خلال ولايته الأولى (٢٠١٦-٢٠٢٠)، ارتكزت مقاربة دونالد ترامب لكيفية حلّ القضية الفلسطينية على منطق تبسيطي للأزمة: دولة فلسطينية في أبو ديس، إغراءات معطوفة على وعود إقتصادية بتحسين معيشة الفلسطينيين في غزة والضفة، إطلاق مسار التطبيع أو ما يعرف بِـ”اتفاقات أبراهام”، وذلك ضمن سياق أشمل تختصره “صفقة القرن” التي أعلن عنها مطلع عام ٢٠٢٠. إلا أن هذه “الصفقة” سقطت فيما بعد بسبب رفض الفلسطينيين لها، ومن ثمّ بسبب خسارة عرّابيها ترامب وبنيامين نتنياهو مواقعهما السياسية.
لا يخرج ترامب عن رؤية معظم الإدارات الأميركية المتعاقبة لكيفية حلّ القضية الفلسطينية عبر القفز عنها والالتفاف عليها، بدلاً من إيجاد حل عادل ودائم لها، ويتمثل هذا القفز من خلال العمل على ادماج إسرائيل في المنطقة وتعزيز اتفاقيات التعاون الأمني والاقتصادي بينها وبين الدول العربية ولا سيما الخليجية. لم تنجح رؤية ترامب للحل سابقاً. كما أنها لن تنجح مستقبلاً طالما أن جذور الصراع ودوافعه ما تزال قائمة، وهذا ما دفع الفلسطينيين للقيام بعملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣. أي أن انسداد الأفق السياسي أمامهم وتهويد القدس أمام أعينهم والاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل واغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإعطاء الضوء الأخضر لضم أجزاء من الضفة الغربية وحجب التمويل الأميركي عن وكالة “الأونروا” والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان ومحاصرة غزة وصولاً إلى “الممر الهندي”، بما يُكرّسه من شطب نهائي للقضية الفلسطينية.. كل هذه العناصر جعلت الفلسطيني يقف أمام حائط مسدود فكان لا بد من “الطوفان”.
إقناع المملكة بالتطبيع!
قبيل بدء عملية “طوفان الأقصى”، كانت الاتصالات الأميركية-السعودية للوصول إلى تطبيع في العلاقات بين المملكة وإسرائيل قد أحرزت تقدماً كبيراً وهذا ما صرّح به ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلة اعلامية أجريت معه قبيل أيام قليلة من ٧ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. كل المواقف السعودية التي أعقبت 7 أكتوبر تُفيد بأنّ المملكة لن تقبل بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي إلا من خلال حل عادل للقضية الفلسطينية، قوامه قبول المجتمع الدولي بحلّ الدولتين واحترام قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. حاولت الإدارة الأميركية، طوال حرب غزة، اقناع الطرف السعودي باتباع طريق آخر غير أن المملكة لا تبدو مستعجلة في أمرها لإنجاز هذا الملف، وجاءت قرارات المؤتمر العربي الإسلامي في الرياض مؤخراً وكلمة ولي العهد السعودي أمام المشاركين في القمة لتضع النقاط على الحروف، وبالتالي جعل “المهر” عالي الثمن، ما عقّد الأمور أكثر وبخاصة مع ازدياد العدوانية الإسرائيلية في كل من الجبهتين الفلسطينية واللبنانية.
ماذا تغير بين الولايتين؟
أمورٌ كثيرةٌ استجدت على الساحة السياسية الدولية بين النسخة الأولى من ترامب (٢٠١٦)، والنسخة الثانية منه (٢٠٢٤). غير أنّ ما يعنينا في هذا المقال هو تسليط الضوء على المتغيرات الإقليمية والعربية. على المستوى الإقليمي، رعت بكين المصالحة الإيرانية-السعودية في آذار/مارس ٢٠٢٣، ما انعكس إيجاباً في مناطق نفوذ البلدين بعد سنوات من الخلاف السياسي الحاد الذي بلغ حد القطيعة الدبلوماسية، مع ما رافقه من سعار طائفي ومذهبي على امتداد المنطقة بأسرها، وبالتالي تبدو المملكة حريصة على عدم جعل أي مسار من مسارات سياستها الخارجية يؤدي إلى إعادة الأمور إلى الوراء بينها وبين إيران.
أما دولياً، ولكن بجزئية القضية الفلسطينية عموماً، فقد كسب الفلسطينيون تعاطفاً عارماً في خضمّ حرب الابادة الجماعية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر. وهذا ما انعكس من خلال التظاهرات والحراك الطلابي في أميركا وأوروبا وحملات المقاطعة الشعبية الواسعة وتجريم الكيان في المحاكم الدولية وكلها أمور لم تكن لتحدث بهذا التكثيف، لولا انكشاف همجية إسرائيل وفاشيتها، في هذه الحرب المستمرة.
“هي العودة الأعظم في التاريخ”، قالها نتنياهو في معرض تهنئته ترامب بفوزه، في محاولة منه لترميم العلاقة التي شابتها أزمة عندما بادر نتنياهو قبل أربع سنوات إلى تهنئة بايدن بفوزه بالانتخابات بينما كان مناصرو ترامب يقتحمون الكابيتول هيل.
غير أن الوقائع ستفرض نفسها وها هي قضية فلسطين هي القضية الأولى في جميع المنابر العالمية. وعلى مدى سنة ونيف، عادت القضية الفلسطينية لتحتلّ صدارة الاهتمام السياسي والشعبي العالمي، برغم استمرار عجز الفلسطينيين عن تأطير هذا الإنجاز سياسياً وشعبياً بما يتلاءم مع تطلعات الشعب الفلسطيني، في نيل الحرية والاستقلال. وهنا من المفيد الإضاءة على الموقف الأوروبي، فقد اعترفت إسبانيا وإيرلندا والنروج بالدولة الفلسطينية، ما يرفع عدد الدول التي أعلنت اعترافها بفلسطين، إلى ١٤٧ دولة، من أصل ١٩٣ دولة عضو في الأمم المتحدة.
مسارات الحل
من غير الواضح بعد كيف سيعمل ترامب على إنهاء الحرب في كل من لبنان وغزة، برغم التعبيرات الضبابية التي أفضى إليها إجتماعه بالرئيس المنتهية ولايته جو بايدن في البيت الأبيض. صحيح أن ترامب تعهّد خلال حملته الانتخابية بانهاء حروب الشرق الأوسط وحرب أوكرانيا وثمة وعود ساقها إلى الجاليات العربية في ميشيجين في السياق ذاته، غير أنّ التدقيق في خيارات الرئيس الأميركي المنتخب لفريقه السياسي يجعلنا نترحم على ولايته الأولى وعلى أداء إدارة رئيس أميركي (بايدن) تباهى بصهيونيته وجاهر وزير خارجيته انتوني بلينكن بانتمائه اليهودي قبل الأميركي!
حتماً سيصطدم ترامب بالعراقيل نفسها التي واجهها سلفه في ظلّ التعامي الأميركي من جهة ومكابرة نتنياهو ومعه حكومته الصهيونية الفاشية وفرضه إيقاع الحرب على المنطقة بأسرها من جهة ثانية. وفي جانب آخر، فإنّ مسار التطبيع مع السعودية، من المفترض أنّ يستغرق وقتاً طويلاً قبل انجازه، فيما المنطقة مشتعلة وتتطلّب حلولاً سياسية عاجلة.
وإذا كانت واشنطن ترغب في إدارة مسارات الحلّ كما كانت تفعل سابقاً بالرؤى والسياسات نفسها، والأدوات ذاتها، فإنّ هذه الحلول عدا عن كونها مجتزأة وقاصرة عن قراءة المتغيرات، فإنها ستثبت فشلها مرة أخرى على قاعدة تجريب المجرّب مرةً تلو الأخرى. ما يعني أنّ أي رؤية تقفز فوق حل عادل للقضية الفلسطينية، لا يعطي الفلسطينيين حقهم في أرضهم واقامة دولتهم وإعادة اللاجئين إلى ديارهم، ستكون محكومة بفشل مؤكد. هذا ما أكدّه درس السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣.