لحظة غزة المفصلية.. أسئلة فلسطينية وعربية

ثمّ ماذا؟ وكيف ستنتهي هذه الجرائم ضد الإنسانيّة بحقّ الفلسطينيين ليس فقط في غزّة بل أيضاً في الضفّة؟ وكيف سيعاد ترتيب المنطقة بعد هذه الحرب؟

تمّ تدمير نصف مساكن غزّة بشكلٍ ممنهج. وهذه سياسة صهيونيّة معتمَدة ومستمرّة منذ نكبة 1948 كي يغدو بقاء الفلسطينيين على أرضهم مستحيلاً. هذا في حين أنّه لا معنى لهذا التدمير من الناحية العسكريّة، إذ حوّل غزّة إلى نوعٍ من ستالينغراد. الأمر بالتالي هو تحضيرٌ للحلّ الذي يسعى إليه القادة الإسرائيليّون لحربهم الانتقاميّة: تهجير الفلسطينيين إلى بلدان أخرى أو إعادة احتلال القطاع أو ربّما وضعه تحت وصاية دولة خارجيّة يوافق عليها الإسرائيليّون.. وتحويل الفلسطينيين من جديد إلى لاجئين في خيمٍ على أرضهم؟

كانت غزّة تحت الوصاية المصريّة لمدّة عشرين سنة قبل نكسة 1967 واستقبلت كثيراً من اللاجئين الفلسطينيين من أراضي 1948. لقد ارتوَت أرضها بدم الجنود المصريين دفاعاً عنها وعن أرضهم. ثمّ احتلّتها إسرائيل وأنشأت مستوطنات فيها. إلاّ أنّ أوّل انتفاضة (سلميّة) ضد الاحتلال قد انطلقت بالتحديد منها عام 1987 قبل أن تمتدّ للضفة الغربية. وآل الأمر إلى وضع غزّة تحت إدارة منظّمة التحرير بعد اتفاقيات أوسلو سنة 1993، وبحيث تعمل إسرائيل على دعم تنظيم حماس ضدّ السلطة الفلسطينيّة بهدف شرذمة القيادة السياسية للمقاومة. لكنّ انتفاضة ثانية (سلميّةٌ أيضاً) انطلقت مجدّداً سنة 2000، ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها أرييل شارون إلى العمل على انسحابٍ عسكري ولتفكيك المستوطنات الصهيونيّة من غزّة سنة 2005 وفي المقابل إنشاء جدار الفصل العنصري في الضفة والجدار الذي انهار مؤخّراً بين غزّة وفلسطين. ومنذ ذلك الحين، بقيت غزّة سجناً كبيراً مكتظّاً بسكّانه.

أليس زمن نصرة فلسطين هو زمن الموقف الشجاع لمصالحة وطنيّة كبرى في سوريا تُنهي مآسي الحرب الأهليّة؟ دون الحاجة إلى “المجتمع الدولي” الذي اتضح بجلاء رياء قواه الكبرى أو إلى الأمم المتحدة التي بالرغم من مواقفها النبيلة عجزت عن تطبيق قراراتها الخاصّة بفلسطين وبالصراع العربي-الإسرائيلي

ما الذي ستفعله مصر إذا تمّ دفع فلسطينيي غزّة نحو سيناء بالقوّة أو بالتجويع؟ وهل يجب انتظار تلك اللحظة كي تتخذ مصر موقفاً أكثر حزماً؟ وكيف سيُمكن لفلسطينيي الضفة الغربية العيش إلى جانب المستوطنين الإسرائيليين بعد ذلك، ليس فقط من جرّاء الغضب والاحتقان، بل أيضاً لأنّ إسرائيل ستقطع عنهم أحد سبل العيش الأساسيّة، المهينة بحقّهم أصلاً، وهي العمل لصالح الإسرائيليين ولبناء المستعمرات؟

الحلّ الإسرائيلي الثاني ليس أقلّ صعوبةً، والمتمثّل في إعادة الاحتلال أو فرض وصاية دولة ثالثة، حتّى لو بدت الدولة التي سيتمّ اختيارها وصيّةً أكثر قرباً في الظاهر من الفلسطينيين. إذ سيبقى الوضع احتلالاً ووصايةً وفي مقابله ستنشأ في النهاية.. مقاومة.

لقد فجّرت عمليّة “طوفان الأقصى” الاستعصاء الفلسطيني المستمرّ منذ عقود. لقد عادت الولايات المتحدة، ومن ورائها أوروبا، مقابل حشد تحيّزها الكامل لإسرائيل، لتتحدّث اليوم عن حلّ الدولتين. حلٌّ تناسته لعقود، بل عملت على جعله مستحيلاً، عبر اعترافها بضمّ القدس الشرقيّة إلى إسرائيل، وعدم إدانة الاستيطان، وحتّى مقاطعة بضائع المستوطنات غير الشرعيّة اعتبرتها بمثابة جرائم. خطاب حلّ الدولتين لا يُقنِع الكثيرين اليوم، حتّى ضمن شعوب الغرب. لأنّه لو كان حقيقيّاً لرافقته مطالبة بتفكيك مستوطنات الضفّة الغربيّة التي تقضِم يوماً بعد يوم أراضي ما يُمكِن أن يؤسّس لدولةٍ فلسطينيّة. فكيف سيكون للولايات المتحدة وأوروبا أيّة مصداقية لرعاية تفاوضٍ بعد الحرب يأخذ إلى حلّ الدولتين؟ وليس فقط من منظور الشعوب العربيّة بل أيضاً لدى يهود الولايات المتحدة وأوروبا حيث وقف كثيرٌ منهم، وبشجاعة، للقول إنّ ما ترتكبه إسرائيل في غزّة “ليس باسمهم”.

كما أنّ القضيّة أكبر بكثير ممّا يتمّ الحديث عنه أنّ هدف “طوفان الأقصى” كان تعطيل التطبيع بين من بقي من الدول الخليجيّة وإسرائيل. فما الذي سيجنيه الفلسطينيّون إذا ما استمرّ التطبيع بصيغته الحالية غير المعلنة لفترةٍ أطول؟ اللهم إلاّ إذا كانت “صفقة القرن” تتطلّب حقّاً تصفية القضيّة الفلسطينيّة.

المنطقة برمّتها على المحكّ، وخاصةً بلاد الشام والرافدين. هكذا ظهر الوعيد والتهديد بتدمير لبنان وتمّ حشد الأساطيل لذلك إذا ما انخرط حزب الله في الحرب القائمة. إنّ هذا التنظيم السياسي-العسكري يعلم جيّداً أنّه سيكون المستهدَف التالي إذا ما قامت إسرائيل بما تريد القيام به في غزّة.

وتعرّضت سوريا للتهديد صراحةً حيث تمّ قصف مطاراتها المدنيّة مراراً من دون أن يستجلب ذلك أيّ استنكارٍ عربيّ. وهنا يبرز التساؤل في سوريا المقسّمة حول مواقف أطراف هذا التقسيم والمشاعر الشعبيّة السوريّة المنقسِمة أيضاً، برغم تضامن الجميع ظاهريّاً مع الفلسطينيين في غزّة. موقف السلطة السوريّة التي تستمرّ في قصفها للشمال الغربي مع انشغال العالم كلّه بغزّة، وموقف الفصائل التي تتحكّم بالشمال الغربي. ويبقى الموقف الأصعب هو لقوّات سورية الديموقراطية (قسد) المتحالفة مع الولايات المتحدة. السؤال الكبير هنا كيف ستكون مواقف هذه الأطراف الثلاثة إذا ما توسّعت الحرب كي تصبح إقليميّة وتمّ استهداف سوريا اسرائيليّاً بما في ذلك عبر توغّلٍ بريّ؟ أليس زمن نصرة فلسطين هو زمن الموقف الشجاع لمصالحة وطنيّة كبرى في سوريا تُنهي مآسي الحرب الأهليّة؟ دون الحاجة إلى “المجتمع الدولي” الذي اتضح بجلاء رياء قواه الكبرى أو إلى الأمم المتحدة التي بالرغم من مواقفها النبيلة عجزت عن تطبيق قراراتها الخاصّة بفلسطين وبالصراع العربي-الإسرائيلي، كما بسوريا.

إنّ القضية في غزّة وفلسطين والمنطقة أبعد بكثير من الحكم على تنظيمٍ معيّن. إذ ليس للفلسطينيين من خيار سوى المقاومة في ظلّ تمادي الاحتلال واتساع الاضطهاد وفشل كلّ سبل الاحتجاج السلميّ

وماذا عن بقيّة الدول العربيّة؟ أسقف تحرّكها أمام الجرائم الصهيونيّة هو المطالبة بفتح معابر الإغاثة أو التوسّط في ملفّ الأسرى؟ هل ذلك السقف قرارٌ من الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بوقف إطلاق نار؟ أو تصريحات دون أثرٍ فعليٍّ لها حول إدانة الجرائم ورفض تهجير الفلسطينيين من غزّة؟

إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": الحرب بين إسرائيل وحزب الله.. حتمية!

هناك مآخذ كثيرة على تنظيم الإخوان المسلمين وعلى حركة حماس المنبثقة تاريخيّاً عنها. إلاّ أنّ المآخذ على بنيامين نتنياهو والمتطرّفين الصهاينة أكبر بكثير. وتبقى إسرائيل بالنتيجة والتعريف دولة احتلال وتمييزٍ عنصريّ.

واللافت للإنتباه أنّ “الغرب” دعم تنظيمات الإسلام السياسي المقاتلة لضرب المدّ العربي عندما كان فاعلاً وأيضاً لمحاربة الاتحاد السوفياتي. لكنّ تلك التنظيمات ارتدّت ضدّ “الغرب” في أحداث 11 أيلول/سبتمبر ثمّ في العراق وأفغانستان وانتهاءً بـ”داعش”. لكنّ ذلك “الغرب” نفسه قام بدفع الإسلام السياسي من جديد عبر إرسال “متطرّفي” الدنيا إلى سوريا كي يتحوّل نضال أبنائها ضدّ الاستبداد إلى حربٍ طائفيّة مقيتة.

إنّ القضية في غزّة وفلسطين والمنطقة أبعد بكثير من الحكم على تنظيمٍ معيّن. إذ ليس للفلسطينيين من خيار سوى المقاومة في ظلّ تمادي الاحتلال واتساع الاضطهاد وفشل كلّ سبل الاحتجاج السلميّ.

هناك اليوم لحظة مفصليّة في تاريخ الدول والشعوب العربيّة. ذلك بقدر ما يُعلِن نتنياهو أنّها لحظة مفصليّة في تاريخ إسرائيل. وغزّة وصمود أهلها وتضحياتهم هي ما يبقى اليوم من عروبة.. وحتّى من مختلف الوطنيّات المحليّة.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  شال "حورية" على قصيدة محمود درويش الأخيرة!