من بين مئات الكتب التى تناولت دور وإرث وسجل هنري كيسنجر، ينفرد هذا الكتاب بالتركيز على تفاصيل مهمة كيسنجر عقب حرب أكتوبر والتى أفضت إلى بناء آلية لعملية سلام الشرق الأوسط استمرت لعدة عقود.
ويعد كيسنجر من أكثر الشخصيات تأثيرا فى تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية فى النصف الثانى من القرن الـ20، والتى كان لها تأثير واسع على الشأن المصرى والعربى والعالمى.
تناول أنديك فى كتابه «سيد اللعبة.. كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط» (Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy)، تفاصيل هامة أتاحها له القدرة على الإطلاع على آلاف الوثائق التى رفعت عنها السرية من الأرشيف الأمريكى والإسرائيلى، ومقابلات واسعة ومتكررة مع كيسنجر نفسه، فضلا عن لقاءات جمعت الكاتب بكبار مسئولى ملفات عملية السلام فى الدول المعنية.
جدير بالذكر أن إنديك شغل سابقا منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل مرتين، ومساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى والمبعوث الأمريكى الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية.
***
يعيد إنديك القارئ إلى السبعينيات الماضية، حين أجرى كيسنجر مفاوضاته مع الرئيس أنور السادات، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير، ورئيس سوريا حافظ الأسد، والملك الأردنى حسين بن طلال، والملك السعودى فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، ليسرد بالتفصيل الطريقة التى تمكن بها من المناورة مع قادة الشرق الأوسط نحو السلام.
ويرى إنديك أن كيسنجر نجح فى التوصل إلى 3 اتفاقيات ــ اثنتان بين مصر وإسرائيل، وواحدة بين إسرائيل وسوريا عقب حرب أكتوبر ــ وإنهاء حرب أكتوبر. ويرى كيسنجر أن الاتفاق بين إسرائيل وسوريا حافظ على السلام فى مرتفعات الجولان لمدة 40 عاما، ومهد اتفاقا ضد الاشتباك لإخراج مصر من الصراع مع إسرائيل، وأرسى الأسس لمعاهدة سلام بين البلدين.
ولعب كيسنجر عقب حرب أكتوبر دورا رئيسا ممهدا لعملية سلام الشرق الأوسط، وسيطرة واشنطن على مساراتها وطبيعتها ونتائجها.
وينقل الكتاب عن كيسنجر قوله إن «السلام فى الشرق الأوسط كان مشكلة وليس حلا، والرغبة فى السلام تحتاج إلى إيجاد نظام مستقر فى هذا الجزء الشديد التقلب من العالم».
***
وفى الوقت الذى عانت فيه الولايات المتحدة من تبعات تدخلها المكلف فى فيتنام من ناحية، ومن ناحية أخرى تدهور مكانة الرئيس ريتشارد نيكسون وتركيزه بسبب فضيحة ووترجيت، استخدم كيسنجر دبلوماسيته الماهرة لتهميش الاتحاد السوفيتى فى خضم الحرب الباردة وبناء نظام شرق أوسطى بقيادة الولايات المتحدة.
وبدلا من محاولة حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى بضربة واحدة، كما كان يأمل الرئيسان جيمى كارتر وبيل كلينتون لاحقا، كتب إنديك أن وساطة كيسنجر لوقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاقيات محدودة مؤقتة كانت أسلوبا حكيما، لأنها حافظت على استقرار هش من دون أن تهدف إلى الكثير.
يؤكد إنديك أن «الواقعية الكيسنجرية» هى الحل لمعضلة السياسة الخارجية الليبرالية الطموح، ويقول إن «التدرج الواقعى لكيسنجر وفر طريقا وسطا بين الطموح فى السلام الشامل من جانب، واليأس والجمود وبقاء الأوضاع كما هى عليه. وآمن كيسنجر بأن الطريق نحو السلام لا بد أن يبقى تدريجيا وبطيئا، وقد يكون غير متكافئ فى كثير من الحالات».
ويوضح الكتاب أن كيسنجر آمن بأن السلام سيتحقق عندما يستنفد العالم العربى كل البدائل، ويعتاد مع مرور الوقت وجود إسرائيل. ومن خلال اختيار عملية تدريجية، بدلا من الاندفاع السريع نحو تسوية شاملة، قدمت دبلوماسية كيسنجر اعتمادا على طريق طويل نحو السلام. وفى غضون ذلك، كان الهدف هو الاستقرار، وتجنب أى شىء يمكن أن يعكر صفو عملية السلام مع تعليم الطرفين الصبر وبناء بعض الثقة المتبادلة.
***
يُفصّل الكتاب ما عدّه كيسنجر مناورة ومبادرة جادة قام بها الرئيس المصرى أنور السادات، ولم تلتفت إليها واشنطن إلا متأخرا، فقد أرسل مستشاره للأمن القومى حافظ إسماعيل إلى واشنطن فى شباط/فبراير 1973 حاملا مبادرة للسلام.
قابل كيسنجر إسماعيل واستمع إليه، وأجل الرد من دون جدية ومن دون استعجال على الرغم من تأكيد إسماعيل على ذلك.
عرض كيسنجر الفكرة على نيكسون، ثم ناقش الأمر مع السفير الإسرائيلى لدى واشنطن، إسحاق بيريز، الذى قلل من أهميتها ورفضها، كما فعلت جولدا مائير التى قضت على المبادرة، وقالت «انسوها».
وتعهد كيسنجر بالعودة للمبادرة بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التى كانت مقررة فى كانون الأول/ديسمبر، لكن السادات ذهب إلى الحرب فى تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه.
وقبل ذلك، فاجأ الرئيس المصرى العالم بقرار طرد 20 ألفا من الخبراء السوفيت من مصر يوم 18 تموز/يوليو 1972، وكان رد الفعل الأمريكى دليلا كافيا للتعرف على أهمية هذه الخطوة وخطورتها، فقد قال كيسنجر «لو اتصل الرئيس السادات تليفونيا بواشنطن وطلب أى شىء قبل طرد الخبراء من مصر، لكان حصل على ما أراد، إلا أنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجانا».
ولكن الكتاب يشير إلى أن السادات اعتمد على حسابات مختلفة، ورأى أن التخلص من الخبراء كفيل بتحريره من عبء موافقة الاتحاد السوفيتى على أى عمل عسكرى فى المستقبل.
ويقول إنديك متحدثا عن كيسنجر «تصورنا أن السادات غبى، ولا يمكن له القيام بشىء ذى قيمة، ولم يكن الأمر كذلك».
***
ويوضح إنديك أن تجربة كيسنجر المبكرة أثناء فراره من ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية جعلته يشعر بخيبة الأمل إزاء «المثالية الويلسونية التى سعت إلى السلام لإنهاء جميع الحروب»، وهذا ما دفعه إلى التعامل مع ملف عملية السلام بحذر وتشكك كبير.
فى الوقت ذاته، كان من المعروف عن الرئيس ريتشارد نيكسون ميوله المعادية للسامية، وحساسيته من يهودية كيسنجر، ولم يعهد إليه بملف العلاقات العربية الإسرائيلية إلا فى السنوات الأخيرة من حكمه، ولم يشرف كيسنجر على ملف الشرق الأوسط إلا قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973.
وحاول كيسنجر تاريخيا، وخلال المفاوضات، حفظ سلامة إسرائيل وأمنها فى وقت عدّ فيه القادة الإسرائيليون وجوده فى دائرة صنع القرار الأمريكى كفيلا بحماية مصالحهم لأنه يهودي، أما القادة العرب فاعتقدوا أن يهودية كيسنجر كفيلة بنيله ثقة إسرائيل، وهو ما سيدفعها إلى قبول تنازلات كبيرة.
وبين هذا وذاك، استغل كيسنجر رؤية الأطراف له لتحقيق ما رآه مصلحة أمريكية، والتى أراها تتطابق مع مصالح إسرائيل فى هذا الصراع الطويل.
(*) بالتزامن مع “الشروق“