أول من دشّن هذه الزيارات المتتالية غداة البدء بتنفيذ المرحلة الأولى من خطة ترامب هو ستيف ويتكوف؛ مبعوث الإدارة الأميركية الخاص إلى الشرق الأوسط، جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، ومن ثم نائب الرئيس الأميركي، جي. دي. فانس، واختتاماً بوزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو. تشي هذه الزيارات الأربع، بتباين بين رؤية الادارة الأميركية لكيفية السير بخطة ترامب للسلام في غزة، وبين رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في إبقاء شعلة الحروب قائمة إلى الحدّ الذي دفع بأحد كبار المسؤولين الأميركيين للقول لشبكة “سي. إن. إن”، إنّ نتنياهو بحاجة إلى “babysitting” خاص أطلق عليه اسم “bibisitting”. ولمن لا يعرف، فإنّ “بيبي” هو الاسم الدلع (nickname) لبنيامين نتنياهو.
تحاول الادارة الأميركية انجاز ترتيبات سياسية وأمنية في غزة، بالتعاون مع شركائها الإقليميين، في محاولة لتثبيت دعائم الاستقرار كي تنتقل إلى المرحلة الثانية (حكم غزة والإدارة الدولية والقوة الدولية واعادة الاعمار الخ..)، وهي المرحلة التي يريد من خلالها أن يقطف الأميركيون ثمار اتفاقات إبراهيمية جديدة لا سيما بين إسرائيل والسعودية. فيما الرؤية الإسرائيلية تتجلّى في إبقاء الحرب قائمة، تحت مسميات عدّة، تحصيناً لوضعية نتنياهو السياسية. برز هذا التباين عندما منح ترامب فرصة لحماس لإدارة شؤون القطاع مرحلياً بحجة الفراغ الأمني وأن لا سلطة قادرة على فعل ذلك في الوقت الحالي. دفع هذا الأمر بعدد من المسؤولين الإسرائيليين للقول إن هذا التسامح- وإن بدا بغطاء الواقعية السياسية- غير مقبول مهددين باستئناف الحرب زاعمين أن أحد أهدافها الأساسية وهو القضاء الكليّ على حماس لم يتحقق بعد. التصريحات الأميركية فيما يجب فعله ولا يجب فعله في غزة أغضبت نتنياهو الذي قال إنّ إسرائيل “دولة ذات سيادة وهي تتخذ بنفسها قراراتها الخاصة بشأن مسائل الأمن القومي”.
تكرّر الأمر نفسه عندما قرر الكنيست الإسرائيلي بالقراءة التمهيدية اتخاذ قرار بضم الضفة الغربية، الأمر الذي استدعى ردة فعل أميركية جعلت ترامب نفسه يجزم بأن هذا الضم لن يحصل، فما كان من نتنياهو إلا أن انتقد من اتخذوا القرار!
كيف تفكر أميركا في غزة؟
في ضوء هذه الوقائع من المرجح أن تعمد أميركا إلى توكيل مصر بمهمة إدارة القطاع سياسياً وأمنياً في المرحلة المقبلة إذ لطالما لعبت القاهرة هذا الدور سابقاً نظراً لتشارك حدودها مع غزة وتأثرها بوضع القطاع السياسي. ثمة مؤشرات تصب في هذا الاتجاه:
1- استضافة القاهرة اجتماعاً ضمّ ممثلين عن حماس وفتح وبقية الفصائل الفلسطينية (الجمعة ٢٤ أكتوبر/تشرين الأول). تمخّض عن هذا الاجتماع توافق فصائلي فلسطيني على تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة غزة. وبحسب بعض الأوساط السياسية المصرية، فإنّ القاهرة ستدفع قدماً باتجاه تشكيل هذه اللجنة وحسم عضويتها بعيداً عن الفيتوات المتبادلة فيما يخص الأسماء بين حركتي فتح وحماس.
2- أعلن الرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، أنّ القاهرة ستستضيف مؤتمراً دولياً لإعادة اعمار القطاع في تشرين الثاني/نوفمبر القادم. وتراهن القاهرة على مشاركة عدد كبير من الدول الخليجية كونها الأكثر ثراءً بين الدول العربية وبعضها كان له دور أساسي في التوصل إلى اتفاق وقف النار في غزة. وفيما سترعى القاهرة هذا المؤتمر، تأمل بتوفير مظلة دعم أميركية-أوروبية له من خلال مشاركة الولايات المتحدة والدول الأوروبية المؤثرة كما منظمات وهيئات الأمم المتحدة المعنية.
3- ترغب الإدارة الأميركية بحشد أكبر عدد من الدول العربية والإسلامية كي تشارك في القوة الدولية التي ستناط بها مهمة حفظ الأمن والاستقرار في قطاع غزة، مستفيدةً من الزخم الذي أطلقه مؤتمر شرم الشيخ للسلام، ومستفيدةً أيضاً من قوة علاقة ترامب بالقادة المشاركين في اللقاء. غير أن نقاطاً تفصيلية كثيرة ما تزال مبهمة لناحية دور وصلاحية هذه القوة إضافةً إلى نقاط تمركزها ومرجعيتها:
- هل ستتشكل القوة بقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي؟ وإذا كان الأميركيون يرغبون بذلك، فإنهم مضطرون لنيل موافقة جميع الدول الأعضاء، بمن فيهم الصين وروسيا.
- هل هذه القوة ستنتشر على الحدود أم داخل قطاع غزة. بينما ترفض حركة حماس، ومعها بقية الفصائل الفلسطينية انتشارها داخل غزة مفضلة انتشارها على الحدود فقط لضمان وقف إطلاق النار، تود تل أبيب أن تنتشر في أماكن حسّاسة في القطاع وبخاصة تلك التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي.
- من المعلوم أنّ إسرائيل وضعت “فيتو” على مشاركة تركيا في هذه القوة، في أوضح تعبير عن رغبة تل أبيب في تحجيم دور أنقرة الإقليمي ولا سيما في الملف السوري، فكيف لها أن تقبل بتكثيف هذا الدور في غزة؟ وما سيكون موقف الادارة الأميركية حيال هذا الأمر؟
4- بات من الواضح أنّ الادارة الأميركية غير مهتمة بمسألة إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وبقي التحكم بهذا الموضوع محصوراً بيد العدو الإسرائيلي منذ دخول وقف اطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ لغاية اليوم. وهذا الملف الإنساني سيبقى ورقة ابتزاز من قبل نتنياهو تجاه الفلسطينيين.
في هذا السياق، كان لافتاً للانتباه افتتاح القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) مركزاً للتنسيق المدني-العسكري، في مدينة كريات غات الواقعة في جنوب إسرائيل، ومهمته إدارة الأوضاع في القطاع والامتثال لحسن تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار.
كما كان لافتاً للانتباه ما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز”، يوم السبت الماضي، من أنّ الجيش الأميركي بدأ بتشغيل طائرات استطلاع بدون طيّار فوق سماء غزة لضمان وقف إطلاق النار بين حماس وتلّ أبيب. وهذه الخطوة تدلّ على رغبة أميركية في ضمان “حرية الحركة”، في خطوة مماثلة لتلك التي تم تثبيتها في نص إعلان وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل قبل سنة من الآن بطلب من نتنياهو. فهل ستشهد غزة حرية حركة من نوع آخر، كما نشهد من أعمال استهداف يومية للمدنيين، وهل ستترافق مع حرية حركة للأميركيين في غزة؟
من الواضح أن نتنياهو يستفيد من خلّو اتفاق وقف اطلاق النار من آليات تنفيذية فعّالة ومن مهل زمنية واضحة كما أسلفنا في المقال السابق، كي يبقي الحرب على غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن مفتوحة. وحتى لو بقيت جثة أسير إسرائيلي واحد مجهولة المكان ولم يُعثر عليها بعد، فإنّ هذا سيكون سبباً كافياً لنتنياهو لكي يُبرّر مواصلة الحرب ضد القطاع، لكن الجهة الوحيدة القادرة على تقييد إسرائيل هي الولايات المتحدة التي كانت شريكة في حرب الإبادة على مدى سنتين، كما في تشجيع نتنياهو على الإستيطان وتهويد القدس.
في الخلاصة، تتقاطع الأهداف الأميركية والإسرائيلية في غزة والشرق الأوسط، ولكن الأساليب قد تتناقض ربطاً بأولويات كلا الطرفين. من جهة، نتنياهو لا ينظر أبعد من مستقبله السياسي ولا تتقدم عنده أولوية على أولوية الأمن الإسرائيلي. من جهة مقابلة، ينظر دونالد ترامب إلى ترتيبات الشرق الأوسط بوصفها جزءاً لا يتجزأ من ترتيبات مواجهة المارد الصيني؛ لذلك، سيبقى ملف غزة أولوية إسرائيلية، فيما سيد البيت الأبيض سيكون مشغولاً بمئات القضايا الداخلية والخارجية، والتي تبدأ بالجدل المتنامي داخلياً حيال قوات الحرس الرئاسي وحراك “لا ملوك”، ولا تنتهي عند حدود الصين وضبط العلاقة معها اقتصادياً.
