أزمة الطاقة والأسعار.. ماذا ينتظرنا في 2023؟

يُمكن القول إن أزمة الطاقة التي تجتاح العالم حاليًّا والتي بدأت في كانون الثاني/يناير 2021، أي قبل أربعة عشر شهرًا من بدء النزاع الروسي الأوكراني، هي أخطر وأشدّ أزمة مرّت وتمر على العالم منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، من حيث إلحاقها ضَّررًا وخيمًا في اقتصاد العالم وإحداث تضخُّم مالي وضمور اقتصادي كبير جدًّا.

وقد زادت أزمة أوكرانيا وما تبعها من عقوبات غير مسبوقة ضدّ روسيا من حدّة أزمة الطاقة وحوَّلتها من أزمة طاقوية مرتبطة بالاتحاد الأوروبي إلى أزمة طاقوية عالميّة. إضافةً إلى ذلك، حوَّلت مجرى اتجاه إمدادات الطاقة من الغرب إلى الشرق، أي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى الصين ودول حوض المحيط الباسيفيكي.

وتختلف أزمة الطاقة الحاليّة عن كلّ ما سبقها من أزمات. ففي حين أنَّ الأزمات السابقة سبَّبت نقصًا خطيرًا في إمدادات النفط في العالم، فإن أزمة اليوم سبَّبت نقصًا كبيرًا في إمدادات النفط والغاز والفحْم معًا.

وفي الواقع، نحن أمام أزمة طاقة حاليًا مرشحة لأن تتحول إلى أزمة دائمة تتّسم بنقص خطير في إمدادات الطاقة وبارتفاع ساحق في الأسعار. ولأنَّ قادة العالم لن يستطيعوا وقْف هذه الأزمة، فسيُلقون اللّوم على الوقود الاحفوريّ، أي النفط والغاز والفحْم، وهذه أكبر كذبة في تاريخ العالم.

في الوقت نفسه، كل ما يُقال عن تحوُّل الطاقة العالميّة من النفط والغاز إلى الطاقة المتجدّدة لن يكون كافياً، في المدى المنظور، من أجل تلبية احتياجات الاقتصاد العالمي والانتاج الغذائي في العالم، وبالتالي لا يمكن الإستغناء عن الغاز الطبيعي والفحم والنفط والطاقة النووية. السَّبب هو الطبيعة المتقطّعة للطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح، بمعنى أنّه لا يمكن إنتاج كهرباء شمسيّة إذا كانت الغيوم مخيّمة على الجوِّ ولا كهرباء من الرّياح إذا كانت الرّياح ساكنة.. هذا ما تقوله الطبيعة لنا ولسنا نحن من يُقرّر ذلك.

ومهما بلغ إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجدّدة، لن يكون كافيًا أبدًا لتلبية الطلب العالمي على الكهرباء والطاقة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ العقوبات الغربيّة الصَّارمة على روسيا وإمداداتها من الطاقة وفرض سقف بحدود 60 دولارًا للبرميل الواحد على صادرات روسيا من النفط قد ألحقت كلها بالغ الأذى بإمدادات الطاقة في العالم.

الصين وحدها، على سبيل المثال، قد اشترت في العام 2022 من روسيا نفطًا وغازًا وفحمًا بقيمة 89 مليار دولار، أي ما يساوي 89% من كلّ مشتريات الاتحاد الأوروبي من النفط والغاز الروسيين في العام 2021

فرض سقف على أسعار النفط الروسي

إن خطوة فرض سقف على أسعار النفط الروسي هدفها استمرار وصول إمدادات النفط الروسي إلى الأسواق العالمية، لكن بسعر مخفّض جدًّا ـ يُحدّده المُحتاج للنفط الروسي ـ بما يؤدّي إلى خفض وارادات روسيا من صادرات النفط بالتزامن مع محاولة ضرب قدرة آلة الحرب الروسيّة في أوكرانيا.

لكن حقيقة الأمر أنَّ فرض سقف على سعر النفط الروسي غير عملي وغير قابل للتنفيذ. الجواب قدّمه سوق النفط العالمي برفضه هذا السقف، بدليل أنَّ سعر خام برنت (Brent) ارتفع من 73 دولارًا للبرميل الواحد عند فرض السقف في الخامس من كانون الأوّل/ديسمبر من هذا العام إلى 85 دولارًا في السادس والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر، أي بزيادة 17%.

كما أن أهمّ لاعبَين في سوق النفط العالمي، وهُما منظّمة أوبك وروسيا رفضتا هذا السقف. منظّمة أوبك اعتبرت أنَّ فرض سقف على الأسعار يضرّ بمصالح أعضائها الذين يحتاجون إلى سعر 100 دولار للبرميل الواحد، في حين أعلنت روسيا بلسان رئيسها فلاديمير بوتين أنّها لن تقبل ببيع نفطها بسعر السَّقف (الأوروبي ـ الأميركي). في الواقع، أصدر بوتين في السابع والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر مرسومًا يقضي بحظر تصدير النفط الروسي إلى الدول التي تتقيّد بسعر السَّقف كما أعلن عن خفض إنتاج روسيا من النفط بنسبة 500.000 – 700.000 برميل يوميًا.

وبطبيعة الحال، لن تكون روسيا خاسرة من جرّاء فرض سقف السِّعر لأنَّ زبائنها الكبار مثل الصين والهند وتركيا والدول الآسيويّة وتجّار النفط الآسيويّين قد رفضوا التقيّد بسقف السِّعر، وهُم مستمرّون في شراء كميات متزايدة من إمدادات النفط الروسي. الصين وحدها، على سبيل المثال، قد اشترت في العام 2022 من روسيا نفطًا وغازًا وفحمًا بقيمة 89 مليار دولار، أي ما يساوي 89% من كلّ مشتريات الاتحاد الأوروبي من النفط والغاز الروسيين في العام 2021.

بالمقابل، تسبب إرتفاع فاتورة الطاقة في الاتحاد الأوروبي بتعطيل قطاعات كبيرة من اقتصاد القارة العجوز وأدَّى إلى انكماش خطير في اقتصادها، كما أدَّى إلى انخفاض كبير في مستوى معيشة شعوبها في حين تُعاني الولايات المتحدة من تضخُّم مالي كبير وانكماش كبير في اقتصادها. وقد بلغت قيمة فاتورة الطاقة لدى الاتحاد الأوروبي أكثر من تريليون دولار في العام 2022، أي ما يساوي 6% من حجم ناتجها الإجمالي (GDP).

وبالمثل فإنَّ اتجاه الاتحاد الأوروبي إلى فرض سقف على سعر الغاز الروسي سيؤدّي إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي في دول الاتحاد ومن شأنه أن يرفع حجم فاتورة الطاقة المُستهلكة!

هل هناك بدائل للنفط الروسي؟

إن أكبر ثلاثة مُنتجين للنفط في العالم هم روسيا ومنظّمة أوبك والولايات المتحدة. روسيا هي أكبر مُنتِج في العالم للنفط ومشتقّاته. صادراتها البالغة 8 ملايين برميل يوميًّا من النفط ومشتقّاته لا يمكن الاستغناء عنها الآن أو في المستقبل.

اذا ما أضفنا صادرات 8 مليون برميل يوميًا من النفط الروسي بالروبل وواردات الصين البالغة 12 مليون برميل يوميًا بالبترويوان، فستنخفض حصّة البترودولار بمقدار 60%. هذا سيؤدّي إلى خسران البترودولار تدريجيًا سيطرته على تجارة النفط في العالم

بدورها، تُصدّر مُنظمة أوبك يوميًّا 25 مليون برميل من النفط تُشكّل 54% من صادرات العالم. غير أنّ أوبك لا تستطيع في الوقت الحاضر رفع إنتاجها أو صادراتها بسبب نقص طاقة الانتاج الإضافيّة.

إقرأ على موقع 180  البابا في عراق على درب جلجلة أبدية

أما الولايات المتحدة، فلا يمكنها رفع إنتاجها أكثر ممّا هو عليه الآن، أي 9.5 – 10 مليون برميل يوميًا منذ أن سحَقَ فيروس كوفيدـ19 إنتاجها بدءاً من مطلع العام 2020 بحيث أصبح إنتاج النفط الصخري الأميركي قوّة مستهلكة كلّيًّا. لهذا السّبب، لن تستطيع الولايات المتحدة تعويض 211 مليون برميل من النفط سحَبَتْها من احتياطها الاستراتيجي في العام 2022 من أجل فرض إنخفاض أسعار النفط. بالتالي، ليست هناك وفرة نفطية في سوق النفط العالمي تسمح للولايات المتحدة بتعويض ما سحَبَتْه من احتياطها الإستراتيجي في المستقبل القريب. هذا يُعتبر أمرًا خطيرًا بالنسبة للولايات المتحدة في وقت يزداد التوتر بينها وبين كلٍّ من روسيا والصين وهو مرشح للتصاعد أكثر في المرحلة المقبلة.

وتبقى روسيا، في ميدان إمدادات الغاز في العالم، الدولة المسيطرة على سوق الغاز العالمي، كونها أكبر دولة مُصدِّرة للغاز، إضافةً إلى أنّها تملك أكبر احتياطي للغاز في العالم.

إن اقتصاد العالم يحتاج إلى الكثير من النفط والغاز والفحم حتى يستمر في النموّ لتلبية احتياجات تزايد السُّكَّان في العالم، ولكن ذلك يحتاج إلى سعر للنفط يصل إلى 120 دولارًا للبرميل الواحد بشكل دائم لتوفير إمدادات الطاقة من مصادر آخذة في النضُوب سريعًا.

وتتوقّع مُنظّمة أوبك أن يرتفع الطلب العالمي على النفط إلى 103.8 ملايين برميل يوميًا في العام 2023، كما أن الطلب العالمي على الغاز والفحم والكهرباء سيُوازي الطلب على النفط.

البترودولارمقابل البترويوان والروبل

بمطالبته للدُّول غير الصديقة مثل دُول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن تدفع بالروبل ثمنًا لإمدادات النفط والغاز والفحم الروسي، جعل الرئيس فلاديمير بوتين من الروبل عملة نفطيّة، وهذه كانت بمثابة ضربة مؤلمة للبترودولار. أما الضربة الثانية للبترودولار فقد وجّهها الرئيس الصيني شي جين بينغ، أثناء زيارته الأخيرة إلى الرياض عندما طلب من دول مجلس التعاون الخليجي (السعوديّة، الإمارات، قطر، الكويت، عُمان والبحرين) بأن تقبل البترويوان ثمنًا لصادراتها من النفط والغاز إلى الصين؛ خطوة كانت متوقعة من رئيس الصين لأن بلاده تُشكّل أكبر سوق لصادرات النفط والغاز من دول مجلس التعاون الخليجي.

وتدرس السعودية ودولة الإمارات الآن بجدّية قبول البترويوان ومن المُحتمل أن يُقرّرا قبوله قريبًا، ثمنًا لصادراتهما من النفط، وهذه الخطوة ـ مع إحتمال إنضمام باقي دول مجلس التعاون الخليجي إليها ـ ستؤدي إلى خفض حصة البترودولار في تجارة النفط في العالم بنسبة 21%، واذا ما أضفنا صادرات 8 مليون برميل يوميًا من النفط الروسي بالروبل وواردات الصين البالغة 12 مليون برميل يوميًا بالبترويوان، فستنخفض حصّة البترودولار بمقدار 60%. هذا سيؤدّي إلى خسران البترودولار تدريجيًا سيطرته على تجارة النفط في العالم ويؤدّي إلى خسارة الدولار الأميركي ما يقرب من ربع أو ثلث قيمته مقابل العملات الرئيسيّة في العالم إضافةً إلى أنّه سيُقوّض النظام المالي والاقتصادي الأميركي.

مع ازدياد حدّة أزمة الطاقة في الاتحاد الأوروبي سترتفع أصوات تطالب بوقف إمدادات الأعتدة العسكريّة إلى أوكرانيا وإلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا مُقابل الحصول على إمدادات رخيصة الثمن وكافية من الغاز والنفط الروسيّين

ماذا عن العام 2023؟

من المتوقع أن تزداد أزمة الطاقة العالميّة حدّةً خلال العام 2023 وأن تصبح أزمة مستدامة مع استمرار ارتفاع أسعار إمدادات الطاقة من نفط وغاز وفحم وكهرباء.

ومن المُرجّح أن يرتفع سعر خام برنت 100 دولار للبرميل الواحد في الربع الأوّل من 2023 وربّما يصل إلى 110 – 115 دولارًا؛ وسيرافق ذلك ارتفاعات موازية في أسعار الغاز والغاز السائل (LNG) والفحم والكهرباء.

أما سقف السِّعر المفروض الآن على صادرات النفط الروسي إلى أوروبا فسيفشل فشلًا ذريعًا وينتهي في سلّة المهملات.

ومع ازدياد حدّة أزمة الطاقة في الاتحاد الأوروبي سترتفع أصوات تطالب بوقف إمدادات الأعتدة العسكريّة إلى أوكرانيا وإلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا مُقابل الحصول على إمدادات رخيصة الثمن وكافية من الغاز والنفط الروسيّين.

في الخلاصة، سيكون العام 2023 عام إحتدام الصراع الطاقوي في العالم، على وقع الحرب الروسية ـ الأوكرانية المفتوحة على إحتمالات شتى، من دون إهمال ما يجري في جنوب شرق آسيا وإحتمالات تدحرج أزمة العلاقات الأميركية ـ الصينية.. وهذا الأمر ستكون له أيضاً تداعياته الطاقوية.

Print Friendly, PDF & Email
ممدوح سلامة

أستاذ مادة إقتصاد الطاقة في إحدى جامعات لندن؛ خبير عالمي في شؤون النفط والطاقة

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  قانون الأقوى يحكم التنافس الخليجي ـ الخليجي!