مأساة اللبنانيين، قادةً وشعبًا، أنهم يعرفون الدواء اللازم لوضع بلدهم على طريق الشفاء، كما يعرفون أيضًا أن المجتمع الدولي والعربي المعني بلبنان لن يقدم أية مساعدة قبل أن يبلع اللبنانيون العلقم المر.
لكن، اللبنانيين يرفضون الاعتراف أن المجتمع الدولي والعربي لا يعتبر أن الازمة، لا بل المأساة اللبنانية، تهدّد الأمن الدولي والإقليمي. اللبنانيون هُم صُنّاع مأساتهم. هم إنتخبوا نوابهم وثبّتوا قياداتهم في ثلاث دورات إنتخابية منذ إنتهاء الوصاية السورية في العام 2005. لا بل إن اللبنانيين إحتفلوا بالسياسات المالية والنقدية التي أوصلتهم إلى مستوى إقتصادي لم يشهد لبنان مثيله.
مشكلة لبنان اليوم أن المجتمع الدولي والإقليمي الذي يخشى أن يصبح لبنان دولة فاشلة كليًا، ليس مهتمًا بمصالحة اللبنانيين وإجبارهم على الإتفاق في ما بينهم، كما حدث في الطائف عام ١٩٨٩ وفي الدوحة عام ٢٠٠٨. لذا، لا بد من القول كفى إنتظارًا للخارج وكفى توهمًا وأوهامًا بأن لبنان على جدول أعمال كل “إستحقاق” دولي أو إقليمي.
لدينا فرصة إستثنائية. فالأكثر إهتمامًا بالمأساة اللبنانية هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. حثّ الرجل اللبنانيين، أكثر من مرة، على تشكيل حكومة تقوم بإصلاحات يطلبها اللبنانيون والمجتمع الدولي، دولًا ومنظمات ومؤسسات مانحة. كذلك، يبدو أن ماكرون لا ينوي إعتماد الآليات نفسها التي إعتمدت في مؤتمري الطائف والدوحة، أي دعوة اللبنانيين إلى فرنسا للبحث في كيفية حل مشاكلهم؛ إنه يكتفي بإرسال موفدين إلى لبنان والإعتماد على “الدبلوماسية الهاتفية” لحث القيادات اللبنانية على الإتفاق، بالإضافة الى تحرك سفيرته في بيروت في الإتجاه نفسه.
وتفضي مراجعة الإعلام الفرنسي والأوروبي، إلى أن ماكرون يقضي جُلّ وقته ساعيًا إلى حل المشاكل المعقدة والعديدة التي تواجهه في فرنسا والإتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تسويق المنتوجات والسلع الفرنسية عالميًا، مع العلم أن الإنتخابات الرئاسية الفرنسية على مسافة عام من الزمن، أي في أيار/ مايو 2022.
لا أعتقد ان إهتمامات الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن وصلت إلى لبنان. مشاكل أميركا الداخلية كثيرة وعميقة. إهتمام بايدن مركز على وباء الكورونا وبلاده منقسمة عاموديًا، أيديولوجيًا وسياسيًا. لم ينجح بايدن لغايته في وضع آلية للتعاون والتنسيق مع الحزب الجمهوري الذي ما زال يتزعمه الرئيس السابق دونالد ترامب، مع العلم أن أكثر من نصف قاعدة الحزب الجمهوري ترفض الإعتراف بشرعية رئاسة جو بايدن. هناك أيضًا مشاكل داخلية يتهم بايدن سلفه بإفتعالها في قطاعات الصحة والتربية والطاقة والبيئة والهجرة إلى أميركا وغيرها وغيرها، ويريد تصحيحها.
ويواجه بايدن تصحيحًا كليًا لسياسة الولايات المتحدة الخارجية إبتداءً من شرق أسيا والصين إلى الشرق الأوسط مرورًا بأميركا الشمالية واللاتينية وأوروبا وروسيا وافريقيا. وفي الشرق الاوسط، ما زالت إدارته تدرس كيفية التعامل مع إيران والإتفاق النووي؛ الحرب السورية؛ الحرب المدمرة والدموية في اليمن، أحد افقر بلدان العالم، وإيجاد إستراتيجية خروج من هناك تحفظ ماء وجه السعودية، وهناك أيضًا القضية الفلسطينية التي تزداد تعقيدًا مع الإتجاه المتفاقم للإسرائيليين نحو اليمين المتطرف. كل هذا، من دون أن نتجاهل الإرهاب المنبثق من الشرق الأوسط والذي ما زال يهدد الأمن الدولي والإقليمي.
اللبنانيون كلهم يريدون تسوية تمنع دولتهم من الإنهيار الشامل والكامل، بينما تتطلب الديموقراطية، خاصة عندما يكون الوطن متجهاً نحو كارثة حتمية، أن يعمل كل مسؤول من موقعه، بإتجاه تسوية يتنازل خلالها كل فريق بعض الشيء ليس للآخر بل من أجل تسوية مقبولة من الجميع
الطرف الثالث الذي يعتبره اللبنانيون مؤثرًا على سياستهم ومجرى الأحداث في بلدهم هي المملكة العربية السعودية. لا يريد جزء كبير من اللبنانيين أن يُصدّق أن السعودية غير مهتمة بتاتًا بما يجري في لبنان وأن المسؤولين السعوديين يردّدون “الله يسعدهم ويبعدهم” عندما تُبحث معهم قضايا لبنان. هناك من يدّعي أن أحد اسباب إبتعادهم يعود إلى تعاملهم غير المنتج مع بعض الساسة اللبنانيين. البداية من اليمن حيث بدأت المملكة في ربيع ٢٠١٥ حربًا مدمرة وفاشلة وحاليًا ترتد على مدنها بالصواريخ وطائرات الـ”درون”. ثم هناك أسعار النفط المتدنية حيث بات مردود النفط لا يغطي مصاريف المملكة العادية، ناهيك عن الإستثمارات بتنويع الموارد وبناء مدينة تقنية حديثة وذكية (نيوم) خطّط لها وليّ العهد محمد بن سلمان. كذلك تتسم العلاقات السعودية مع عدد من دول الخليج بالبرودة وهناك تناقض في المواقف مع الحليف والشريك الإماراتي في حرب اليمن. ومع ان المملكة توقفت عن ضخ المال في الساحة السورية، إلا أن الوجود العسكري الإيراني والتركي في سوريا يشكل عنصر قلق للسعوديين، خاصة وأنه أصبحت لإيران قدرات صاروخية عالية. كما أن التنافس السعودي العدائي مع إيران وتركيا جعل إسرائيل القوة الإقليمية الأقرب إلى دول الخليج، ولهذا هناك حملة في واشنطن لإقناع السعودية بالإعتراف بإسرائيل مقابل الضغط على إدارة بايدن لعدم فرض عقوبات على وليّ العهد محمد بن سلمان بعد أن اتهمته واشنطن بمسؤوليته عن إختطاف وقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
لم تعد السعودية مهمة إقتصاديًا للولايات المتحدة بعد أن وصلت الأخيرة في ما يتعلق بقطاع الطاقة إلى الإكتفاء الذاتي. كذلك لم ترتح المؤسسات الأميركية الأمنية والعسكرية إلى كيفية وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، ولم يرتح معظم الأميركيين للعلاقة التي نسجها وليّ العهد مع إدارة الرئيس ترامب وبالأخص مع صهر الرئيس جاريد كوشنير. لكن يجدر الذكر أن العلاقة بين الرياض وواشنطن خلال العقود الأربعة الماضية كانت متينة مع إدارات الرؤساء الجمهوريين من رونالد ريغان إلى دونالد ترامب، مرورًا بجورج بوش الأب والإبن. في المقابل، كانت العلاقة مع الرؤساء الديموقراطيين في معظم الأحيان غير ودية. الولاية الأولى للرئيس بيل كلينتون شهدت برودة في العلاقات لكنها تحسنت خلال ولايته الثانية. تراوحت العلاقة مع السعودية في عهد الرئيس باراك اوباما بين الودية والبرودة، وما زالت إدارة الرئيس بايدن تدرس نوعية العلاقات مع المملكة وقد بدأت سلبية بمجرد نشر تقرير الإستخبارات الأميركية بشأن إغتيال خاشقجي.
طبعًا، هناك بلدان أخرى ذات تأثير على مجرى الأحداث في لبنان ومنها إيران والامارات. وبينما يتجسد تدخل إيران من خلال حزب الله، ويعترف الجميع أن قيادة الحزب أعلم بلبنان والعرب من خبراء المنطقة في طهران. أما الإمارات، فما زال تأثيرها غير مباشر ولم يخرج إلى العلن.
لذلك كله، تصبح مهمة تشكيل الحكومة مهمة لبنانية بإمتياز ويجب أن لا ننتظر أي إستحقاق دولي أو إقليمي. ومن العجب أن محاولة التأليف لا تسير كما سار تشكيل الحكومات منذ أن وُضع إتفاق الطائف موضع التنفيذ في أوائل التسعينيات الماضية، فاللبنانيون كلهم يريدون تسوية تمنع دولتهم من الإنهيار الشامل والكامل، بينما تتطلب الديموقراطية، خاصة عندما يكون الوطن متجهاً نحو كارثة حتمية، أن يعمل كل مسؤول من موقعه، بإتجاه تسوية يتنازل خلالها كل فريق بعض الشيء ليس للآخر بل من أجل تسوية مقبولة من الجميع، وإلا فإننا أمام تقاعس عن تحمل المسؤولية، كما قال وزير خارجية فرنسا مؤخراً، وهذا أمر يُرتب تبعات كبرى على المسؤولين اللبنانيين من دون إستثناء.
أخيرًا وليس آخرًا: العجب كل العجب أن كل القيادات تنادي بتحقيق الإصلاحات التي عدّدتها المبادرة الفرنسية. والجميع يوافق على تشكيل “حكومة مهمة” تحقّق الإصلاحات المطلوبة، إستنادا إلى المبادرة الفرنسية لكن تصرف قياداتنا السياسية لا يعكس ما يقولون وما هو المطلوب. من هنا نتساءل، هل أن قياداتنا تعني حقيقة ما تقول؟ وهل يمكننا، بكل صدق، أن نُصدّق أن هؤلاء القادة يريدون القيام بالإصلاحات اللازمة؟ وهل أن السبب لعدم تشكيل حكومة مهمة هو خشيتهم من تحقيق الإصلاحات اللازمة؟ ومن سيكون الخاسر الحقيقي من إجراء الإصلاحات بشفافية وأمانة وإخلاص؟