لبنان: “التدقيق الجنائي” إلى رئاسة الحكومة.. ماذا بعد؟

للبنان تاريخ صاخب مع "شركات التدقيق"، بدليل أنّ كلاً من "Ernest &Young" و"Deloitte" احتكرتا السوق على مدى 25 عاماً. هيمنتا على التدقيق المالي للنظام المصرفي اللبناني. مرّرتا كلّ ما يتناسب والـ"سيستام" ومصالحه. صادقتا على سياسات حاكميّة مصرف لبنان المركزي. راعتا استنسابيّة المصارف. والأهم، أنهما شاركتا في طمس حقائق الوضع المالي والنقدي في لبنان.

على ذكر “Ernest &Young” و”Deloitte”: الأولى كانت متورّطة في عملية احتيال خلال الأزمة المالية عام 2008. أما الثانية، فتنتهك المعايير المحاسبية الدولية، وفقاً لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. وهي أيضاً واجهت دعوى قضائية لدورها في انهيار “البنك اللبناني الكندي”. فالشركة “العالمية” هذه كانت المسؤولة عن التدقيق في حسابات المصرف وفي أرقام ميزانياته. ما يعني أنّ “Deloitte” عرّضت المساهمين والمودعين للمخاطر. بالإضافة إلى كلّ ذلك، “Ernest &Young” و”Deloitte” معاً قيد تحقيقات في المملكة المتحدة بشأن تدقيقات محاسبية مشكوك بشفافيتها.

كان من الضروري الانطلاق من واقع علاقة لبنان بشركات التدقيق العالميّة للغوص في العقد الموقّع مع شركة “Alvarez &Marsal” فأداء كهذا من قبل شركات كهذه، ولو كانت عالميّة، يصب في خانة التأزيم لا الحلول!

المهمّ، في أيلول/سبتمبر 2020 وُقّع العقد بين وزارة المال وشركة “ألفاريز آند مارسال” في مرحلة أولى، وفي أيلول/ سبتمبر 2021 في مرحلة ثانية.

التزمت الشركة تقديم تقرير مبدئي عن نتائج التدقيق الجنائي لأنشطة وحسابات مصرف لبنان مقابل مليونَي دولار أميركي. بالتوازي تمّ توقيع عقدين للتدقيق المحاسبي مع كلّ من “Oliver Wyman” و”KPMG”.

كثيرة هي الشبهات التي تطال عمل “Alvarez & Marsal” على خلفية طمس الأرقام والتلاعب في التقارير النهائية وتهريب داتا سرية. وقد سبق للبنك المركزي القبرصي ان اتهمها بكل هذه الأعمال غير القانونيّة. أضف الى ذلك، فإنّ جوزيف بيراردينو (Joseph Berardino)، أحد المديرين التنفيذيين في “Alvarez & Marsal” هو نفسه الرئيس السابق لشركة “آرثر أندرسون” (Arthur Andersen) التي كانت واحدة من أكبر 5 شركات للخدمات المحاسبية في العالم قبل أن يتهمها القضاء الأميركي بالاحتيال وعرقلة العدالة.

مرجعية وزير المال السياسية، أي رئاسة المجلس النيابي، قرّرت الدخول على خط “التقرير الجنائي” عبر مطالبة وزير المال بتسليم التقرير إلى رئاسة الحكومة وتحرير نفسه منه شخصياً

بالرغم من كلّ ذلك، وقع الاختيار على “ألفاريز آند مارسال”. وبحسب العقد، فإنّ الأتعاب المحدّدة بمليونين و100 ألف دولار تغطّي “إعداد التقرير الجنائي المبدئي” بفترة 10 أسابيع. مرت أسابيع عشرة أولى، تلتها أسابيع عشرة ثانية، ثمّ ثالثة، ورابعة فخامسة، وليس المقصود من هذه الإشارة تحميل الشركة وحدها مسؤولية التأخير، إذ أن اللبنانيين يتذكرون كيف حجب مصرف لبنان معظم الداتا وكيف تدخلت الحكومة اللبنانية لأجل توفير ما تحتاجه الشركة من معطيات ومعلومات ولو أنها لم تتوفر كاملة.. إلى أن سلّمت “ألفاريز آند مارسال” مؤخراً تقريرها “المبدئي” وفقاً للعقد إلى وزارة المال. أما الوزارة، فترفض نشر التقرير أو تسليمه أو إيضاح أية معلومات متعلّقة به متحجّجة بأنه تقرير جنائي “مبدئي” غير نهائي، كذلك تتكتّم عن البوح بمراحل تنفيذ العقد، بالرغم من المطالبات المتكررة والمرتكزة إلى قانون الحق في الوصول إلى المعلومات.

عليه، كان اللجوء إلى قضاء العجلة الإداري، حيث ألزم القاضي كارل عيراني في 17 تموز/يوليو 2023 المستدعى ضدّها، أي وزارة المالية، “تسليم الجهة المستدعية المعلومات المتوافرة لديها، وأي مستند مفيد يتعلّق بالواقع الراهن بالنسبة إلى مراحل تنفيذ عقد التدقيق الجنائي، وذلك بصورة فورية ومن دون إبطاء”.

وكانت وزارة المال، المستدعى ضدّها، قد برّرت في لائحتها الجوابية أنّ نشر العقد مع “ألفاريز آند مارسال” من شأنه أن يمسّ بالأمن القومي المالي للبلاد، واستندت إلى المادة 5 من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات لتبرير حظر النشر أو التسليم.

في حين أنّ المادة 5 من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات تنصّ على الآتي: “امتناع الإدارة عن الإفصاح عن المعلومات المطلوبة إذا تناولت المواضيع التالية: أسرار الدفاع الوطني والأمن القومي والأمن العام..”، بالإضافة إلى “وقائع التحقيقات قبل تلاوتها في جلسة علنية، والمحاكمات السرية، والمحاكمات التي تتعلّق بالأحداث وبالأحوال الشخصية. أما مضمون الملفات والدعاوى والمراجعات القضائية، فلا تكون متاحة للاطلاع عليها إلا وفق قوانين أصول المحاكمات المتبعة..”.

وخلص القاضي عيراني في قراره إلى أن “المستدعى ضدّها، الدولة اللبنانية، أضافت على المادة الخامسة مفهوماً جديداً وعبارة جديدة هي “الأمن القومي المالي” لم يذكرها القانون، وبالتالي فإنّ عدم إعطاء المعلومات المتعلّقة بالمراحل التي وصل إليها التحقيق الجنائي والنتائج التي توصّل إليها، من شأنه أن يُعرّض “الأمن القومي المالي للخطر”، لما يمثّله هذا التدقيق من أهمية لجميع اللبنانيين في ظل الوضع الاقتصادي والأزمة المالية التي أصابت البلاد برمّتها وأدّت إلى الانهيار المالي. خصوصاً وأنه من واجب الدولة اللبنانية أصلاً، ومن تلقاء نفسها إعلام المواطنين عن المراحل التي وصل إليها تقرير التدقيق الجنائي خصوصاً بعد انتهاء كل المهل الملحوظة بالعقد، أو أقلّه إعلامهم بالعوائق التي تحول دون إنجازه، وهذا حقّ لهم خصوصاً وأنه من المفترض أن يؤدّي هذا التدقيق إلى كشف الأسباب الواقعية والقانونية والمستترة التي أدت إلى الانهيار المالي للاقتصاد اللبناني”.

إقرأ على موقع 180  مجلس صيانة الدستور أم صيانة السلطة؟ (1)

لكنّ الأهم من القرار هو مرحلة تنفيذه. في هذا السياق، يكون لقاضي العجلة في “شورى الدولة” صلاحيّة التغريم. والغرامة، بحسب ما أشارت مصادر قضائية قد تلامس قيمة العقد، ويمكن أن تكون من أموال وزير المال الخاصة، خصوصاً إذا استمر متمسكاً بقرار رفض تسليم التقرير. كذلك يمكن لديوان المحاسبة في مرحلة لاحقة تغريم وزير المال من ماله الخاص أيضاً، إذا تبيّن أنه ساهم بهدر مال عامّ، وتستّر على عدم قيام “ألفاريز آند مارسال” بدورها، فهل يفضي ذلك كله إلى نشر التقرير؟

وفق المتوافر من معلومات فإن مرجعية وزير المال السياسية، أي رئاسة المجلس النيابي، قرّرت الدخول على خط “التقرير” عبر مطالبة وزير المال بتسليم التقرير إلى رئاسة الحكومة وتحرير نفسه منه شخصياً، وكان اللافت للإنتباه أن وزير المال يوسف خليل حاول بتبريرات عديدة ألا يُخرج التقرير من أدراج مكتبه بعد أن وضع حاكم مصرف لبنان ملاحظاته عليه، إلا أن الضغط السياسي “القريب” و”البعيد” جعله يطلب موعداً من رئيس الحكومة في الأسبوع المقبل من أجل تسليم التقرير و”التحرر” منه نهائياً.

وإذا كان رئيس الحكومة قد حاول النأي بالحكومة عن التقرير، إلا أنه سيجد أن لا مفر من تلقف كرة النار، فهل يُبادر هو أم رئاسة المجلس إلى تسريب أبرز ما نص عليه التقرير إلى مؤسسات إعلامية محلية أو أجنبية؟

لا بد من إنتظار ما ستحمله الأيام المقبلة من تطورات، من دون تكبير حجر “التقرير” نفسه، فما يتضمنه “يدين بالدرجة الأولى حاكم مصرف لبنان، لكنه لا يدين أياً من المراجع السياسية وليست هذه وظيفته، لكن أهمية التقرير أنه يفتح أبواباً للمساءلة والمحاسبة إذا قررت السلطة السياسية أو القضائية البناء على التدقيق الجنائي، وهذا التوغل في المحاسبة، يُمكن أن يفتح الباب أمام دخول من يريد المحاسبة، محلياً أو دولياً، إلى مغارات علي بابا الكثيرة والمتشعبة بكل ما تحتويه من ارتكابات على مدى ثلاثة عقود من الزمن”، يقول مسؤول حكومي لبناني.

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أميركا وإيران.. تفاوض "على الزناد"!