بإنتظار ما ستؤول إليه محادثات فيينا، فإن سؤالًا استراتيجيًا يرافق رغبة طهران بالعودة إلى اتفاق العام 2015، طالما أنها “حسمت” ـ وفقا لبعض القراءات ـ “خياراتها الشرقية”، مرة مع الصين من خلال “برنامج التعاون الشامل” الذي تم التوقيع عليه في آذار/مارس الفائت، ويمتد إلى خمس وعشرين سنة، ومرة مع روسيا من خلال الشراكة الإستراتيجية المتعددة الرؤوس.
واقع الحال، أن العقل السياسي الإيراني الذي لم تأخذه حرارة الإنفعال في حمأة الإنقلاب الأميركي على “تسوية القرن” النووية قبل ثلاثة اعوام، وما تخللها من فصول “عقابية” ضاغطة على إيران، ولم يذهب إلى التحلل من الإتفاق النووي وتمزيقه كما فعل الرئيس دونالد ترامب في لحظة مشهودة، وإنما اعتمد قاعدة الخروج المتدرج من الإتفاق، وراسمًا في الوقت عينه قاعدة نظيرة عنوانها: الإلتزام مقابل الإلتزام، الأمر الذي يعني رغبة وإرادة ظاهرتين لا لبس فيهما بالتمسك بالإتفاق المغدور.
ماذا يعني اتفاق 5+1؟
يعني ببساطة: تطبيع العلاقات الإقتصادية بين إيران والغرب.
ويعني بصراحة: أن إيران وبالقدر الذي تناوىء به سياسات الغرب فهي ليست منغلقة عليه، وبالقدر الذي هي منفتحة على الشرق، فإنها ليست على صراط مستقيم ومحوري معه، وهذه نقطة توجب العودة إليها في متن الكلام اللاحق.
ولكن قبل ذلك، لا بأس من قراءة بعض بنود اتفاق العام 2015:
ـ بالنسبة للإتحاد الأوروبي:”سينهي الإتحاد الأوروبي جميع الأحكام الواردة في لائحته: تحويلات الأموال بين الأشخاص والكيانات التابعة للإتحاد الأوروبي وبين الأشخاص والكيانات الإيرانية بما يشمل المؤسسات المالية ـ الأنشطة المصرفية بما في ذلك علاقات مراسلة مصرفية جديدة وفتح فروع ومكاتب فرعية جديدة للمصارف الإيرانية في أراضي دول الإتحاد ـ خدمات التأمين وإعادة التأمين ـ دعم التجارة مع إيران ماليًا ـ تقديم منح ومساعدات مالية وقروض إلى حكومة إيران ـ استيراد ونقل النفط والمنتجات النفطية والغاز والمنتجات والبتروكيمائية الإيرانية.. إلخ”.
إيران وبالقدر الذي تناوىء به سياسات الغرب فهي ليست منغلقة عليه، وبالقدر الذي هي منفتحة على الشرق، فإنها ليست على صراط مستقيم ومحوري معه
ـ بالنسبة للولايات المتحدة:”ستوقف الولايات المتحدة تطبيق الجزاءات التالية: المعاملات المالية والمصرفية مع المصارف الإيرانية والمؤسسات المالية الإيرانية بما في ذلك مصرف إيران المركزي والأفراد والكيانات المجمدة أصولهم ــ تزويد إيران بأوراق نقدية بعملة الولايات المتحدة ـ شراء سندات الديون السيادية الإيرانية بما فيها السندات الحكومية أو الإكتتاب فيها أو تيسير إصدارها ـ تقديم خدمات المراسلة المالية ـ الجهود الرامية إلى الحد من مبيعات النفط الإيراني ـ الإستثمار في طرق منها المشاريع المشتركة في السلع والخدمات والمعلومات والخبرة الفنية ودعم قطاعات النفط والغازـ شراء أو بيع أو نقل او تسويق النفط والمنتجات البتروكيمائية والغاز الطبيعي الإيراني.. إلخ “.
وفي مرحلة ما بعد الإتفاق، توصلت إيران والدول الغربية إلى إبرام عقود تجارية واستثمارية أبرزها: شراء إيران 100 طائرة “إيرباص” أوروبية الصنع و80 طائرة “بوينغ” أميركية الصنع، بالإضافة إلى بناء 6 مناطق صناعية حرة و12 مطارًا جديدًا في إيران.
هذه الصفقة ـ الإتفاق، وصفها ترامب بأنها “سيئة للغاية”، ولذلك أسقطها، بينما نظرت إليها إيران من منظور مختلف، فهي (الصفقة) تُفرج عن الأرصدة المالية الإيرانية المجمدة والمقدرة بـ 120 مليار دولار، على أقل تقدير، وتجعل إيران عضوًا فاعلًا في النظام الإقتصادي العالمي، وتكرسها دولة لا شرقية ولا غربية، وفق المقولة الإيرانية الأكثر شهرة وشيوعًا.
لماذا لا تنتهج إيران نهج الأحادية الشرقية؟
الإجابة على هذا السؤال تستدعي سؤالًا موازيًا: لماذا لا تنتهج إيران نهج الأحادية الغربية؟.
في الإجابتين على السؤالين الإستراتيجيين السابقين، تكمن منظومة “فكرو ـ سياسية” إيرانية متكاملة، مضمونها يقوم على الإبتعاد عن الوقوع في “وباء الشرق وسموم الغرب”، فالإتجاه الأحادي نحو هذا أو ذاك، يدفع إيران لأن تكون أسيرة أحدهما، ويجعلها صاحبة حاجة.
يقول المثل الإيراني القديم: الحاجة نوع من الأسر.
هذه المعلومات التي يكشفها ظريف، تستند إلى ثقافة إيرانية عميقة تضع في حساباتها وظنونها احتمال تبدل الحال والأحوال، ذلك أن وضع البيض في سلة واحدة ليس من الحكمة بشيء، فالدنيا قابلة للتغيير والتبديل، وفي ذلك يقول المثل الفارسي الشائع: (لا تبقى الدنيا على حال واحدة)
في التسريبات الصوتية المسربة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، والتي ترتقي إلى واجهة الحدث الإيراني الأول في هذه الأيام، وبقطع النظرعن خلفياتها وأبعادها السياسية أو الجهات التي سربتها، يلاحظ مرارة واضحة من دور وأداء المفاوض الروسي في مرحلة ما قبل التوقيع على الإتفاق النووي في تموز/يوليو 2015. يقول ظريف:
“كان الروس يعتقدون في البداية أن الاتفاق النووي لن يتحقق، وبذلوا في أسبوع ما قبل التوقيع كل جهدهم لكي لا يتم إبرام الإتفاق، وأول ضربة وجهتها روسيا إلى الإتفاق النووي هي إعلانها عن رغبتها في أن ترعى مفاعل بوشهر النووي بشكل دائم، ولم نكن نرغب في أن نكون معتمدين بشكل دائم على الروس، فوجه الروس ضربتهم الثانية عندما قالوا بأننا لن نسمح لإيران بأن تستخدم وقودها لمفاعل بوشهر النووي”.
ويقول ظريف أيضًا:
“من مصلحة روسيا أن لا تكون علاقات إيران مع الغرب متأزمة لكن ليس من مصلحتها أن تكون علاقات إيران مع الغرب طبيعية، لو أصبحت علاقات إيران مع الغرب طبيعية فروسيا تتضرر من جانبين، الأول: أن تصبح روسيا والصين أولوية في سياسة أميركا الخارجية، ثانيًا: لو كنا في حاجة إلى روسيا والصين في عدائنا للغرب فتستطيعان حينها الحصول على مزيد من الإمتيازات منا”.
هذه المعلومات التي يكشفها ظريف، تستند إلى ثقافة إيرانية عميقة تضع في حساباتها وظنونها احتمال تبدل الحال والأحوال، ذلك أن وضع البيض في سلة واحدة ليس من الحكمة بشيء، فالدنيا قابلة للتغيير والتبديل، وفي ذلك يقول المثل الفارسي الشائع:
دنيا هميشه بر يك قرار نميما ند/ (لا تبقى الدنيا على حال واحدة).
بصورة عامة، يستحضر كلام ظريف، التناقضات العلنية في المواقف الروسية والإيرانية عام 2010، بعد ظهور “إعلان طهران” بين إيران وتركيا والبرازيل، وقبل تصويت روسيا والصين على قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 1929، والذي فرض على إيران منظومة عقوبات اقتصادية وتجارية هي الأقسى في تاريخها.
ماذا جرى في ذلك العام؟
في 17 أيار/مايو2010، توصل الإيرانيون والأتراك والبرازيليون، إلى صيغة حل للوقود النووي الإيراني، قضى بأن “توافق جمهورية إيران الإسلامية على إيداع 1200 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب لدى تركيا، على أن تبقى الكمية ملكًا لإيران، ويمكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران وضع مراقبين لمراقبة حسن الحفاظ على اليوارنيوم منخفض التخصيب، وعندما تعلن مجموعة فيينا التزامها بهذا البند، تعلن إيران استعدادها لتسليم 1200 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب خلال شهر واحد”.
تلك الصيغة عارضها الروس والصينيون في الشرق، كما عارضها المعارضون في الغرب، وأدى ذلك إلى اندلاع اشتباك سياسي علني بين طهران وموسكو عبّر عنه محمود احمدي نجاد، الرئيس الإيراني آنذاك، وحيال ذلك كتبت وكالة “مهر” الإيرانية (26 ـ5 ـ2010) تحت عنوان “الرئيس احمدي نجاد ينتقد سلوك الرئيسين الأميركي والروسي” وقالت:
“انتقد رئيس الجمهورية الإسلامية محمود احمدي نجاد طريقة عمل الرئيسين الأميركي والروسي إزاء إعلان طهران، وأشار الى أن الحد الأدنى من الدعم المتبادل لحقوق البلدين بين ايران وروسيا هو ما يمكن توقعه من الجيرة والصداقة واتضح اليوم ان موقف الرئيس الروسي السيد ميدفيديف بات يمثل مشكلة للشعب الإيراني ـ الذي ـ لا يعلم هل هم بهذا السلوك جيران وأصدقاء لنا أم أنهم يقفون في مواجهتنا لأغراض أخرى”؟
ما سعى الإيرانيون إلى قوله بعد “موقعة همدان” إنهم لا يحبذون الرقص مع الروس رقصة “الباليه”، تماما كما أنهم لا يرغبون في الرقص مع الغرب رقصة “التانغو”
وكان أحمدي نجاد نفسه، أطلق لومًا صريحًا إلى روسيا وفقا لصحيفة “الأخبار” اللبنانية وصحف ووكالات أجنبية (24ـ 5 ـ2010)، ونقلت “الأخبار”، في سياق سرديتها للموقف الروسي الداعم للعقوبات على إيران، عن الرئيس الإيراني قوله: “لو كنت مكان المسؤولين الروس، لكنت أكثر تيقظًا عند اتخاذ موقفي”، وقال، في إشارة إلى الإتفاق الثلاثي: “كنا نتوقع من دولة جارة وصديقة أن تدافع عن إعلان طهران”.
هذ االلوم الواضح لموقف روسيا المفترض أنها صديقة وجارة لإيران، يستحضر ما قاله الشاعر الإيراني المعروف حافظ الشيرازي (توفي عام 1390) عن الصداقة والوفاء، وحولهما يقول:
ياري اندرکس نمي بينم ياران را چه شد؟
دوستي کي آخرآمد دوستداران را چه شد؟
(لا أرى بين الناس وفيًا فماذا دهى الأوفياء؟
متى انتهت الصداقة وماذا دهى الأصدقاء؟)
لم يقتصر الأمر على تعاضد الشرق والغرب في إصدار القرار 1929، المسبوق الذكر، في عام 2010، بل ذهبت روسيا إلى تجميد تسليم إيران منظومة “S300 ” الصاروخية، وفي هذه الواقعة أيضا كان لمحمود احمدي نجاد مواقف منتقدة ولاذعة للموقف الروسي، إذ تنقل عنه صحيفة “الأخبار” بتاريخ 4 ـ11 ـ2010، قوله إن روسيا “باعت إيران لأعدائها بإلغائها من جانب واحد صفقة صواريخ S300”.
في آب/أغسطس 2016، انتقدت طهران موسكو بطريقة أقرب إلى التأنيب، حين كشفت الثانية عن استخدام قاذفات استراتيجية روسية قاعدة همدان الجوية الإيرانية لقصف مواقع عسكرية لتنظيمي “داعش” و”النصرة” في سوريا، وأقدمت إيران جراء هذا “الكشف” على تعليق التعاون مع روسيا في قاعدة همدان، وقال وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان “إن الروس يستعرضون، ويحبون الظهور بمظهر القوة العظمى، والإعلان عن وجود طائراتهم العسكرية في همدان هو عدم إكتراث”.
ما سعى الإيرانيون إلى قوله بعد “موقعة همدان” إنهم لا يحبذون الرقص مع الروس رقصة “الباليه”، تماما كما أنهم لا يرغبون في الرقص مع الغرب رقصة “التانغو”.
تقول الحكمة الفارسية القديمة:
للطائر جناحان لكي يحلق في الجهات الأربع.