برغم أن الإنفجار الكازاخي في مطلع العام الجديد أتى على خلفية مطالب إجتماعية وحياتية بعد مضاعفة أسعار الغاز المسال، فإن التداعيات الجيوسياسية التي كان يمكن أن تلي ذلك، لا شك بأنها كانت لتترك تأثيراتها على الجارين: روسيا والصين.
كان يُنظر إلى كازاخستان على أنها واحة الإستقرار في آسيا الوسطى التي لا تخلو دولها من هزات إجتماعية وسياسية. الدولة التي كانت آخر من إستقل عن الإتحاد السوفياتي السابق، صاغها نور سلطان نزارباييف على مقاسه خلال حكمه الذي إمتد لثلاثة عقود، قبل ان يتقاعد جزئياً عام 2019 ليصير رئيساً لمجلس الأمن الوطني ويُطلق على نفسه “الرئيس الأبدي” للبلاد، ويُغيّر إسم العاصمة من أستانا إلى نور سلطان، بينما بقي وعائلته متحكمين بالقرار السياسي والإقتصادي، ولم يكن خليفته قاسم جومارت توكاييف إلا بمثابة رئيس صُوري.
وإلى العلاقة المميزة مع روسيا بحكم الجغرافيا ووجود أقلية روسية مهمة تبلغ 20 في المئة من السكان البالغ عددهم 19 مليوناً، سعى نزارباييف أيضاً إلى علاقات جيدة مع الصين والولايات المتحدة وأوروبا. وكون كازاخستان بلداً غنياً بالنفط والغاز، فإن العديد من الشركات الأميركية تدير عدداً لا بأس به من المشاريع النفطية في هذا البلد.
على أبواب الحوار مع الولايات المتحدة في ما يتعلق بأوكرانيا، ما كان بوتين ليسمح بفتح جبهة أخرى على روسيا، فيقع بين نارين. وهذا ما يُفسر سرعة القرار الروسي بالتدخل عسكرياً تحت غطاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي يشبهها البعض بحلف وارسو إبان الحرب الباردة
وبينما إستفادت نخبة من النظام الإقتصادي السائد، فإن الدولة كانت تدعم بعض المقومات الحياتية للناس العاديين، ومنها الغاز المسال الذي يستخدم وقوداً للسيارات وللتدفئة في المنازل ولأغراض أخرى. وعندما ضاعفت الحكومة أسعار هذه المادة، فإنها كانت كمن رمى عود ثقاب في حقل من الكبريت، فإنفجر الإستياء الشعبي المتراكم منذ عقود من حكم نزارباييف، في وجه توكاييف، الذي وجد أن قادة الأجهزة الأمنية لا يطيعون أوامره بالتصدي للمتظاهرين، ولم يكن أمامه سوى رفع سماعة الهاتف والإتصال بفلاديمير بوتين لتفعيل معاهدة الأمن الجماعي التي تضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وأرمينيا وطاجيكستان، بعدما كانت أوزبكستان إنسحبت من عضوية المنظمة عام 1999، لكنها عادت إليها في حزيران/يونيو 2006، قبل أن تعود وتُعلن خروجها منها عام 2012.
وأمام تسارع الأحداث وإتساع نطاق الإضطرابات وعجز حكومة توكاييف عن التعامل مع المتظاهرين، كانت طليعة “قوات حفظ السلام” الروسية والبيلاروسية تصل خلال ساعات إلى مطار ألما أتا لتستعيده من المتظاهرين، بينما كان المسؤولون الروس يتحدثون عن وقوف جهات أجنبية خلف الأحداث. وبديهي بالنسبة إلى روسيا، التي تخوض مواجهة مع الغرب حول أوكرانيا، أن تُغلّب النظرة الجيوسياسية إلى المسألة الكازاخية على ما عداها من تفسيرات للأسباب التي حدت بالناس إلى النزول إلى الشوارع.
وعلى أبواب الحوار مع الولايات المتحدة في ما يتعلق بأوكرانيا، ما كان بوتين ليسمح بفتح جبهة أخرى على روسيا، فيقع بين نارين. وهذا ما يُفسر سرعة القرار الروسي بالتدخل عسكرياً تحت غطاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي يشبهها البعض بحلف وارسو إبان الحرب الباردة، وهذا التدخل العسكري هو الأول للمنظمة التي تأسست عام 1992، ومجلة “الإيكونوميست” البريطانية التي تنتقد بوتين على نحوٍ دائم، إقتبست عن المؤرخ سيرغي رادتشينكو أنه بعد كازاخستان “أثبتت منظمة معاهدة الأمن الجماعي أنها حلف دفاعي”، في تذكير بنكتة سوفياتية قديمة عن حلف وارسو الذي كان يُقال عنه إنه “لا يغزو إلا الدول الأعضاء فيه فقط”، وذلك في إشارة إلى التدخل في بودابست عام 1956 وفي براغ عام 1968.
وعلى رغم أن كازاخستان ليست الإختبار الأول لروسيا على صعيد القلاقل التي تحدث في جمهوريات سوفياتية سابقة، فإن إضطرابات بيلاروسيا قبل عامين، تمكن الرئيس ألكسندر لوكاشنكو من التعامل معها محلياً قبل أن يُفعّل معاهدة “الإتحاد” مع روسيا ويهب بوتين لنجدته. لم تحتج موسكو وقتذاك إلى إرسال قوات بشكل مباشر لقمع إحتجاجات المعارضة، وإنما جرى إرسال قوات في ما بعد لإجراء مناورات مشتركة بغية توجيه رسالة إلى الغرب كي يكف عن دعم المعارضة البيلاروسية، وبان موسكو لن تسمح بـ”ثورة ملونة” في بيلاروسيا.
وجدير بالذكر أنه في عام 2014، غزا بوتين شبه جزيرة القرم مباشرة بعد سقوط نظام حليفه فيكتور يانوكوفويتش في كييف. وخاضت روسيا عام 2008 حرباً قصيرة مع جورجيا لمنعها تيبليسي من ضم أوسيتيا الجنوبية.
ومع حشد القوات الروسية في الأسابيع الأخيرة على حدود أوكرانيا، رسم بوتين خطاً أحمر أمام إنضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي. والحشد العسكري الذي يعتبره الغرب مقدمة لغزو، كان الرافعة التي إستخدمها الكرملين ليبدأ حواراً مع الولايات المتحدة حول “الإستقرار الإستراتيجي” الذي سيركز على ضمانات أمنية تطالب بها موسكو على صعيد زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً وعلى مسألة تتعلق بإرسال قوات أميركية أو أسلحة إلى جمهوريات سوفياتية سابقة.
هل الغزو الذي إنتظره الغرب في أوكرانيا، حدث في كازاخستان؟ وهل عرض العضلات الروسي في كازاخستان، رسالة إلى الغرب لا تحمل الكثير من التأويلات؟
اليوم، قفزت كازاخستان إلى جدول أعمال الحوار الذي يبدأ غداً في جنيف، على أنه يليه حوار مع حلف شمال الأطلسي في 12 الشهر الجاري، عشية إجتماع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. فهل الغزو الذي إنتظره الغرب في أوكرانيا، حدث في كازاخستان؟ وهل عرض العضلات الروسي في كازاخستان، رسالة إلى الغرب لا تحمل الكثير من التأويلات؟
في الواقع، ليست كازاخستان مهمة من الناحية الجيوسياسية فقط لروسيا، وإنما هي أيضاً مهمة جداً لبكين، التي تنظر إلى كازاخستان وفق ما يقول نيكولاس ك. غفوسيديف في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، على أنها حجر الزاوية في “جسرها البري الجديد في أوراسيا” الذي يعتبر جزءاً من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، علاوة على دورها كمورد أساسي للطاقة إلى الصين. كما أن الأزمة في كازاخستان تعتبر أيضاً بمثابة إختبار لـ”التفاهم” الروسي – الصيني في ما يتعلق بالقضايا الجيوسياسية في آسيا الوسطى وحول كيفية التعامل معها.
ومن بين أوجه الشبه بين أوكرانيا وكازاخستان أن الطاقة هي المحرك للكثير من الأزمتين في البلدين. أحد المآخذ الأوكرانية الرئيسية التي تُوسع شقة العداء بين كييف وموسكو، هو سعي الأخيرة إلى الإستغناء نهائياً عن دور أوكرانيا كمنطقة عبور لغازها الطبيعي إلى أوروبا الغربية في ضوء تشييد خط “نورد ستريم-2″، الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق.
لن يستسيغ الغرب الدخول العسكري الروسي إلى كازاخستان، وسيضعه في خانة محاولات بوتين إحياء الإتحاد السوفياتي السابق. تماماً مثل الريبة التي تساور واشنطن، من الإصرار الروسي على معارضة إنضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.