إسرائيل تخرق وقف النار.. أيُّ ردٍ للبنان، حكومة ومقاومة؟

ما أن وُضع اتفاق وقف اطلاق النار بين لبنان و"إسرائيل"، يوم الأربعاء الماضي، موضع التنفيذ، حتى سارع أبناء الجنوب اللبناني إلى إشهار عودتهم إلى مدنهم وقراهم، فيما عمّت الخيبة مستوطنات الشمال في فلسطين المحتلة لرؤية مشهدية الجنوبيين يعودون إلى مدنهم وقراهم المدمرة رافعين رايات المقاومة حتى قبل أن يُوجّه أي مسؤول لبناني الدعوة إليهم للعودة.

غير أن فرحة الناس لم تدم طويلاً، ففي اليوم الخامس تحديداً (أمس الإثنين)، حاول الإسرائيليون نسف الإتفاق من خلال سلسلة من الإعتداءات التي تُوّجت بمجزرة في بلدة حاريص في قضاء بنت جبيل. وعلى قاعدة “أعذر من أنذر”، بادرت المقاومة اللبنانية إلى “تنفيذ ردّ دفاعي أولي تحذيري مستهدفةً موقع رويسات العلم التابع لجيش العدو الإسرائيلي في تلال كفرشوبا اللبنانية المحتلة”، وكان بيان المقاومة واضحاً بأن هذا الرد أتى بعدما أخفقت كل محاولات وقف الخروقات “الإسرائيلية”. وبالفعل، تبين أن المراجعات التي قام بها رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الأميركيين والفرنسيين، طوال الأيام الخمسة الماضية، لم تفلح في وقف الخروقات الإسرائيلية. وقد أدّى الإنذار الميداني “الموضعي” (تلال كفرشوبا اللبنانية المحتلة) من الجانب اللبناني إلى جعل الأميركيين يتدخلون لدى الجانبين لمنع تدحرج الموقف وإعادة تأكيد إلتزام الطرفين اللبناني و”الإسرائيلي” باتفاق وقف النار، برغم الكلفة الكبيرة التي دفعها لبنان، وجعلت آلاف الجنوبيين ينامون في عراء الطرقات التي غصّت بالمندفعين ليلاً نحو العاصمة بيروت مجدداً.

وبات في حكم المرجح أنه قبل انطلاق آلية عمل لجنة مراقبة وقف النار، تحت سقف القرار 1701، قبل نهاية الأسبوع الحالي، سيستمر الجيش “الإسرائيلي” في خرق قرار وقف النار من خلال الغارات واستمرار توغله في القرى التي عجز عن دخولها حرباً وأمعن فيها تفجيراً وتجريفاً، واللافت للانتباه أن محاولة “الإسرائيليين” فرض وقائع ميدانية جديدة، ترافق مع إصدار تحذيرات للجنوبيين بعدم العودة إلى منطقة جنوب الليطاني وزاد عليها دعوته إلى منع التجول في تلك المنطقة بين الخامسة مساءً والسابعة صباحاً، فيما واصل طيرانه الحربي والمُسيّر غاراته ليس فقط على القرى الواقعة جنوب نهر الليطاني بل تعداها إلى مناطق في شمال النهر فيما استمرت الطائرات المُسيّرة والحربية طلعاتها على علو منخفض فوق مناطق لبنانية عدة في البقاع والشمال وحتى فوق العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية.. وكأن لا وقف لاطلاق النار ليُحوّل بذلك هذا الاتفاق عند اللبنانيين إلى نصر بطعم مرّ العلقم.

أمام هذا الواقع، يتساءل المراقبون: كيف ستتعامل الحكومة اللبنانية والمقاومة مع هذا السلوك العدواني “الإسرائيلي” المتمادي الذي لم يعد يليق وصفه بـ”الخروقات” بل بالإمكان القول إنّه استمرار للعدوان البرّي الذي انطلق في منتصف أيلول/سبتمبر الماضي ضد لبنان؟

من جهة المقاومة، يبدو واضحاً أنها تزين الأمور بميزان من ألماس، ودائماً وفق سياسة نزع الذرائع وبالتالي عدم الانجرار إلى استئناف العدوان بالشراسة نفسها التي كان عليها في الشهرين المنصرمين، وترك الأمور بيد رئيسي البرلمان والحكومة واتصالاتهما الدولية لمعالجة الأمر، لأن المقاومة ضنينة بجمهورها العائد إلى الجنوب الذي تحوّل حالياً إلى رهينة لدى “إسرائيل” ووحشيتها بعد تكبيل المقاومة بمندرجات اتفاق وقف اطلاق النار.

أما الحكومة اللبنانية بدبلوماسيتها ومسؤوليها فلا تملك في الوضع الراهن إلا الصراخ والشكوى لراعيي اتفاق وقف اطلاق النار، الأميركي والفرنسي، من السلوك الوحشي “الإسرائيلي”، فيما جيشها لا يملك إلا تعداد الخروقات “الإسرائيلية” للاتفاق، وهذا ما يُعيد الأمور الى منطق سياسي لبناني عفا عليه الزمن تحت عنوان “قوة لبنان في ضعفه”، أي أن “إسرائيل” تعتدي على لبنان وتستبيح كل مقومات سيادته بينما لبنان يشتكي للمجتمع الدولي الذي بدوره يكتفي بالإعراب عن “قلقه” أحياناً و”قلقه البالغ” أحياناً أخرى من دون أن يقوم بأي أمر لوقف هذا الاعتداء المتمادي.

كيف ستتعامل الحكومة اللبنانية والمقاومة مع هذا السلوك العدواني “الإسرائيلي” المتمادي الذي لم يعد يليق وصفه بـ”الخروقات” بل بالإمكان القول إنّه استمرار للعدوان البري الذي انطلق في منتصف أيلول/سبتمبر الماضي ضد لبنان؟

بمعنى آخر، إن المجتمع الدولي يُريد تكبيل يد المقاومة من جهة، وتحويل الجيش اللبناني إلى مجرد عدّاد للإعتداءات “الإسرائيلية” كمقدمة لتحويل دوره لاحقاً إلى متراس رملي وظيفته حماية الحدود “الإسرائيلية” وليس حماية حدود لبنان.

وهنا يبرز تطور الأحداث في سوريا كعامل مهم جداً في ضرب السردية القائلة بأن إقدام حزب الله على فتح جبهة إسناد غزة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو الذي تسبّب بعدوان “إسرائيل” على لبنان؛ فمن ينظر إلى المشهد الإقليمي يُمكنه أن يستنتج أن العدوان “الإسرائيلي” على لبنان كان سيتم بمعزل عن الموقف الذي اتخذه حزب الله، والدليل على ذلك هو أن سوريا برئيسها وحكومتها لم تُحرّك ساكناً على مدى 14 شهراً من الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة، واكتفت كمعظم الدول العربية بالبيانات المُندّدة، ومع ذلك وبعد ساعات قليلة من دخول وقف اطلاق النار حيز التنفيذ في لبنان، أطلق حلفاء أمريكا و”إسرائيل” والغرب هجوماً عسكرياً واسعاً على مواقع الجيش السوري وحلفائه في شمال سوريا وشمال غربها واحتلوا معظم أجزاء محافظة حلب ولا سيما مدينة حلب وهدّدوا مدينة حماة. وقد تم هذا الهجوم عبر غرفة عمليات ميدانية يُشرف عليها ضباط أوكرانيون وأمريكيون و”إسرائيليون” بالرغم من نفي البيت الأبيض أي علاقة له بهذا الهجوم.

إقرأ على موقع 180  تمرد بريغوجين.. كيف بدأ من دير الزور السورية؟ (1)

أمام هذا المشهد لا بد من استعادة ما قاله رئيس الحكومة “الإسرائيلية”، بنيامين نتنياهو، في أكثر من مناسبة بأن “إسرائيل” في حربها على سبع جبهات “تعمل على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط”، أي أن الحرب على غزة ولبنان لم تكن مجرد حملة عسكرية محصورة بضرب أعداء “إسرائيل”، بل كانت مقدمة لاطلاق حملة عسكرية واسعة ليس فقط لاستعادة “إسرائيل” الهيبة التي خسرتها في أكثر من مناسبة أمام المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في “عملية طوفان الاقصى” بل أيضاً لتثبيت اليد العليا لـ”إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط والأهم هو دفن القضية الفلسطينية.

ولا شك أنّ المقاومة التي مُنيت في هذه الحرب بخسائر فادحة في الأرواح والعتاد والعمران، صمدت صموداً أسطورياً في الميدان، إن كان في قطاع غزة حيث لا تزال المقاومة تقاتل باللحم الحي وتوقع خسائر كبيرة بالجيش “الإسرائيلي”، أو في جنوب لبنان حيث عجز هذا الجيش بالرغم من حشده لهذه المعركة 80 ألف جندي عن التقدم أكثر من بضعة كيلومترات في الحافة الحدودية الأمامية من دون أن يتمكن خلال الحرب من الاستقرار فيها، ولكن التحدي الكبير اليوم هو كيف ستصد قوى المقاومة المشروع الأميركي ـ “الإسرائيلي” الساعي إلى تغيير صورة الشرق الأوسط؟

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن “إسرائيل” ليست “سوبرمان” المنطقة، بل مجرد رأس حربة للمشروع الاستعماري الأميركي الغربي الذي وضع قدراته العسكرية والتكنولوجية والاستخبارية بتصرف الجيش “الإسرائيلي” في هذا الحرب، ويكفي للتأكيد على ذلك قراءة تقارير الإعلام “الإسرائيلي” عن كلفة الحرب على الجانب “الإسرائيلي” لتأكيد ذلك، إذ تشير هذه التقارير إلى أن 70 في المائة من  هذه الكلفة تحملتها الولايات المتحدة الأميركية منفردة فيما النسبة المتبقية منها تحملتها كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى.

في المقابل، ماذا فعلت قوى محور المقاومة؟

لقد خاضت هذه القوى الحرب عملياً بدعم عسكري ولوجستي إيراني فقط، ولم تتمكن من الاستفادة من علاقات إيران مع كل من روسيا والصين اللتين يُفترض أنهما حليفتان لها، على الأقل لتثبيت صورة هذا التحالف في وجه التحالف الأميركي الغربي من جهة ولدعم صمود المقاومين على الأرض من جهة أخرى. عملياً؛ ترك هذان الحليفان إيران وقوى محور المقاومة لقدرهم في مواجهة الغرب. وخير مثال على ذلك أنه في الهجومين اللذين شنتهما إيران رداً على اعتداءات “إسرائيلية” عليها تولت أميركا وبريطانيا وفرنسا وحتى بعض الدول العربية التصدي للصواريخ الإيرانية، فيما لم يتجاوز الموقفان الروسي والصيني حيال الهجمات “الإسرائيلية” على إيران خط التنديد والاستنكار. أمام هذا الواقع من الواضح أن أي حرب تخوضها إيران مع التحالف الأميركي الغربي من دون دعم روسي ـ صيني من شأنه أن يُدمّر إيران ويقودها إلى هزيمة مدوية.

إن هذه القراءة للواقع القائم ليست غائبة عن بال أصحاب القرار من أهل المقاومة، ومن هنا جاء الموقف الإيراني المُرحّب بوقف النار في لبنان والداعي إلى اتفاق مماثل في غزة، بالرغم من قناعتهم أن هكذا اتفاق يشكل حداً للخسائر وتجرعاً لمرّ العلقم لا بد منه لإعادة لملمة وضع قوى المقاومة وترميم جسمها المنهك وإعادة رسم خريطة تحالفات دولية وإقليمية جديدة.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  10 ملاحظات على "الحياد الناشط": الراعي وعقدة التاريخ!