يُعتبر انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة تحقيقاً للسيناريو المُقلق، من وجهة نظر طهران. وتعكس الردود الأولية في إيران محاولةً للتقليل من أهمية انتخاب ترامب. لقد صرّح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، تعليقاً على نتائج الانتخابات، بأن “الفائز فيها لا يهم، لأن دولتنا ونظامنا يعتمدان على قوتنا وشعبنا”. بينما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي إن إيران لديها تجربة مريرة مع نهج وسياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة، وإن الانتخابات تمثل فرصة للولايات المتحدة لتصحيح أخطائها السابقة، مشيراً إلى أن إيران ستقيّم الإدارة الحالية، بناءً على أدائها.
في حين نشرت صحيفة “كيهان” اليومية الإيرانية، المعروفة بقربها من المرشد الإيراني الأعلى، مقال رأي بعنوان: “أميركا هي الشيطان الأكبر، بغض النظر عن رئيسها”. لكن هذه المرة، يأتي الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في ظل تقارير من الأجهزة الاستخباراتية الأميركية تفيد بأن إيران حاولت اغتياله، وأدارت حملة ضده في وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً يخضع كبار المسؤولين في إدارته السابقة لحراسة مشددة بسبب تهديدات لحياتهم. كل ذلك يأتي في سياق سياسته المتشددة تجاه إيران خلال ولايته الأولى (2016-2020)، والتي انسحبت فيها الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في أيار/مايو 2018، وطبّقت سياسة الضغط الاقتصادي الأقصى على إيران، وتم فيها اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، في كانون الثاني/يناير 2020. هناك تخوف في طهران من نية الإدارة القادمة العودة إلى سياسة الضغوط القصوى، وعزل إيران وإضعافها اقتصادياً من خلال تشديد العقوبات وزيادة تطبيقها على بيع النفط الإيراني للصين.
من الأفضل لإيران، وفق رؤية الرئيس بزشكيان، أن تركز في هذه المرحلة على حل التحديات الداخلية التي تواجهها، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، من خلال جهود للتسوية مع الغرب بشأن قضية الملف النووي، والتي قد تؤدي إلى تخفيف العقوبات
تجد إيران نفسها في مفترق طرق مهم مع تغيّر الإدارة الأميركية، إذ يتعين عليها، في المدى القريب، اتخاذ قرار بشأن توقيت وطبيعة الرد على الهجوم الإسرائيلي الذي وقع في 26 تشرين الأول/أكتوبر. كانت هذه المعضلة تواجه القيادة الإيرانية حتى قبل انتخاب ترامب، والآن، يجب عليها أن تختار بين خيارَين رئيسيَّين:
الأول؛ الرد على الهجوم الإسرائيلي مع تحمُّل مخاطر كبيرة، على رأسها التهديدات التي تعهدت إسرائيل تنفيذها هذه المرة – ربما ضد البرنامج النووي، و/أو منشآت النفط، التي تُعد شريان الاقتصاد الإيراني، وربما حدوث تدخّل أميركي يتجاوز الدفاع عن إسرائيل.
الثاني؛ الامتناع من الرد مع تحمّل تكلفة تآكل إضافي في قوة الردع أمام إسرائيل، وإرسال رسالة ضُعف لوكلائها الإقليميين وقاعدتها الداخلية.
في سياق أوسع، وفي المدى الطويل، تضع الحملة الإقليمية المتعددة الجبهات والمواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، إيران والمحور المؤيد لها، الذي تعرّض لأضرار جسيمة في المواجهة مع إسرائيل، أمام تحديات أمنية متزايدة. يأتي ذلك في وقت تواجه الجمهورية الإسلامية أزمة اقتصادية متفاقمة، وأزمة شرعية متعمقة لدى النظام، واستعداداً لمعركة خلافة محتملة، بعد وفاة المرشد الأعلى علي الخامنئي، البالغ من العمر 86 عاماً.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يزال هناك فرصة للحوار مع الإدارة الأميركية، بهدف رفع العقوبات، وهي المسألة التي تحدث عنها الرئيس الإيراني في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي. وأبدى الرئيس ترامب، خلال ولايته الأولى، استعداده للتفاوض مع طهران في خريف 2019، وأعرب عن رغبته في لقاء الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني. وصرّح ترامب في حملته الانتخابية الحالية بأنه سيعمل على إبرام صفقة جديدة مع إيران في فترة زمنية قصيرة للغاية (طبعاً، إذا جرى قبول شروطه). كذلك أعلن بريان هوك، المسؤول عن الملف الإيراني في إدارة ترامب، مؤخراً، أن الإدارة لا تسعى لتغيير النظام في إيران. بالإضافة إلى ذلك، تتذكر طهران أن إدارة ترامب امتنعت من الرد العسكري على الاستفزازات الإيرانية في الخليج الفارسي، بما في ذلك إسقاط طائرة أميركية مسيّرة في حزيران/يونيو 2019، والهجوم الإيراني على منشآت النفط في السعودية في أيلول/سبتمبر 2019.
وعلى الرغم من كل شيء، فإن إيران تواجه واقعاً مختلفاً مع اقتراب عودة ترامب إلى البيت الأبيض، مقارنةً بما كان عليه الوضع في بداية ولايته الأولى في سنة 2016. فمنذ إعادة فرض العقوبات في سنة 2018، طوّرت إيران قدرتها على التعامل مع تأثيرها بنجاح نسبي من خلال تقليل اعتمادها الاقتصادي على الغرب وتنويع مصادر الدخل والأسواق الاقتصادية. علاوةً على ذلك، ساعد تعزيز الشراكة مع روسيا (وخصوصاً في المجالَين العسكري والأمني)، ومع الصين (في المجالين النفطي والاقتصادي)، إيران على مواجهة نظام العقوبات. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد قدرة الإدارة الأميركية المقبلة على تردّي الوضع الاقتصادي الإيراني بشكل كبير، وعلى استعداد بكين لوقف شراء النفط الإيراني، وكذلك في مواجهة روسيا، نظراً إلى إمكان إعادة النظر في العلاقات بين واشنطن وموسكو.
كما أن اقتراب إيران من حافة القدرة النووية والتآكل المستمر في إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها النووية يعزز قدرتها على الوصول إلى السلاح النووي، في حال اتخاذ قرار سياسي بهذا الشأن، وفي فترة زمنية قصيرة. وفي هذا السياق، قد تشير التصريحات التي أطلقتها إيران خلال الأشهر الأخيرة إلى إعادة تقييم من قمة هرم القيادة في طهران للاستراتيجيا النووية. كما أن تحسين العلاقات بين إيران وجيرانها العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، والذي بلغ ذروته في اتفاق استئناف العلاقات في آذار/مارس 2023، واستمر بوتيرة متصاعدة منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل و”حماس” وحزب الله، يوفّر لإيران فرصاً سياسية لم تكن موجودة خلال فترة ولاية ترامب الأولى.
ومن ناحية أُخرى، فإن إيران تواجه اليوم تحديات كبيرة تتمثل، أساساً، في ازدياد الشكوك في قدرتها على الحفاظ على القدرة على ردع أعدائها بصورة فعالة، وعلى رأس هؤلاء الأعداء الولايات المتحدة وإسرائيل، في ظل ضُعف المحور الموالي لإيران في الأشهر الأخيرة وفشل جهودها في ردع إسرائيل عن مواصلة حملتها ضدها وضد وكلائها، حتى بعد هجومين على إسرائيل في منتصف نيسان/أبريل ومطلع تشرين الأول/أكتوبر. وبعكس ما جرى خلال ولاية ترامب الأولى، التي اضطرت فيها إيران إلى مواجهة آثار العقوبات الاقتصادية، وبصورة خاصة منذ أواخر سنة 2018، فإن الإدارة الأميركية الحالية تتمتع بفترة ولاية كاملة لتطبيق سياستها، بما في ذلك مجموعة من الضغوط المتزايدة ضد إيران.
في ظل هذه الظروف، تحتاج إيران إلى مراجعة سياستها في مجموعة من القضايا، أبرزها مسألة الرد على الهجوم الإسرائيلي ضدها. يمكن أن يؤدي انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة إلى مقاربتين متناقضتين في هذا السياق: قد يشجع إيران على الرد قبل تولّي الرئيس الجديد منصبه، استناداً إلى التقدير أن قدرتها على التحرك العسكري ضد إسرائيل ستكون عرضةً للتقييد أكثر، بعد بدء ولايته. ومن ناحية أُخرى، فقد تقدّر إيران أن الهجوم العسكري على إسرائيل في الوقت الحالي يمكن أن يورطها مع الرئيس الجديد، ومع الإدارة المنتهية ولايتها، وربما يشجع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على استغلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس بايدن لمهاجمة المنشآت النووية في إيران.
اقتراب إيران من حافة القدرة النووية والتآكل المستمر في إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها النووية يعزز قدرتها على الوصول إلى السلاح النووي، في حال اتخاذ قرار سياسي بهذا الشأن، وفي فترة زمنية قصيرة
فيما يتعلق بالسياسة العامة أيضاً، سواء في اتجاه التهدئة والتسوية، أو تصعيد المواجهة، يتعين على القيادة الإيرانية الاختيار بين النهج الأكثر براغماتيةً، الذي يُعتبر الرئيس بزشكيان ممثله البارز، وبين النهج المتشدد والمواجه الذي تقوده الدوائر الراديكالية والحرس الثوري. من الأفضل لإيران، وفق رؤية الرئيس بزشكيان، أن تركز في هذه المرحلة على حل التحديات الداخلية التي تواجهها، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، من خلال جهود للتسوية مع الغرب بشأن قضية الملف النووي، والتي قد تؤدي إلى تخفيف العقوبات. وفي هذا السياق، دعت وسائل الإعلام الإيرانية المرتبطة بالتيار البراغماتي – الإصلاحي، بعد إعلان نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة، إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، في محاولة للتوصل إلى تسوية مع الإدارة الأميركية الجديدة، مستغلةً استعداد ترامب المعلن للعمل على تخفيف التوترات وإنهاء النزاعات على الساحة الدولية. في المقابل، رأت وسائل الإعلام المرتبطة بالجناح المتشدد في إيران أن إعادة انتخاب ترامب تثبت مرة أُخرى أنه لا ينبغي تعليق الآمال على إمكان التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة. ووفقاً لوجهة نظر ذلك الجناح، يتعين على الرئيس ومساعديه الامتناع من تبنّي نهج الرئيس السابق روحاني الذي قدم تنازلات كبيرة في إطار الاتفاق النووي الفاشل مع الغرب (2015).
مؤخراً، أبدى المرشد الأعلى الإيراني علي الخامنئي موافقته الضمنية على إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة. ففي لقاء مع أعضاء حكومة الرئيس بزشكيان الجديدة في آب/أغسطس 2024، صرّح الخامنئي بأنه على الرغم من أنه لا يجوز لإيران أن تعلق آمالها على العدو، أو تثق به، فإنه لا مانع من التفاعل معه في ظروف معينة. قد تشير تصريحات المرشد، وكذلك استعداده للتأقلم مع انتخاب بزشكيان رئيساً وتعيين أعضاء سابقين في الفريق الإيراني المفاوض بشأن البرنامج النووي في مناصب رفيعة، وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وكذلك استعداده لإجراء حوار مع الولايات المتحدة، وخصوصاً مع اقتراب موعد انتهاء آلية إعادة فرض العقوبات المنصوص عليها في الاتفاق النووي (snapback) في تشرين الأول/أكتوبر 2025. ومع ذلك، هناك شكوك كبيرة في استعداد المرشد لتليين مواقفه والموافقة على تنازلات كبيرة في البرنامج النووي، من شأنها أن تسمح بالتوصل إلى تسوية مع الإدارة الجديدة في واشنطن، فضلاً عن اتفاق نووي جديد ومحسّن من وجهة نظر الولايات المتحدة.
خلاصة القول إن انتخاب الرئيس ترامب، وزيادة استعداد إيران لتحمّل مخاطر أكبر مما كانت عليه الحال في السابق، وتأثير التيارات المعتدلة المحدود في عملية اتخاذ القرار في إيران (حتى بعد انتخاب بزشكيان رئيساً)، وتأثير الحرس الثوري المتزايد، الذي يتبنى في كثير من الأحيان نهجاً متشدداً واستفزازياً تجاه الغرب – كل هذه العوامل تزيد في خطر تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة. ويأتي ذلك في ظل احتمال كبير أن تضطر إيران إلى التعامل مع مسألة انتقال القيادة العليا خلال فترة ولاية الرئيس ترامب. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).