

أجرت إيران والوكالة الدولية منذ عدوان حزيران/يونيو الماضي ثلاث جولات من المحادثات المكثفة في فيينا وطهران بمشاركة ممثلين عن وزارة الخارجية الإيرانية ومنظمة الطاقة الذرية الإيرانية وممثلي الوكالة الدولية، وذلك بهدف رسم خارطة طريق للتعامل مع التداعيات الناجمة عن الهجمات العسكرية الإسرائيلية والأميركية على المنشآت النووية الإيرانية بدءاً من 13 حزيران/يونيو الماضي، وكيفية التوفيق بين متطلبات القانون الذي وضعه البرلمان الإيراني والقاضي بوقف التعاون مع الوكالة ومنع مفتشيها من الوصول إلى المواقع الحيوية النووية الإيرانية، وجعل ملف العلاقة مع الوكالة خاضعاً لموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وبين مطالب الوكالة الدولية التي تتصرف على قاعدة أن شيئاً لم يحصل قبل حوالي الشهرين، بدليل أنها لم تصدر بيان إدانة للهجمات العسكرية الإسرائيلية والأميركية، انسجاماً مع البروتوكول الإضافي للوكالة الذي يحظر مثل هذه الأعمال.
كان الهدف من هذه المحادثات من وجهة نظر طهران هو التوصل إلى حلول عملية تؤدي إلى استمرار التعاون مع الأخذ في الحسبان الوضع الناشىء عن الاعتداء العسكري غير القانوني على المنشآت النووية الإيرانية، بحيث تلبّي هذه الحلول في آنٍ واحد الهواجس الأمنية لإيران وبعض المتطلبات الفنية للوكالة، نظراً لاستمرار عضوية إيران في معاهدة عدم الانتشار واتفاق الضمانات، فإذا كان الاتفاق يُمكن للإيرانيين تجنب تجرع كأس تمديد العقوبات في مجلس الأمن من خلال اعادة تفعيل “آلية الزناد” التي يُفترض أن ينتهي مفعولها في الثامن عشر من تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
وقد استضافت القاهرة الجولة النهائية بين وزير الخارجية الإيراني والمدير العام للوكالة، حيث تم التوصل إلى ما يُمكن تسميته “التفاهم الإنتقالي” الذي يُلبي تطلبات الطرفين، ولا سيما القانون الذي أقره البرلمان الإيراني، وبالتنسيق الكامل مع المجلس الأعلى للأمن القومي. ولعبت القاهرة ممثلة بوزير خارجيتها بدر عبد العاطي دوراً في محاولة تجسير الهوة بين الطرفين، وتزامن ذلك مع انطلاق اجتماعات مجلس محافظي الوكالة في فيينا يوم الإثنين الماضي.
وقال مسؤول إيراني إنّه في حال حدوث أي عدوان جديد ضد الجمهورية الإسلامية، أو استهداف منشآتها النووية، أو إعادة تفعيل قرارات مجلس الأمن المنتهية (“آلية الزناد” أو “سناب باك”)، فإنها ستعتبر الخطوات العملية التي تم التوصل إليها مع الوكالة “لاغية”، وبالتالي توقف تنفيذها فوراً.
ويُعدّد مصدر إعلامي في وزارة الخارجية الإيرانية خصائص الاتفاق الجديد بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية على النحو الآتي:
– التوافق مع القانون الذي صادق عليه مجلس الشورى الإسلامي؛
– مراعاة الحقائق الناجمة عن الاعتداء العسكري غير المشروع على المنشآت النووية الإيرانية، والاعتراف بضرورة تغيير إطار التعاون؛
– أخذ الهواجس المشروعة لإيران بشأن أمن وحماية منشآتها النووية بالاعتبار؛
– إبقاء مسار التعاون والتفاعل بين إيران والوكالة مفتوحاً، بطريقة تضمن في الوقت نفسه تلبية المخاوف الأمنية لإيران؛
– التمييز بين المنشآت التي تعرضت للهجوم وتلك التي لم تتعرض له، مع تحديد شروط مختلفة لكلٍّ منهما؛
– جعل تنفيذ كل خطوة مشروطاً بموافقة خاصة من المجلس الأعلى للأمن القومي، وذلك انسجاماً مع قانون مجلس الشورى الإسلامي.
– يُشكّل هذا التفاهم آلية عملية للتعاون تعكس الظروف الاستثنائية الناجمة عن الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية والتهديدات المستمرة ضدها.
– إنّ سلمية البرنامج النووي الإيراني أمر مثبت وحاسم، ومن هذه الناحية لا تواجه إيران أي قلق من عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة وفق اتفاق الضمانات. ومع ذلك، لا يمكن لإيران أن تتجاهل تجارب الأشهر الثلاثة الأخيرة والحقائق القائمة التي تقتضي اتخاذ تدابير احترازية إضافية لصون الأمن القومي وحماية أمن وسلامة المنشآت النووية. فالتعاون ليس طريقاً أحادياً، وعلى الوكالة أيضاً أن تحافظ على حيادها واستقلاليتها ومهنيتها.
– إنّ الدخول في مفاوضات مع الوكالة والتوصل إلى تفاهم يعكس جدية ومبادرة الجهاز الدبلوماسي للحفاظ على المسارات الدبلوماسية وإزالة أي ذرائع لزيادة الضغوط والتهديدات غير القانونية والظالمة ضد إيران. والآن تترقب طهران كيف كيف ستتفاعل الدول الأوروبية الثلاث (الترويكا) مع هذا النهج البنّاء والمسؤول الذي اتّبعته إيران.
لماذا توصلت إيران إلى تفاهم جديد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
يقول المصدر الذي فضّل عدم ذكر إسمه إنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية “دأبت دائماً على التأكيد على الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي، وتعاونت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. غير أنّ الهجمات غير القانونية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية غيّرت الظروف بشكل جعل من الضروري إعادة النظر في إطار التعاون القائم”.
ويؤكد أنّ العناصر الرئيسية لرؤية إيران في التفاهم الجديد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتشكّل من البنود التالية:
١- عدم شرعية وعدم قانونية الهجمات الإسرائيلية والأميركية على المنشآت النووية السلمية والخاضعة للرقابة في إيران؛ هذه الهجمات تُعدّ انتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي الأساسية، ولمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ولنظام منع الانتشار.
ويقول المصدر “تلك المنشآت كانت خاضعة للرقابة الضمانية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد تمّ التحقق من سلميتها من قبل الوكالة. مثل هذا الإجراء لا يُعتبر موجهاً ضد إيران فحسب، بل ضد مجمل نظام الضمانات ومصداقية الوكالة، وإذا لم تتم مواجهته، فقد يشكّل سابقة خطيرة للمستقبل. الولايات المتحدة واسرائيل يجب أن يتحملا المسؤولية عن هذا الانتهاك الفاضح للقانون الدولي وجرائم الحرب المرتكبة، وأن يُحاسَبا عليها”.
٢- الهجمات العسكرية الأخيرة والتهديد باستمرارها “قد غيّرا بشكل جوهري الظروف والأوضاع المحيطة بالمنشآت النووية الإيرانية. فمواصلة التعاون على أساس الترتيبات السابقة لم تعد واقعية أو عملية. لم يكن بإمكان إيران أن تواصل التعاون في وقت تتعرض فيه بنيتها التحتية النووية للاستهداف وما تزال مهدَّدة. هذا التغيّر في الظروف يُعدّ تجسيداً واضحاً لمبدأ «التغيّر الجوهري في الأوضاع» المعترف به في القانون الدولي، وهو ما يُنشئ حقوقاً والتزامات للأطراف المعنية”، على حد تعبير المصدر نفسه.
٣- بعد الهجمات العسكرية على المنشآت النووية، صادق البرلمان الإيراني يوم الأربعاء الموافق ٢٥ حزيران/يونيو ٢٠٢٥ على قانون يربط التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشروطٍ يُناط تحديد مدى تحققها بالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. وكان تنفيذ هذا القانون في تفاعلات إيران مع الوكالة يستلزم منطقياً التوافق على ترتيبات جديدة للتعاون بين الطرفين.
٤- اتفاقية الضمانات الخاصة بمعاهدة عدم الانتشار الموقّعة بين إيران والوكالة صُمِّمت للظروف العادية، لم تتضمن أحكاماً خاصة بالحالات التي تتعرض فيها المنشآت السلمية لهجمات وتتكبد أضراراً جسيمة. كما أنّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تملك بروتوكولاً أو آلية محددة للتعامل مع مثل هذه الظروف، ولا توجد لديها سابقة أو إجراء مُعتمد لاستمرار التعاون في مثل هذا الوضع، وهذا ما يؤكد أنّ استمرار التعاون يستدعي إطاراً جديداً قائماً على التفاهم المتبادل للحقائق الميدانية.