“شعورٌ ممزوجٌ بالمرارة والخيبة لما آلت اليه الأمور في غزة أولاً وفي لبنان ثانياً يرافقه قلق شديد لتداعيات الأحداث المتسارعة وخطورة اتساعها إقليمياً”، هذا مختصر حال المعنيين من سياسيين وديبلوماسيين فرنسيين يُجمِعون على وصف الوضع الحالي في لبنان والمنطقة بـ”المأساوي” و”الكارثي”.
وفي مراجعة سريعة للتطورات التي استجدت على مدار العام المنصرم منذ أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعتبر هذه المراجع الفرنسية أنّ الصراع “بات خارجاً عن السيطرة ومرشحٌ للتدهور حيث أصبح كل فريق أسير مشاعره وأهوائه وبات المنطق الإيديولوجي المتشدد يتقدم على حساب العقل والإتزان، وبات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتصرف وكأنّ لا حسيب ولا رقيب على تصرفاته، لا بل إنّ خطواته الحربية في لبنان ضد حزب الله عزّزت وضعه السياسي والشعبي الداخلي وكأنّ المطلوب منه الضرب أقوى والذهاب أبعد”.
لا تحرك غربياً موحداً
تعترف هذه المراجع الفرنسية المتابعة أنّ المساعي الديبلوماسية الغربية قابلها عجز وسلسلة اخفاقات، وتعزو فشل فرنسا ومعها أوروبا ودول الغرب عموماً إلى أسباب عدة أبرزها أنّ التواصل والتشاور كان قائماً بين باريس من جهة وبقية العواصم الأوروبية والغربية وفي مقدمها واشنطن من جهة ثانية، إلا أنّ التنسيق والتعاون بين الدول الغربية لم يَرْقَ إلى حد إطلاق تحرك موحد فاعل وضاغط. على العكس من ذلك، تحركت العواصم الغربية المعنية بشكل أحادي وذهبت كل عاصمة، ولا سيما باريس ولندن وواشنطن بأوراق وأفكار وخطط خاصة وعبر عدة موفدين (آموس هوكشتاين، جان ايف لودريان، وزراء الخارجية المتعاقبين…)، أي لا وفد موحداً ولا طرح موحداً. إضافة إلى غياب وسائل الضغط والتهديد الجدية كرفع وإشهار سلاح العقوبات بوجه المعرقلين. كان المطلوب، حسب هذه المراجع، قيام تحرك ثلاثي فرنسي – أميركي – بريطاني (نظراً لحضور بريطانيا التاريخي في هذه المنطقة) يحظى بدعم أوروبي وغطاء عربي، على أن يكون مصحوباً بخارطة طريق واضحة وخصوصاً مقروناً بكلمة حازمة “وإلا..”، أي التلويح بتدابير وإجراءات عملية ورادعة.
مؤتمر “دعم شعب لبنان وسيادته”
يقول دبلوماسي عربي مخضرم خدم بشكل استثنائي على فترتين متباعدتين في باريس: “لا أفهم بعض المواقف اللبنانية حيال فرنسا والتي تعتبرها إما غائبة أو مُقصرة أو غير قادرة على مساعدة لبنان، بينما لمست خلال خدمتي الطويلة في باريس أنّ فرنسا هي البلد الوحيد الذي لا يترك مناسبة إلا ويُظهر تعاطفاً مع لبنان ويبدي كل التضامن معه؛ في وقت يسود الصمت حيال أزمات أخرى مثل أزمة السودان وغيرها”.
تحركُ فرنسا حيال لبنان، حسب هذه المراجع، نابعٌ ليس فقط من تاريخ علاقات الصداقة القديمة والتقليدية المميزة بل أيضاً من مصالحها الحيوية المتعددة من تأمين حماية رعاياها الذين يتعدى عدد أفرادهم العشرين ألفاً؛ صيانة قواتها المشاركة في إطار “اليونيفيل” في جنوب لبنان؛ خطر تحول الوضع في لبنان إلى “وضع مشابه لما هو الحال عليه في سوريا من عدم استقرار وتفلّت وفوضى وبؤرة صالحة لانتشار الإرهاب ونقطة انطلاق للهجرة غير الشرعية في اتجاه دول أوروبا”؛ من هنا الحرص على عدم توسع النزاع إلى حرب إقليمية خوفاً من تداعياتها على أسعار الغاز والنفط والتهديد الإرهابي ومسألة الهجرة.
صحيحٌ أنّه لم يُكتب النجاح لمحاولات الرئيس ايمانويل ماكرون الهادفة إلى إخراج لبنان من أزماته المتلاحقة، بدءاً من تفجير مرفأ بيروت مروراً بالأزمة المالية والنقدية وعملية الإصلاحات والفراغ الرئاسي وصولاً إلى الخلاف الحدودي اللبناني – الإسرائيلي المرافق لمشكلة تنفيذ مندرجات القرار الدولي 1701، الا أنّه يُسجل للرئيس الفرنسي، حسب هذه المراجع، ابقاء الاهتمام حاضراً بالموضوع اللبناني وتفعيل التواصل إقليمياً (لا سيما مع السعودية) ودولياً (مع الولايات المتحدة) بهدف التعاون والتنسيق للتوصل إلى مخارج مشتركة توقف الانحدار والتدهور وتفتح آفاقاً للحلول المتعددة. وتصب المبادرة الأخيرة التي أطلقها ماكرون في خانة الدعوة الفرنسية إلى عقد مؤتمر دولي في باريس في 24 تشرين الأول/أكتوبر الحالي سيكون مخصصاً من أجل “دعم شعب لبنان وسيادته”. فماذا عن هذه المبادرة الرئاسية الفرنسية وماذا سيتضمن مؤتمر باريس؟
أولاً؛ شق انساني اغاثي من خلال تعبئة المجتمع الدولي بغية الاستجابة لاحتياجات الاغاثة الطارئة للشعب اللبناني في ظل تفاقم أزمة النازحين الاجتماعية والحياتية.
ثانياً؛ شق أمني عسكري لدرس سبل دعم المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية (وخصوصاً الجيش اللبناني) الضامنة للاستقرار الداخلي وتجهيزها عدداً وعدة من أجل تمكينها من تنفيذ مهماتها في بسط سلطة الدولة وضمان أمن الحدود. وأشارت معلومات إلى مشاورات ستتم بين وزراء دفاع الدول الأعضاء في مجموعة الدول السبع، على أن تسبق مؤتمر باريس بهدف تنسيق المواقف والاتفاق على خطة مشتركة لتأمين المساعدات إلى الجيش اللبناني.
ثالثاً؛ شق سياسي داخلي مؤسساتي لبناني عبر تشجيع القيادات اللبنانية وحثها على تحمل مسؤولياتها لوضع لبنان على المسار الصحيح من خلال ملء الفراغ الرئاسي وصيانة وحدة البلد وعودة عجلة انتظام عمل المؤسسات الدستورية إلى شكلها الطبيعي مع حكومة جديدة تشرف على إطلاق ورشة الإصلاحات المطلوبة.
رابعاً؛ شق ديبلوماسي خارجي من خلال التوصل إلى صيغة لوقف اطلاق النار تتضمن آلية محددة لتنفيذ مندرجات القرار 1701 “بشكل كامل وكلّي” عبر تمكين الجيش اللبناني من الانتشار”بشكل سريع ومكثف” حتى الحدود الجنوبية. ومن شأن هذا الاتفاق “تعزيز الاستقرار المستدام على جانبي الحدود وتأمين عودة النازحين إلى قراهم ومدنهم”.
لكن هناك تساؤلات ترافق هذه الدعوة الرئاسية الفرنسية وتُشكك مسبقاً في نتائجها يمكن إدراجها على الشكل الآتي:
أولها، توقيت انعقاد مؤتمر باريس. فحتى الآن لا اتفاق على وقف اطلاق النار، بل على العكس، ثمة تخوفات جدية من استمرار العمليات العسكرية وتصاعد وتيرة المواجهة الحربية.
ثانيها، ينعقد المؤتمر قبل أقل من أسبوعين على موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وانتظار جميع الفرقاء نتائجها لكي يبنى على الشيء مقتضاه.
ثالثها، غياب دولتين معنيتين وفاعلتين عن المشاركة في المؤتمر، وهما إيران وإسرائيل، نظراً إلى أنّ الدعوة لم تُوجه لهما للحضور. كما أنّ مشاركة الآخرين ستكون على مستوى وزراء الخارجية ولم يعرف بعد من هي الجهات التي ستتجاوب مع هذه الدعوة. مع الإشارة إلى أنّ روسيا أيضاً لم تشملها الدعوة للمشاركة.
رابعها، في ظل المعطيات الحالية قد تبقى المقررات السياسية بمثابة اعلان نوايا وتمنيات بعيدة عن الترجمة العملية، كما أنّ الالتزامات المالية قد تكون محدودة ومقتصرة على الجانب الاغاثي الإنساني في انتظار بلورة التسوية والاتفاق على آلية تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة ومعرفة دور الجيش اللبناني المستقبلي وبالتالي تحديد نوعية وحجم المساعدات لتلبية حاجاته ومتطلبات مهماته.
تباعد فرنسي – إسرائيلي
على صعيد آخر، لوحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع نبرة التخاطب بين كبار المسؤولين الفرنسيين والإسرائيليين وتدرج الخطوات في التعامل السياسي والدبلوماسي؛ من التنديد الفرنسي بـ”الاستفزاز” الصادر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بعد تهديده بتحويل لبنان إلى “غزة ثانية”، إلى تحذير نتنياهو من جرّ لبنان إلى حال الفوضى وصولاً إلى استدعاء السفير الإسرائيلي في باريس والإعراب له عن تنديد الحكومة الفرنسية واحتجاجها الشديد على الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة على القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل) واعتبارها “تعديا خطيراً وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي”. تبعت ذلك الدعوة إلى عدم تزويد إسرائيل بأسلحة هجومية جديدة في وقت لا تتجاوب حكومتها مع الدعوات المتكررة إلى وقف اطلاق النار والتعامل الجدي مع مقترحات الحلول الديبلوماسية لتسوية الأوضاع والحؤول دون تدهورها واتساع رقعة المواجهة وأخطارها.
وبالرغم من انتقاد إسرائيل لهذه الدعوة الفرنسية وتهجّم نتنياهو على ماكرون، معتبراً هذا الموقف “خطأ وعاراً”، جدّد الرئيس الفرنسي مطالبته بوقف تصدير الأسلحة المستخدمة في غزة ولبنان واعتبار هذه الخطوة “الرافعة الوحيدة لانهاء النزاعات”. لكن مواقف فرنسا المتقدمة، التي تحظى بدعم ايطاليا واسبانيا، لا تلاقيها المانيا شريكتها في الإتحاد الأوروبي والتي تتفرد بدعمها المطلق لإسرائيل. أما لجهة العلاقات مع إيران، لا تخفي الأوساط استمرار التواصل معها (علاقة تنقصها الشفافية وفيها الكثير من التقية) كما أنّ الاتصال لم ينقطع مع “الجناح السياسي في حزب الله”.
الانتظار الصعب قد يطول
كيف تنظر هذه المراجع إلى مستقبل الوضع لبنانياً واقليمياً؟
لا تخفي الأوساط المتابعة قلقها الشديد لمسار الأمور خصوصاً على الصعيد الأمني والميداني العسكري في الفترة القريبة المقبلة. وهي ترى أنّ شهراً طويلاً بالغ الصعوبة والخطورة “ينتظر لبنان والمنطقة مع ارتفاع حدة الصراع وقد نشهد أوضاعاً متفلتة وخارجة عن القواعد والضوابط، والسبب الرئيسي غياب القوة الأساسية التي لديها القدرة والوسائل لضبط الأمور، وهي الولايات المتحدة المنهمكة بانتخاباتها الرئاسية”، لا بل إنّ بعض هذه الأوساط تذهب أبعد من ذلك وتتوقع أنّ يمتد هذا الغياب إلى شهرين، أي إلى ما بعد تسلّم الرئيس الجديد أو الرئيسة الجديدة المهام في البيت الأبيض، أي في الشهر الأول من السنة المقبلة.