ولكن؛ خلف المقاربة الموضوعيّة للأحداث التي توضع عادةً ضمن إطار ما يسمّى عربيّاً بـ”هزيمة الـ٦٧” أو “حرب يونيو الـ٦٧” أو “النّكسة” أو ما إلى ذلك: أعتقد أنّنا أمام مُشكلتَين أساسيَّتَين تجعلان القضيّة ترتقي فعلاً إلى عالم ما-فوق-الموضوعيّة.. أي، بالتّحديد وبرأيي، إلى مستوى المُصطَنَع الذّهني والنّفسي، أو مستوى الوسواس الجماعيّ المرضيّ المُبين.
***
أمّا المشكلتان فهما وباختصار:
١/ المبالغة الدّاخليّة المُفرطة، برأيي، في التّشديد على زاوية “الهزيمة”: وكأنّنا ننسى أو نتناسى أنّ الجماهير والنّخب والجيوش والدّول العربيّة كانت عمليّاً تواجه عدوّاً مُحضّراً ومُجهّزاً ومُتأهّباً منذ عشرات السّنين.. عداك عن سانده البريطانيّ والأميركيّ والغربيّ السّابق لشعوبنا ونخبنا ودولنا وجيوشنا في مجالات متعدّدة ومنذ قرون. فكأنّنا في الأعمّ الأغلب نقارب القضيّة: على أنّها هزيمة تلت حرباً بين جانبَين متساويَين أو متوازيَين. وما هذا بالحديث الصّحيح عندي أبداً، ونحن هنا أمام مشكلة كبيرة في ما يخصّ هذه المقاربة.
هل نسينا أنّ الكيان الإسرائيليّ، ومَنْ وراءَه، هما نتاج قرون من التّقدّم الحضاريّ والفكريّ والتّقنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ وما إلى ذلك؟ هل نسينا أنّنا أمام نُخب ودُول هي نتاج الانتفاضة البروتستانتيّة أوّلاً، ثمّ نتاج عصر فلاسفة وعلماء الأنوار واكتشاف ثروات القارّة الأميركيّة العظمى.. وصولاً إلى الثّورة الصّناعيّة الكبرى؟
هل من العقلاني أن نُصوّر ما حصل في بدايات تَشكُّل الكيان الصّهيوني بدعم غربيّ مُبين على أنّه حربٌ بين طرَفَين متساويَين و/أو متوازيَين: (١) حضاريّاً (أقلّه بالمعنيَين السّياسي والاجتماعي المؤسّساتيَّين، ولا أقول بالمعنى الثّقافي لرفضي التّعميم إلى هذا الجانب وهذا حديث آخر)؛ و(٢) علميّاً (بمعنى العلوم الحديثة والتّقدّم العلمي)؛ و(٣) تقنيّاً؛ و(٤) اقتصاديّاً؛ و(٥) عسكرّياً (إلخ..)؟
بالطّبع لا، ولو ذكرنا بعض الدّعم الآني – وغير الجدّي عمليّاً، ولأسباب عديدة – من قبل الاتّحاد السّوفياتي وغيره.. فما حصل برأيي هو غزوٌ استعماريٌّ غير متكافئ الإمكانات ولا الفرص من قبل قوى عُظمى: لشعوبٍ ولدولٍ متخلّفة من زاوية كثير من الجوانب المذكورة أعلاه. “هزيمة الـ٦٧” هي، بمعنى معيّن: نتيجة شبه حتميّة للسّياق الحضاريّ والاقتصاديّ والتّاريخيّ الذي سبقها منذ أوائل القرن السّادس عشر الميلادي تقريباً. “هزيمة الـ٦٧”، بمعنى معيّن: ليست بهزيمة حقيقيّة ولا واقعيّة.. ولا هي بالمفاجِئة أبداً إذا ما أخذنا بالسّياقات المذكورة. فهل من مُتَنبّه؟
لذلك، من غير الصّائب برأيي أن نُجبر أنفسنا على المبالغة في الشّعور – والتّفكير – بـ”الهزيمة”. من الخطأ أن نستمرّ في هذا الاتّجاه السّيكولوجيّ الجماعيّ المدمّر. وبالمناسبة، هنالك نُخبٌ يساريّةٌ وقوميّةٌ عربيّةٌ كاملةٌ: لا زالت – عمليّاً – أسيرة هذا النّوع من التّصوّر غير الواقعيّ لـ”الهزيمة”، وعليها أن تخرج فوراً من هذا الوهم برأيي.
هو وهمٌ مرضيٌّ “داخليٌّ” بالتّأكيد، تُسأل عنه نُخبنا اليساريّة والقوميّة تحديداً.. وتُنتقد فِيه، وتُراجَع في المبالغة المُفرطة حولَه.. ولكنّه أيضاً وليدُ عملٍ استخباراتيّ وإعلاميّ وأكاديميّ خبيث، لا زال مستمرّاً إلى يومنا هذا، وتتشارك في توليده الجهات “السّاداتيّة” داخليّاً (على اختلافها واختلاف مقاصدها ودولها العربيّة وأحزابها وقواها) والاستعماريّة-الصّهيونيّة خارجيّاً (عن قصد أو عن غير قصد، في ما يخصّ التّشارك بين الجانبَين طبعاً).
يهمّ أجهزة المخابرات التّابعة للدّول الاستعماريّة وللكيان الصّهيونيّ، بالإضافة إلى أجهزة صنع القرار الجيوسياسيّ التّابعة لهذه الدّول ولهذا الكيان، أن تتمّ تغذية هذا المفهوم وهذه الأسطورة. هناك بالتّأكيد من صرف ويصرف المال والمجهود ومختلف الإمكانات في سبيل تكريس هذه الظّاهرة-الأسطورة، ليلَ نهار، بين الشّعوب والنّخب العربيّة
٢/ تشديد بعض الجهات العربيّة والخارجيّة على مفهوم “الهزيمة” وتغذية الشّعور العام به (خصوصاً في ما يعني “حرب يونيو” المذكورة): هناك بالطّبع مرضنا النّفسي الدّاخلي إن صحّ التّعبير، وهناك أيضاً من يريد إبقاءَه وتغذيتَه.
أ/ داخليّاً: لدينا ما يُمكن تسميته بالتّيّارات السّاداتيّة (والسّاداتيّة الجديدة) على اختلافها، من أهل كامب دايفيد وما بعده، ومن أهل نظريّة السّلام في الظّروف الحاليّة، ومن أهل الخنوع وأهل التّطبيع وما إلى ذلك. عن سوء نيّة أو ربّما عن حسن نيّة عند البعض: يهمّ هؤلاء أن يتغذّى مفهوم الهزيمة وأن يتضخّم الشّعور به، ولغايات متعدّدة توصل إلى النّتيجة المفاهيميّة والعمليّة ذاتها.
تابعْ خطابَهم وإعلامَهم:
- نحن هُزمنا مرّات عديدة، فكيف سنقاتل بعدُ هذا الكيان وحلفاءَه الأشدّاء على المقاومين والممانعين؟
- ألمْ ترَوا أنّ أميركا وراء هذا الكيان؟ ألم تعلَموا كم هي قويّة أميركا؟
- من يستطيع أن يهزم “إسرائيل”، وجيشُها هو “الجيشُ الذي لا يُقهر”؟
- ألا يجدر بنا أن نقبل بما يُمليه “المجتمع الدّولي”؟ (إلخ.)
وضمن خطاب هؤلاء طبعاً التّصويب على التّجربة العربيّة “الرّمز”: أي تجربة الرّئيس المصري والزعيم العربي الرّاحل، جمال عبد النّاصر.
- ألم تَرَوا كيف هُزمَ عبد النّاصر.. في الـ٦٧؟
- كم كانت فاشلةً تجربةُ عبد النّاصر!
- أين أوصل ناصرْ والنّاصريّون.. العربَ والعالمَ العربيّ؟
- تعالوا نُسالم ونهادن حتّى لا يتعمّق فشلنا النّاصري!
- ماذا فعلتَ بنا يا عبد النّاصر؟ (إلخ.).
ومن البيّن أنّ الخطابَ هذا قد استُخدِم واستُهلك في العمق في ما يخصّ النّخب والجماهير المصريّة بالذّات: كلمة السّرّ هي أن نُشوّه تجربة “عبد النّاصر” وأن نجمّل تجربة.. “أنور السّادات”! وكأنّ الرئيس النّاصرْ مسؤولٌ عن خمسة (إلى عشرة) قرون من التّخلّف العربيّ والإسلاميّ! وكأنّ تجربة النّاصرِ جمالْ تُختصَر بهذه الحادثة (برغم أهمّيّتها الموضوعيّة كما رأينا): حادثة تآمر الاستعمار الغربيّ مع بعض الأنظمة العربيّة والكيان الإسرائيليّ.. ضدّ جمال عبد النّاصر وتجربة جمال عبد النّاصر!
كأنّ عبد النّاصر مسؤولٌ عن كلّ مصائبنا منذ دخول المغول إلى بغداد، أو ربّما منذ سقوط القدس بيد الفرَنجة والعياذ بالله من الأمرَين وثالثهما كارثة احتلال فلسطين من قبل هذا الكِيان.
الشّيفرة الحرَكيّة والأمنيّة لهؤلاء السّاداتيّين والنّيو-ساداتيّين في مختلف الأقطار العربيّة هي نفسها: “ناصر هو المُشكلة.. كامب دايفيد والرئيس المؤمن أنور السّادات هما الحلّ”. ويكفي أن تُراقب السّياسة الدّاخليّة في كلّ قُطرٍ عربيّ تقريباً: أمّا أهل النّاصر فهم أهل النّاصر (بمختلف التّسميات)، وأمّا أهل السّادات فهم أهل السّادات (أيضاً وإن اختلفَت التّسميات ودرجات الاعتدال أو التّطرّف).
طبعاً، بعد الصّعود اللّاحق للمقاومات الوطنيّة والإسلاميّة، بالأخصّ منذ السّبعينيّات والثمانينيّات من القرن المنصرم: أُضيفَ إلى التّصويب على النّاصرِ جمالْ.. تصويبٌ على حركات وتيّارات المقاومة والتّحرّر الوطني جميعها، ولا داعيَ للغوص في تفصيل هذا الجانب الذي نضعه ضمن السّياق السّاداتي والنّيو-ساداتي نفسه بطبيعة الحال.
غير أنّ الدّفع والتّشديد والمبالغة في اتّجاه تكريس مفهوم-أسطورة “هزيمة الـ٦٧”.. لا يقتصر على أهل الدّاخل، بل يتعدّاه بالطّبع إلى أهل الخارج.
ب/ فخارجيّاً: يهمّ أجهزة المخابرات التّابعة للدّول الاستعماريّة وللكيان الصّهيونيّ، بالإضافة إلى أجهزة صنع القرار الجيوسياسيّ التّابعة لهذه الدّول ولهذا الكيان، أن تتمّ تغذية هذا المفهوم وهذه الأسطورة. هناك بالتّأكيد من صرف ويصرف المال والمجهود ومختلف الإمكانات (بالتّعاون المقصود أو غير المقصود مع التّيّارات السّاداتيّة المذكورة آنفاً، وللأسف) في سبيل تكريس هذه الظّاهرة-الأسطورة، ليلَ نهار، بين الشّعوب والنّخب العربيّة.
هُزم العربُ في الـ٦٧ وغيرها، وهم من بعدِ غَلَبِهم لا يَغلِبون! الاحتلالُ هو أمرٌ واقع. سقط المشروع القوميّ العربيّ ولن يعود. ذهب “النّاصر” بغير رجعة. الجيوش العربيّة لا يُمكنها أن تُغيّر الواقع. عليكم عمليّاً: أن تستسلموا جميعاً أيّها العرب المهزومون والمنهزمون.. وأن تقبلوا بشروط “إسرائيل” وحلفائها على اختلاف هذه الشّروط وطرق تطبيقها (وتطبيعها).
حسب هذه الرّسالة-الخطاب العَلَنيّة والضّمنيّة: فقد هُزم العرب، وهُزم المشروع القوميّ العربيّ، وهُزمت مُختلف مشاريع التّحرّر الوطنيّ في هذه المنطقة.. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم!
***
خُلاصة القول والمقال هي بلا شكّ: أنّنا أمام حجاب مفاهيميّ-فكريّ، وضعناه أو تمّ وضعه بيننا وبين تحرّرنا كشعوب وكدول عربيّة، وتخلُّصِنا من مشكلة الاحتلال الاسرائيلي. وأعتقد أنّ علينا أن نتنبّه جيّداً إلى أهميّة تدمير هذا الحجاب المفاهيميّ والفكريّ الباطنيّ.. كما يدمّرُ الصّاروخُ الباليستيُّ – بأمر الله وحده – كلّ حجابٍ عسكريٍّ ظاهريٍّ مُبين.
تحتَ أصداء المعارك العسكريّة في غزّة وجنوب لبنان واليمن وكلّ الجبهات: لا بدّ أيضاً من أن نُعدّ للمعركة الفكريّة هذه ما استطعنا من قوّة فكريّة، ومن رباط الخيلِ الثّقافيّ والإعلاميّ، ومن الأصوات والأقلام.. لنُرهب بها جميعاً عدوّنا وعدوّ الإنسانيّة. ولا بدّ من أن نعيَ بأنّنا، حسب السّياق الحضاريّ والتّاريخيّ العام، ما زلنا في وسط الحرب.. ومن يدّعي أنّنا قد خسرنا الحرب منذ زمن: فهو إمّا مُضلَّل مسكين، أو متآمرٌ، أو عدوٌّ مُبين.
الشّعوبُ التي تُقرّر أن تتحرّر: عليها أن تَصبر وتُصابِر وتُرابِط وتُناضل وتُكافح وتُجاهد.. وهل يُغيّر هذا الوجودُ ما بشعبٍ إذا لم يغيّرْ هذا الشّعبُ ما بنفسه؟ لا يمكنُ لشعبٍ يبغي التّحرّرَ أن يخاف تكاثرَ الرّصاص العسكريّ والفكريّ عليه، ولا أن يهِنَ وسط الحَرْبَين العسكريّة والفكريّة.. على حدّ قول وإنشاد هذه الأغنية الثّوريّة القديمة:
إذاْ ماْ رصاصُ الأعاديْ انهمَرْ
عليَّ، غزيراً كوبْلِ المَطَرْ
ولوْ بالتُّرابِ جبينيْ انعفَرْ
فجسميْ سيبقىْ هناْ: مشعلاْ
ودمّي بجيشِ الإباْ هاتفٌ:
تقدّمْ، إلى الحربِ، مُستبسلاْ!
(من نشيد: سلاحي لدحر العدا هلّلا)