثماناً باهظة، ولم يكن فيها من رابحٍ.. وبرأيي صارت أميركا أفضل حال بكثير بعدما خرجنا من أفغانستان.
العالم يتحد ضد أميركا!
لقد وضعنا ترامب في حربٍ خاسرة.
كيف ذلك؟
لدينا بالفعل خللٌ في الميزان التجاري مع الصين يحتاج إلى معالجة. ترامب مُحقٌّ في ذلك. تسيطر الصين الآن على ثُلث التصنيع العالمي، وتمتلك المحركات الصناعية اللازمة لإنتاج كل شيء تقريباً، وبما يكفي حاجة الجميع يوماً ما؛ إذا سُمح لها بذلك. هذا ليس جيداً لنا، ولا لأوروبا، ولا للعديد من الدول النامية أيضاً. بل إنه ليس جيداً حتى للصين، نظراً لأنها، بتخصيصها الكثير من الموارد لصناعات التصدير، بكميات ضخمة، تتجاهل شبكة الأمان الاجتماعي الهزيلة التي توفرها لشعبها، وتهمل نظام الرعاية الصحية العام الذي يزداد تدهوراً.
ومع ذلك، عندما يكون لديك بلدٌ كبيرٌ مثل الصين – 1.4 مليار نسمة – بما لديه من مواهب وبنية تحتية ومدخرات، فإن الطريقة الوحيدة للتفاوض مع هكذا بلد هي بالمحافظة على إبقاء نفوذنا عند الطرف الذي نجلس عليه على أي طاولة مفاوضات. وأفضل طريقة للحصول على النفوذ هي أن يحشد ترامب حلفاءنا في جبهة موحدة؛ الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والبرازيل وفيتنام وكندا والمكسيك والهند وأستراليا وإندونيسيا. وأن يجعلها مفاوضات العالم أجمع ضد الصين.
ثم تقول لبكين: نحن جميعناً (كل العالم) سنرفع رسومنا الجمركية تدريجياً على صادراتكم خلال العامين المقبلين، للضغط عليكم، لإجباركم على التحول من اقتصادكم المعتمد على التصدير إلى اقتصاد محلي أكثر. لكننا سندعوكم أيضاً لبناء مصانع إنتاج وسلاسل توريد في بلداننا؛ مشاريع مشتركة، نتقاسمها مناصفة مع أرباحها، وتفرض عليكم أن تنقلوا خبراتكم إلينا بالطريقة نفسها التي فرضتموها علينا عندما نقلنا خبراتنا إليكم. بالطبع، لا نريد عالماً منقسماً إلى قسمين. سيكون عالماً أقل ازدهاراً للجميع وأقل استقراراً.
ولكن، بدلاً من أن يجعل ترامب العالم الصناعي كله ضد الصين، جعل أميركا ضد العالم الصناعي بأكمله، وضد الصين، في آن واحد.
والآن، باتت بكين تعرف جيداً أن ترامب لم يكتفِ فقط بالتراجع عن بعض الرسوم، ولو مؤقتاً، بل أنه أبعد حلفاءنا كثيراً عنَّا، وأثبت أن كلامه لا يُعتمد عليه، ولا يمكن الوثوق بكلامه ولو لثانية واحدة، لدرجة أن الكثير من الحلفاء قد لا يتحالفون معنا أبداً ضد الصين مرة ثانية، أو على الأقل ليس بالطريقة نفسها مثل ما كانوا يفعلون. بل قد يرون في الصين شريكاً أفضل منَّا وأكثر استقراراً على المدى الطويل.
يا له من أداء بائسٍ، مثير للشفقة، ومُخزٍ. مبروك عليكم “التحرر”.. كل تحرير وأنتم بخير!
– ترجمة بتصرف عن “نيويورك تايمز”.