من أوكرانيا إلى غزة.. حرب واحدة بجبهات متعددة! 

في العام 1967، تمكنت إسرائيل في حرب الخامس من حزيران/يونيو من تغيير الشرق الأوسط في ستة أيام. هل هذه الإمكانية متوافرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال إن الهدف من الحرب التي يخوضها حالياً في غزة هو "تغيير الشرق الأوسط"؟   
من المؤكد أن لحرب 1967 ظروفها وللحرب الحالية ظروفها. تغيير الشرق الأوسط، أو وفق مصطلح للنائب الليكودي داني دانون المقرب من نتنياهو “خلق واقع جديد”، يتطلب تهجير سكان غزة إلى مصر ومن ثم سكان الضفة الغربية إلى الأردن. ومنذ اليوم الأول للحرب، يُكرّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني رفضهما المطلق للتهجير وتصدير أزمة إسرائيل إلى بلد ثالث.
عبّأت إسرائيل 350 ألفاً من جنود الإحتياط ليضافوا إلى 170 ألفاً من الجنود الموجودين في الخدمة الفعلية، وتواصل منذ أكثر من 15 يوماً شن غارات غير مسبوقة على القطاع وألقت من القنابل أكثر مما ألقته في كل حروبها على غزة منذ 2008، بهدف دفع سكانه إلى تهجير قسري في اتجاه الجنوب، في عملية تطهير عرقي تحت أنظار أميركية وغربية باسم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بعد صدمة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ومع ذلك، فإن الاختبار الفعلي لقدرة إسرائيل على تغيير الواقع، هو في ما يمكن أن تحققه في الهجوم البري الذي تعد له، لأن تفوقها الجوي لا يكفي لـ”سحق حماس”، وفق ما يُردّد نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.
هنا تصطدم إسرائيل بمعضلة أساسية، وهي أنه كلما طالت الحرب وكرّت سُبحة ارتكاب المجازر ومفاقمة الوضع الكارثي لسكان غزة، سيدفع ذلك إلى تآكل الدعم الغربي. الرئيس الأميركي جو بايدن على رغم كل التعاطف الذي أبداه مع إسرائيل في زيارته قبل أيام وبإرساله حاملتي طائرات ونشر ألفي جندي في المنطقة وإقامة جسر جوي لنقل السلاح والذخائر، نصح قادة إسرائيل قبل أن يركب الطائرة عائداً إلى بلاده، بعدم ارتكاب “أخطاء” ارتكبتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، في اشارة إلى خوض “حروب لا نهاية لها” في أفغانستان والعراق، انتهت بانسحابٍ مذلٍ من هذين البلدين.
فتح جبهة ثانية في الحرب يُشكل هاجساً في الولايات المتحدة لأن من شأنه تشتيت الإنتباه الإسرائيلي عن “مهمة غزة”. السناتور الجمهوري المتشدد ليندسي غراهام يعمل على مشروع قانون في الكونغرس يُفوّض بايدن توجيه ضربات عسكرية لمنشآت النفط الإيرانية، إذا ما فتح “حزب الله” الجبهة الشمالية على نطاق واسع
يقول بايدن ذلك، من قبيل الحرص على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة أولاً وقبل كل شيء. وهو يدرك تمام الإدراك أن حرباً طويلة في غزة من شأنها أن تضاعف احتمالات اندلاع نزاع إقليمي واسع، ستجد أميركا نفسها في قلبه، وتتورط مجدداً في حرب أخرى “لا نهاية لها”.
والنزاع الإقليمي الأوسع لم يعد مجرد تصور فقط مع الاشتباكات اليومية المتصاعدة على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، ومع تعرض قواعد أميركية في سوريا والعراق لهجمات صاروخية وبالمسيّرات، وكذلك اعتراض صواريخ حوثية انطلقت من اليمن. هذا يؤكد أن المنطقة هي فعلاً عبارة عن “برميل بارود”، قابل للإنفجار الكبير في أي لحظة.
فتح جبهة ثانية في الحرب يُشكل هاجساً في الولايات المتحدة لأن من شأنه تشتيت الإنتباه الإسرائيلي عن “مهمة غزة”. السناتور الجمهوري المتشدد ليندسي غراهام يعمل على مشروع قانون في الكونغرس يُفوّض بايدن توجيه ضربات عسكرية لمنشآت النفط الإيرانية، إذا ما فتح “حزب الله” الجبهة الشمالية على نطاق واسع.
حتى الآن، لا يمكن التيقن بمآلات الغزو البري لقطاع غزة وكم سيطول وكم سيُكلّف من خسائر، مع التساؤل عما إذا كان الجيش الإسرائيلي “يسير نحو الفخ الذي نصبته له حماس”، وفق ما يطرح خبير شؤون الشرق الأوسط في معهد الدراسات الإستراتيجية الدولية حسن الحسن، بينما يسأل المحرر العسكري والأمني في صحيفة “الغارديان” البريطانية دان صباغ: “ماذا لو استنسخت “حماس” في غزة تجربة الخطوط الدفاعية التي أنشأها الجيش الروسي أمام الهجوم الأوكراني المضاد”؟.
هذا وغيره من العوامل، تملي على واشنطن النظر بشمولية أوسع إلى حرب غزة وانعكاساتها ليس على المنطقة فقط وإنما على بقية العالم. ولاحظ المعلق ستيفن إير لانجر في صحيفة “النيوريورك تايمز” الأميركية، أنه بينما حطّت طائرة بايدن في إسرائيل، كانت طائرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحط في بكين، ليضيف أن “الرحلتين المتناقضتين تعكسان كيف أعيدت صياغة المشهد السياسي عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وكيف تغير المشهد السياسي على أوسع نطاق بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس”.
وفي قراءة مشابهة، يُحذّر الكاتب في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية ياروسلاف تروفيموف، من أن الحرب بين إسرائيل و”حماس” “لا تخاطر فقط باشتعال إقليمي. إنها تؤثر أيضاً على توازن القوى، وترهق المقدرات الأميركية والأوروبية، بينما تُخفّف الضغط عن روسيا وتُوفّر فرصاً جديدة للصين”.
والمحلل الألماني أولريتش سبيك يرى “أن هذا نزاع آخر يتسبب باستقطاب بين الديموقراطيات والمعسكر الاستبدادي الذي يضم روسيا والصين وإيران.. إنها لحظة أخرى من الإيضاح الجيوسياسي، على غرار أوكرانيا، حيث يتعين على الدول أن تحدد مواقفها”.
وفي سياق تحديد المواقف، تعكف روسيا والصين منذ بداية الحرب على التذكير بالأساسيات التي أدت إلى اندلاعها. وبوتين لديه مقاربة متناقضة تماماً مع المقاربة الأميركية، من خلال تأكيده على أن الحل لكل ما يجري يقتضي وقفاً فورياً لإطلاق النار، والذهاب نحو مفاوضات توصل إلى دولة فلسطينة عاصمتها القدس الشرقية. ولا تختلف الرؤية الصينية كثيراً عن تلك الروسية، إذ رأى وزير الخارجية الصيني وانغ يي “أن جوهر القضية هو أن العدالة لم تتحقق للشعب الفلسطيني”.
وبايدن نفسه زاد من تشابك الأزمات الساخنة في العالم عندما طلب من الكونغرس إثر زيارته لتل أبيب، تمويلاً بـ105 مليارات دولار كمساعدات لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان والحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك. وليس بخافٍ أن بايدن الذي ووجه بمعارضة جمهورية قوية لإقرار مساعدة الـ24 مليار دولار لكييف في وقت سابق من الشهر الجاري، ذهب إلى حد إحراج الجمهوريين من خلال ربطه بين مساعدة إسرائيل ومساعدة أوكرانيا. وطلب 61 مليار دولار لكييف و14 مليار دولار لإسرائيل. وسارع السناتور الجمهوري ج. د. فانس المقرب من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى وصف خطوة بايدن بـ”المقززة”.
الاستقطاب العالمي بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة والغرب عموماً من جهة ثانية، هو الذي يُرسي التوازنات الدولية أكثر من أي رغبة لدى هذا الزعيم الإسرائيلي أو ذاك بفرض “سلامه” المعتمد على القوة العارية
وفي معرض تبرير طلبه دمج المساعدتين، أكد بايدن أن الولايات المتحدة “منارة العالم.. لا يُمكنها أن تترك بوتين وحماس ينتصران على محيطهما الديموقرطي”. تبرير لم تستسغه مجلة “ذا هيل” الأميركية، التي دافعت عن الفصل بين أوكرانيا وإسرائيل، على اعتبار أن الأولى “دولة محاطة بجيران أثرياء من دول الإتحاد الأوروبي ويمكن أن يساهموا في تقديم المساعدات لها، بينما إسرائيل لديها جيران أثرياء، لكن لن يساهموا في تمويل حربها ضد حماس”.
كل هذه التعقيدات والظروف المحيطة بالحرب بين إسرائيل و”حماس”، لا تجعل من هدف نتنياهو بتغيير الشرق الأوسط مرة أخرى، أمراً بالسهولة التي يتخيلها البعض أو حتى مسألة قابلة للتحقق. إن الاستقطاب العالمي بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة والغرب عموماً من جهة ثانية، هو الذي يُرسي التوازنات الدولية أكثر من أي رغبة لدى هذا الزعيم الإسرائيلي أو ذاك بفرض “سلامه” المعتمد على القوة العارية.. ومجرداً من أي عدالة.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  فرنسا ممتعضة: في لبنان كثير من الأنانية وقليل من المسؤولية
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الحوار العربي الإيراني.. ضرورة تفرضها وقائع التاريخ والجغرافيا