كل المؤشرات جعلت من السهل توقع تجديد سيطرة المحافظين على مجلس الشورى الإسلامي في إيران، شأن كافة مؤسسات النظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية، وذلك في إطار التوازنات التي يضبط إيقاعها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بـ”كاتالوغ” محدّد يضمن تناوباً للسلطة بين الجناحين الراديكالي والمعتدل.
وفق “كاتالوغ” الحكم هذا، يتيح خامنئي، من خلال أدوات السلطة، للإصلاحيين بفوز شكلي في الانتخابات البرلمانية، وفي أحيان أخرى، يضغط بشدة لضمان انتصار المحافظين مرة أخرى، مستخدمًا مجلس صيانة الدستور لإقصاء المرشحين.
في العادة، يفعل خامنئي ذلك كل ثماني سنوات – أي بعد دورتين برلمانيتين، وبانتهاء الدورتين اللتين استحوذ فيهما المعتدلون على تلك الغالبية الشكلية، غداة انتهاء ولاية الرئيس المحسوب على المتشددين محمود احمدي نجاد، فإنّ الوقت قد حان لكي يستعيد المحافظون مكانتهم البرلمانية، ومن ثم الرئاسية، ذلك أن الإنتخابات التي إنتهت، كانت مجرد جسر للمحافظين للإنتقال إلى المقلب الرئاسي في العام 2021..
انطلاقاً مما سبق، كان من الممكن تحديد نتائج الانتخابات قبل أن تفتح الصناديق لتصويت الناخبين، وهو ما تبدّى في عملية “فلترة” المرشحين من قبل مجلس صيانة الدستور، والتي افضت إلى استبعاد 6850 مرشحاً من المعتدلين والمحافظين معاً، بما في ذلك ثلث نواب البرلمان الحاليين.
كل ذلك، أخلى الساحة لصالح المحافظين الملتزمين بالمثل الثيوقراطية للثورة الإسلامية، ما جعل الاتنخابات من الناحية العملية مجرّد منافسة ضمن المعسكر الواحد.
كان المتشددون قد حسموا النتيجة، وجاء التوتر الذي شهدته العلاقات الأميركية – الإيرانية، غداة اغتيال قاسم سليماني ليعزز هذه الوجهة الانتخابية التي يفترض أن تتماهى مع الوجهة السياسية العامة، التي يفترض أن يحتل فيها نهج “المواجهة” الأولوية على نهج “الدبلوماسية”، لا سيما في المرحلة الإنتقالية التي ستمتد لنحو سنة (إلى حين إعادة إنتخاب دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية وأخيرة) وربما تمتد أبعد من ذلك، إلى حين التوصل إلى إتفاق أميركي ـ إيراني جديد.
“صفعة” المشاركة
يوجد قانون غير مكتوب وأثبت مصداقيته في جميع العمليات الانتخابية الايرانية السابقة، فكلما ارتفعت نسبة المشاركة الشعبية في الإنتخابات يفوز الاصلاحيون، وكلما تراجعت النسبة، يفوز المحافظون، وجاءت استطلاعات الرأي التي سبقت الإنتخابات لتبشّر بأن إقبال الايرانيين على صناديق الاقتراع سوف يكون أقل بكثير مما كان عليه في الإنتخابات السابقة، وهذا انعكاس منطقي للأوضاع الاقتصادية الصعبة.
على هذا الأساس، حث خامنئي الإيرانيين على التصويت للإظهار للعالم أنهم وراءه وسياساته، جاعلاً من المشاركة في الانتخابات، المعروفة نتائجها سلفاً، واجباً دينياً، في وقت كان قائد الحرس الثوري يضع هذه المشاركة في إطار التحدي للولايات المتحدة، على اعتبار أن “كل صوت من قبل الشعب هو صفعة في وجه العدو”.
لكنّ احتساب فارق الصفعات بين المشاركة والمقاطعة لم يأتِ هذه المرة لصالح القيادة الإيرانية، فنسبة المشاركة في الانتخابات كانت الأقل منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، إذ لم تتجاوز الثلاثين في المئة في طهران، ودارت حول نسبة الأربعين في المئة في بقية المحافظات.
وبعيداً عن التبريرات التي ساقها المرشد الأعلى والمتمحورة حول “الدعاية الاميركية” التي “استغلت فيروس كورونا”، فإنّ الفتور الانتخابي يعكس خيبة أمل الشعب الإيراني من النظام السياسي، وأظهر أنه بات أقل قدرة على التسامح مع سوء الحكم، المتمثلة تداعياته في الجانب الاقتصادي على وجه الخصوص، والتي دفعت الإيرانيين أكثر من مرة خلال السنوات العشر الأخيرة للخروج إلى الشارع تعبيراً عن غضبهم.
ينتظر أن ينتقل قاليباف من رئاسة قائمة المحافظين في الإنتخابات التشريعية إلى رئاسة البرلمان خلفا لعلي أكبر لاريجاني الذي لم يترشح للإنتخابات التشريعية طمعاً بالمقعد الرئاسي بعد سنة. ومن جهة ثانية، يستعد سعيد جليلي لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية للمرة الثانية، بإسم فريق المتشددين
العد العكسي لحقبة روحاني
ما سبق لا يعني بأي حال من الأحوال أن النظام الإيراني يسلك طريق التآكل، على النحو الذي يأمل به الأميركيون، والذي يسخرون من أجله كافة الوسائل الاقتصادية والسياسية والاستخباراتية، ولكنه يشي بأنّ التشدد في مقاربة الملفات الداخلية والخارجية سيكون النهج الذي ستسير عليه إيران لثماني سنوات على الأقل.
في الواقع، فإنّ انتصار المحافظين يعني سيطرتهم على كافة فروع النظام وذلك للمرة الأولى منذ نهاية عهد محمود أحمدي نجاد في العام 2013، ما يعني العودة إلى مقاربات ما قبل مرحلة “السلام النووي” الذي تبدد مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ومع ذلك، فإنّ عودة المحافظين ليس المعيار في هذه الوجهة، فهم لم يحتاجوا يوماً إلى التمكين البرلماني، فلديهم بالفعل السيطرة المطلقة على جميع المفاصل المهمة في الحكم، ابتداءاً من المرشد الأعلى، نزولاً إلى قيادة الحرس الثوري والمجلس الأعلى للأمن القومي، ومجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة، ومجلس القضاء الأعلى… إلى آخر تلك المؤسسات التي سيطروا عليها منذ انتصار الثورة.
بذلك فإنّ نتائج التصويت لا تغير بشكل ملموس سياسات إيران، ولكنها ستشكل علامة فارقة بسيطة، لكونها تؤذن إلى البداية الرسمية لنهاية حقبة حسن روحاني، بالنظر إلى انعكاساتها المؤكدة على الانتخابات الرئاسية العام المقبل، ذلك أن سيطرة معارضي الرئيس الإصلاحي على البرلمان ستحفزهم على تعطيل أي نجاح في السياسة الخارجية في ما تبقى من حكمه، فضلا عن إطلاق حملة إستجوابات لوزراء حكومة روحاني لجعلهم يمضون آخر أيامهم في الحكم في حالة وجع رأس مستمرة.
وقد بات واضحاً أن المحافظين وبعد فوزهم في الإنتخابات التشريعية، سيوجهون أنظارهم إلى الإنتخابات الرئاسية في العام 2021، وبالتالي، فإن ترشح عمدة طهران السابق محمد باقر قاليباف للإنتخابات التشريعية وعدم ترشح أمين عام مجلس الأمن القومي الأعلى السابق سعيد جليلي لهذه الإنتخابات، يعني أن المحافظين وزعوا المهام في ما بينهم. من جهة، ينتظر أن ينتقل قاليباف من رئاسة قائمة المحافظين في الإنتخابات التشريعية إلى رئاسة البرلمان خلفا لعلي أكبر لاريجاني الذي لم يترشح للإنتخابات التشريعية طمعاً بالمقعد الرئاسي بعد سنة. ومن جهة ثانية، يستعد سعيد جليلي لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية للمرة الثانية، بإسم فريق المتشددين.
من اقتصاد “السلام النووي” إلى “الاكتفاء الذاتي”
بذلك، سيتم تهميش روحاني، الذي أوفى بوعده بإنهاء المواجهة النووية الإيرانية الطويلة الأمد مع القوى العالمية، لكنه لم يتمكن من بناء عهد جديد من الرخاء عندما فشل في مواجهة الهجوم الاقتصادي للرئيس دونالد ترامب.
لقد تأثرت مصداقية روحاني بالفعل بسبب فشل الصفقة النووية في توفير الإغاثة الاقتصادية التي وعد بها بعد عقد من العقوبات الدولية، حيث يقدر صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة 9.5٪ العام الماضي.
اليوم، يمكن للمحافظين المضي قدماً في خيارهم بتعطيل محاولات روحاني للانفتاح على الاستثمارات والتجارة الغربية، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز الاكتفاء الذاتي، عبر موازنات تركز على تقديم المنح الاجتماعية للفقراء بجانب الإنفاق العسكري.
لكنّ هذه الوجهة الاقتصادية المحافظة قد لا تكون فرصها في النجاح افضل من فرص النهج الاصلاحي الذي اعتمده روحاني، طالما أن تغذيتها يرتبط بعائدات الصادرات النفطية التي انخفضت بنسبة 80 في المئة، بفعل العقوبات الاميركية من جهة، وبفعل سياسات المحافظين انفسهم، من جهة ثانية، ومن أحدث نتائجها إعلان مجموعة العمل المالي FATF عن إدراج النظام المصرفي الايراني في القائمة السوداء بعد فشل البرلمان في التصديق على التشريعات المتصلة بمعاييرها لمكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال.
باب التسوية النووية يبقى مفتوحاً
يبقى السؤال الأهم: ماذا تعني الانتخابات البرلمانية الإيرانية للمفاوضات مع الولايات المتحدة؟
من المؤكد أن انتصار المحافظين سيولّد خطاباً معادياً لأميركا، وستكون هناك انتخابات رئاسية في عام 2021، يفوز بها المتشددون. في الظاهر، قد يوحي ذلك بمزيد من التصعيد، ولكنّ لا البرلمان الحادي عشر منذ إنتصار الثورة، ولا الرئيس المقبل يملكان مفاتيح السياسات المتصلة بالملف النووي، فالكلمة الفصل، كالعادة، ستكون عند المرشد الأعلى.
في الوقت الحالي، يقول خامنئي إن الصفقة الجديدة التي تطالب بها الولايات المتحدة غير واردة. ولكن بحلول عام 2021، ثمة شكوك في أن تتمكن إيران من تحمل عامين آخرين من الألم الاقتصادي بسبب العقوبات الأميركية، ومن المرجح أن يولد ذلك المزيد من الاحتجاجات الشعبية التي قد تجعل القيادة مضطرة إلى قبول الخيارات الصعبة، عبر الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الأميركيين والتوصل إلى إتفاق جديد يتضمن تقديم تنازلات متبادلة، لانقاذ نظام بات بحاجة إلى تجديد نفسه، خاصة أن ثمة أجيال إيرانية جديدة صارت تجد مسافة كبيرة بينها وبين جيل الثورة.