لم تبدأ هذه المذبحة الآن. هي مذبحة مفتوحة ومتواصلة، منذ أن غزا أصحاب نظرية “العرق الأبيض” بلاد الأعراق المختلفة واستباحوا أراضيها وأرواح كل من على سطح البسيطة من كائنات حيّة. هو منطق التطهير العرقي لأصحاب اللون الواحد واللغة الواحدة والسلوك المشترك. هي مذبحة لم تترك بشراً أو حجراً أو إمكانيات أو خيرات البائن منها والمخفي.
هو ذلك التاريخ المُفتتح، بحرب الـ 100 عام، وما رافقها من تنكيل بذوي القربى والتقتيل بهم – هي حرب اللون والمكان واللغة والعرق والدين – مروراً بحروب عالمية كانت مخاضاً إلزامياً لتبدّل قيادة القتل، لتنتقل من قارة عجوز إلى أخرى مُكتشفة بالصدفة، لتفتح عهدها بإبادة سكانها من الهنود الحمر، ولتستكمل في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بمحرقة نووية “لا تُبقي ولا تذر”، ولتواصل مع بقية دول العالم، في حروب مفتوحة على كل شيء لا تنته.
في التكوين
إن ما يجري في منطقتنا ليس مستجداً. بل هو امتداد لمئة عام من التنكيل، مارسته دول استعمارية متعددة المشارب لكن مع وحدة الهدف. لم يأتِ “وعد بلفور” من فراغ، كما لم تأت معاهدة “سايكس بيكو” كي تنهي حرباً بين “أولاد العمومة”. إن التناقض في المنطلقات، لذوي السلطة والمال والتوسع، كان الدافع دوماً إلى الحروب. لقد جاءت حرب بداية المئوية البائدة كحد فاصل بين زمنين؛ واحد موروث وآخر في طور التشكّل. لقد طوت أوروبا حروبها الداخلية بين إمبراطورية تقاتلت على الخيرات والنفوذ وتناقض المنطلقات الدينية، ووقوعها في فخ رأسمالية فتية، طرحت نفسها كأفق وحيد أمام البشرية، سياسياً واقتصادياً، فأعادت ترتيب مسرح عملياتها بشكل يناسب حجم الصراعات المفترضة والإلزامية المطلوبة كي تسود. لقد وقعت “الأنوار” في فخ التناقض والجشع، فبدل أن يفتح التطور العلمي والتكنولوجي والاجتماعي باب التحرر من سطوة الظلام، ذهب باتجاه استيلاد كل مقومات “محاكم التفتيش” و”تقفي أثر الساحرات”، كي يُعيد آليات السيطرة على كل شيء، متسلحاً بنهضة في كل المجالات، والتي، بدل أن تكون باباً للتحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أضحت منطلقاً للحروب، ولكن هذه المرّة بالتوسع صوب المستعمرات وصوب المقدرات، ودوماً كانت “الحجة” أو السبب باسم “الحداثة” الوافدة مع القليل من العمل والكثير من البارود والقتل والتنكيل، ففتحت مخازن حروبها لتأخذ العبر وتُعيد رسم صورة جديدة مناقضة للمتوارث ولتصيغ تواريخ مختلفة عن الواقع.
“ها قد عدنا يا صلاح الدين”، هي الجملة المفتاح لأهداف الانتداب – الاحتلال الملطّف – التي قالها الجنرال “غورو” أمام ضريح صلاح الدين، قبل أن يغسل كلتا يديه الملطختين بدماء الشعب السوري في معركة ميسلون في 24 تموز (يوليو) عام 1920، بعد 733 سنة على تحرير القدس من أيدي “الصليبيين”.
علينا صياغة مشروع سياسي يستطيع خوض المواجهة في وجه أي عدو، بالاستناد على تجارب شعوبنا في خوض معارك الاستقلال والتحرير الوطني من جهة، وباتجاه الديمقراطية والاقتصاد المنتج وبناء التكامل، وصولاً إلى حدّ اندماج المصالح المشتركة، والتي ستؤدي إلى توحيد الطاقات في خدمة المشاريع الكبرى التي تحفظ الاستقلال وتكسر العدوان وتفك التبعية من جهة أخرى
بلفور الوجه الحقيقي للمشروع
لم يكن “وعد بلفور” عرضياً، كما لم يكن فعل خير. وفي المقابل أيضاً، لم يكن رشوة أو “رد جميل” على مساعدات مالية منحتها جاليات يهودية إلى الغرب الاستعماري كمساعدة له في حربه الكونية. جاء ذلك الوعد إيذاناً بإعادة تكوين العالم وفق مناظير مختلفة وخلفيات واضحة: لقد وقع الوعد على فالق إعادة التكوين التي انتجتها حرب عالمية، والتي لن تكون، إلّا وفق مستجدات سياسية واجتماعية واقتصادية وإيديولوجية، أفرزتها الحرب التي مزّقت أوروبا ومحيطها القريب والبعيد، ليستفيد منها رأسمال إمبريالي قادم وفق خرائط جديدة ومهام مختلفة، وعليه جاءت سايكس بيكو كمُعبّر واضح عن خلفية المشروع، الذي سيضع منطقة تقع في قلب العالم – نائمة على خيرات كانت بدايات رائحتها قد بدأت بالوصول إلى أنف بعض صنّاع القرار في بلاد الاستعمار الدائم، والتي تغنّت بفوقية الحضارة والبطش والاتساع والهيمنة، ولو كان قائماً على تلال من الجماجم، أو على سحق آمال شعوب وبلدان تتوسل الحياة الكريمة وتطالب بالعدالة المفقودة – في مهب إعادة التكوين الملتبس الموّلد لكل الأزمات والمشاكل والحروب. من هنا كانت البداية ومعها كانت بداية المشروع؛ ما يحصل اليوم هو الامتداد الطبيعي لآليات الصراع المركّب على مئة سنة من التراكم المفهومي لسلوكيات مخالفة لمنطق الابتداء، الذي استظل بالحداثة وبحاجة البشرية إلى التطور العلمي والتقني وكسر مرتكزات الظلام الذي ساد قروناً متلاحقة في أوروبا والذي أسقطه سلطان العلم والمعرفة والتقدم وأفكار التحرر الوطني والاجتماعي.
الحرب المفتوحة
هي الحرب المفتوحة التي تُخاض اليوم في منطقتنا؛ هي الامتداد التاريخي والمنطقي للصراع الذي أرساه بلفور باصطناع كيان غريب في قلب العالم. إن ما نشهده، من إجرام متمادٍ بلغ حدّ القتل الجماعي، ما هو إلّا الترجمة الفعلية لذلك العقل القاتل الموجود عند حفنة توارثته، من قمع الرأي وحرق الفكر والإبداع مروراً بجرائم في أربع جهات الأرض، وصولاً إلى غزة وجنوب لبنان حيث الامتداد لذلك العقل المتعالي والقاتل بأبهى صوره وأوضحها. لقد سقطت كل المعايير في هذه الموقعة. لا حدود ستقف أمام آلة القتل العمياء والصمّاء التي يديرها كل شياطين الأرض، والتي تعبّ من كل تاريخ التنكيل والقتل لأسطورة الاستعمار المتوارثة، منذ أن وصل الدم إلى الركب في فلسطين أيام الصليبين مروراً بالهنود الحمر وفيتنام وكوريا والعراق ولبنان وكمبوديا وأفغانستان وفلسطين كل فلسطين. هو ذلك العقل المتعالي والمدّعي المدنية والتحضّر المدّعي بتنوّره وتقدمه.
لقد أوقفوا عدّاد القتلى؛ لا يهم إن كانت الخسائر عندهم كثيرة، الأهم أن تكون السيطرة لهم في نهاية المطاف. لا يهم إذا أبادوا الشعبين الفلسطيني واللبناني، فالأهم أن تدين المنطقة بالطاعة واللهج بالدعاء لهم. الأرض المحروقة ما يريدون، والأرض الجدباء ما يبتغون. كيف لا والعنصرية تملأ الرؤوس قبل القلوب، والضعف المفتعل لـ”أمة التوحيد”، الغارقة في العجز والتواطؤ وصمّ الآذان عن سماع صوت “وامعتصماه” يترجم بالآية الكريمة: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾. هو ذلك المنطق المقلوب والذي خلع النخوة من الرؤوس ووضعها على قارعة الطريق، تتعثر بها أرجل أطفال فلسطين ولبنان وهم يفتشون عن مكان آمن كي يستنشقوا بعض الهواء ليتابعوا مقاومتهم وصمودهم ولملمة أشلائهم.
هي الحرب المفتوحة بين كل الغرب الاستعماري وبقية من أناس آمنوا بأن الخلاص يكمن في مكمن واحد: كسر الهيمنة وفك التبعية ودحر العدوان. هو ليس شعاراً أو حلماً أو أحجيةً. هو مسارٌ نضاليٌ صعبٌ وشائكٌ، دُفعت فيه الأثمان والتكاليف وسيُدفع أكثر وستكون باهظة بكل تأكيد. لقد دفعت شعوبٌ كثيرة تلك الأثمان وهناك شعوب أخرى تنتظر. لقد دفع الشعبان اللبناني والفلسطيني وشعوب المنطقة من دولهم ومن دمائهم ومن مواردهم الثمن الأغلى. لقد خاضوا المواجهات في اتجاهين: صوب المشروع الآتي من جهة الغرب والمتمركزة طليعته في قلب المنطقة، والنظم المزروعة قسراً بين ممرات البحار وخطوط الانقسام وحدود الدم المسفوك دوماً. هي الحرب المفتوحة والتي لا وسط فيها: لقد أوقفوا العدّادات، فاستعر القتل واستعرت النيران. لقد ساد الدمار وتلوثت الأرض. لقد سقطت معزوفة حقوق الإنسان بكل مندرجاتها فوق تراب غزة وجنوب لبنان بل في كل لبنان، لقد وقعت “ديموقراطية السوق” الرائجة في عموم بقاع الغرب في امتحان الولاء الدائم والانحياز إلى العدوان، والكلام هنا عن الأنظمة وليس الشعوب. لقد ضاع الدم وسفك، فأنكر الأخ أخاً له في مذبحة بدأت ولمّا تنته بعد. هي معركة مفتوحة ولن تُقفل طالما مصانع الغرب تُنتج بأموالنا السلاح كي نُقتل به.
حدود المواجهة
طالما العدوان واضح، إن في أهدافه أو في قواه، فالمواجهة يجب أن تكون على القدر نفسه. لقد اصطفت دول الغرب الاستعماري وراء العدو وبرّرت حفلات القتل الجماعي. لقد سقطت القيم المزعومة في فخ الاستخدام المفرط لها. رأسمالية غربية، أنتجت نظماً وسلاحاً وسلوكاً أكثر مما انتجت من سلام أو حاربت المجاعة أو خفّفت من ثقب “الأوزون”. لقد اختلّت القيم وسقطت في وحول التبعية والهيمنة وقضت في امتحان التطبيق المشتبه به حدّ الإجرام. لقد أمعنت في سفك الدماء والتجويع والحصار. لقد لوّثت البيئة وأهدرت الأموال وبدّدتها على الحروب. لقد حاصرت ونكّلت وجوّعت أكثر مما انتجت. لقد رسمت خطوط المواجهة بالنار والدم فأصبحت حدود القتل مفتوحة إلى حيث تصل أساطيلها وبوارجها وطائراتها. هي رأسمالية مفرطة في كل شيء: الأموال وسلبها، الأرواح وزهقها، الدول واحتلالها، الشعوب وقمعها واستلابها، القيم وتحويرها. نحن أمام سلوك مفرط في استخدام الكل ضد الكل، ولو كان الثمن تدمير الدول والشعوب. وهذا ما حصل في مواقع كثيرة من هذا العالم على امتداد القرنين الماضي والحاضر.
أمام المذبحة المفتوحة وعلى الهواء مباشرة، إن في فلسطين أو في لبنان، وأمام الوقاحة السياسية في حماية القاتل وإدانة المقتول، وأمام العجز الذي بلغ حدّ التواطؤ، بين أنظمة ذليلة وخانعة وشعوب بعضها استكان لحكم الأمر الواقع وانصاع لأمر ولي الأمر.. لم يبقَ أمام من يرفض هذا الذي يجري إلّا خيارات قليلة، لكن فيها من حفظ الكرامة نصيب كبير، فالصدق أمانة والكذب خيانة.
البديل المطلوب
هي معركة خيارات واضحة المعالم والحدود، لا حياد فيها ولا وجهة نظر. لقد اجتمع العدوان وتجسد في منظور واحد؛ الأميركي والأطلسي والصهيوني والرجعي. جعلوا منها معركة حاسمة، تُعيد حرف المسار الذي اختل في تموز اللبناني (يوليو) 2006 وفي غزة 2008 وفي تصاعد الانتفاضات الشعبية في فلسطين. لقد اختل السياق، الذي حاولت دول الاستعمار الغربي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، استعادته بعد هروبها من العراق وافغانستان، وبعد فشلها في سوريا وفلسطين. قطار التطبيع لم يسلم من انتكاسة المسار فترنح. الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لن يكون على مقاس تفصّله دول الاستعمار الغربي، وليس على دماء أبنائه ومستقبلهم.
صحيحٌ أن الأنظمة السياسية في منطقتنا قد أصابها الوهن نتيجة الممارسة الخاطئة لبعضها، والحروب التي أودت ببعضها الآخر، والمسارات الخائبة، مع إضافة غياب المشاريع الداخلية للبلدان، من حيث بناء الهياكل والبنى السياسية الواضحة والاقتصادية المنتجة والتي تؤدي بكليتها إلى الاستغناء عن الخارج، وأيضاً غياب المشروع السياسي الجامع، إن بالموقف أو بالخيارات المشتركة القائمة على وحدة شعوب المنطقة وتطلعاتها، برفض الهيمنة الغربية وإطلاق الطاقات، من خلال ممارسات ديموقراطية تجعل المشروع السياسي الواضح متقدماً بشكل كبير على المشاريع الجزئية، مذهبية كانت أم طائفية أم مناطقية، إلاّ أن ذلك لا يجب أن يحجب ضرورة التفتيش عن المرتكزات الصلبة لبناء المشروع الوحدوي المشرقي، بالارتكاز على مسار يلزمه إعادة تكوين المرتكزات التي تجمع كل شعوب المنطقة، من خلال بناء مشروع سياسي مقاوم ناتج من التجارب المحققة في هذا المجال: من مقاومة الانتداب مروراً بمقاومة العدوان الأميركي – الصهيوني منذ منتصف القرن الماضي، وصولاً إلى المعركة الدائرة اليوم على أرض فلسطين ولبنان.
علينا صياغة مشروع سياسي يستطيع خوض المواجهة في وجه أي عدو، بالاستناد على تجارب شعوبنا في خوض معارك الاستقلال والتحرير الوطني من جهة، وباتجاه الديمقراطية والاقتصاد المنتج وبناء التكامل في كل المجالات، وصولاً إلى حدّ اندماج المصالح المشتركة، والتي ستؤدي إلى توحيد الطاقات في خدمة المشاريع الكبرى التي تحفظ الاستقلال وتكسر العدوان وتفك التبعية من جهة أخرى. هنا منطلق الخيارات؛ على قوى الاعتراض الوطني الخروج من تموضعاتها، الجهوية أو الآنية، وأن تتجه صوب كسر الموروثات والتطلع نحو أفق أكثر اتساعاً ووضوحاً.
من لبنان إلى فلسطين يمتد اليوم خطّ النار والمقاومة، والذي ستطال مفاعيله بقية دول المنطقة.
من المؤكد أن الأثمان كبيرة ومكلفة، لكن لا يجب أن نبقى في دائرة ردة الأفعال، بل علينا فعل الفعل.. وهذا أصبحاً واجباً مُلحاً.
هي معركة مكلفة، إن بالبشر أو بالإمكانات. لكن النتائج لا يجب أن تكون أقل من بناء حالة مواجهة عامة: المعركة شاملة.. فلتكن المقاومة شاملة. هي دعوة لإعادة قراءة التحولات الحاصلة عند العدو بكل أطيافه وأيضاً عند الشعوب بكل ألوانها.
آن أوان تقدّم القضية على المكّون، وليكن البرنامج الجامع والربط الموضوعي بين التحرر الوطني والتحرير وكسر الهيمنة مساراً سياسياً تجتمع حوله كل القوى المؤمنة بهذا الخيار، تعمل به من دون أي لبس أو التباس.