على مرّ السنوات الماضية، شكلّت قضيّة النزوح السوري إلى الأراضي التركية النقطة الأضعف في جسد حزب العدالة والتنمية، بخاصة مع تفاقم الأزمة الإقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، حيث تمّ ربطها مع أعباء النزوح وفائض اليد العاملة الرخيصة والمنافسة، وهو ربطٌ بكلّ الأحوال لم يكن واقعيًا.
لكن المشهد المقبل سيجعل الحدث أكثر إبهارًا وسلطانيّة في الأيام الآتية، ألا وهو دخول أردوغان للصلاة في المسجد الأموي في دمشق. تأخّر الأمر بضع سنين، لا بأس، هذا التأخر سيزيد من هيبة المشهد لأنّه سيقترن بالعناد والتحدي والثبات، وأخيرًا بالغلبة لـ”أردوغان الفاتح”، الذي من المرجح أن يُهديه الأميركي أيضًا إنجاز الهدنة أو الإتفاق القادم في غزّة، بعدَ أن دُمرّ القطاع وبات غير صالح للحياة، لتُلقى على منكبي رئيس تركيا زعامة الأمّة ومخلّصها!
تركيا وإيران.. والشركاء
على المقلب الآخر للصّورة، تظهر خسارة محققة وكاملةٌ للجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة. إختلّ ميزان القوى بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، من غزّة ولبنان إلى سوريا، فتراجعت صورة الردع الإيرانية، فالدول تقوم عادةً وتتحرّك نتيجة فاعليّة الرّدع. خرجت الجمهورية الإسلاميّة من سوريا، ومعها حزب الله، لكن الأشدّ قسوةً كان انتقال طهران من موقع الصديق الوثيق لدمشق، إلى موقع العدو الأوحد لـ”الفاتحين الجدد”.
هناك شركاء إضافيون. تصطف الدوحة إلى جانب أنقرة. تبدو مزهوة بإنجازها العظيم الذي لن يسمح لها بتكبيل أيدي جيرانها المتربصين فقط، بل ستكون نتائجه أكبر من ذلك مع توسع وازدياد نفوذ الإمارة الصغيرة الحجم. وإلى جانب طهران، تصطف مصر والسعودية والإمارات. أَخرجوا أنفسهم من “المعارضات” السوريّة التي كانت تتكاثر وتنبت كالفطر، فأُخرجوا من المشهدية المستجدة، غير أنّ قدرة الدول العربية الثلاث على العودة تظلّ متاحةً ومتيسرّة، بفعل تداخل الأجندات السياسيّة والفكريّة مع قوى وتيارات فاعلة داخل سوريا الجديدة، والأهم، بفعل القدرات الماليّة الهائلة التي يمكن وصفها بالسحر الذي يستطيع خلق العجائب وقلب الحقائق.
أسئلة شائكة
لم نضع روسيا إلى جانب الخاسرين حتى الآن لأسباب عدة أبرزها أنّ المشهد السوري لم يكتمل بعد بشكلٍ نهائي حتى هذه اللحظة، وبالتالي ما زالت قواعد روسيا التي ورثتها عن الإتحاد السوفياتي موجودة وقائمة. هناك جدلٌ بعضه ظاهر، وأغلبه مكتوم، عن جدوى إدخال طهران لروسيا إلى ساحة الإشتباك السورية بعد أن نأت بنفسها واكتفت بمدّ دمشق ببعض العتاد والكثير من “الفيتو” في مجلس الأمن. ربما تنطلق الحجّة من أنّ الإستعانة بمقاتلات روسيا الحربيّة دون حضورها لم يكن ممكنًا، ولا سيما مع تفاقم الوضع وانكماش النظام وتقلّصه، مع الإقرار بأنّها لا تستطيع قلب الموازين العسكريّة مهما كانت فاعلة، إلّا بالمبادرة البريّة التي تكبّدَ أكلافها الباهظة إلى جانب الجيش السوري تحالف طهران من فصائل عدّة على رأسها حزب الله. كان الدخول الروسي العسكري لحظة فاصلة في تقزيم الدور الإيراني على الساحة السورية، وصار بالتالي هو المؤثر الأفعل في قرار دمشق، وهو شيءٌ بديهي بسبب موازين القوّة بين كلّ من موسكو وطهران.
هناك قرارات من الصعب فهمها من دون شرحٍ من صاحبها، فإذا نظرنا إلى ثقل العلاقات الروسيّة التركيّة، وتشابك المصالح بينهما بطريقة دقيقة ومتداخلة ومعقدة، بدءًا من وزن التبادل التجاري بين البلدين، الذي وصل العام الماضي إلى ٥٥ مليار دولار، مع وضع هدفِ الوصول إلى المئة مليار دولار، ومع تخطيط روسيا لجعل تركيا نقطة ارتكازٍ لإمدادتها النفطية والغازية نحو أوروبا، مع أسعار تفضيليّة لأنقرة. أضف إلى ذلك التخادم العسكري بين البلدين في كل من أرمينيا وأذربيجان وليبيا وبعض دول القوقاز وإفريقيا؛ كلّ ذلك يعطي ثقلًا للعلاقات التركيّة الروسيّة مقابل العلاقات الروسيّة الإيرانيّة التي تشهد ضبابيّة في طبيعة المصالح وتبادلها، وهي بكلّ الأحوال، لا ترقى دون أدنى شك إلى ثقل العلاقة بين موسكو وأنقرة العضو في حلف الناتو.
أمّا على الجانب الروسي الإسرائيلي، فيظهر عمق العلاقة ودفئها بين كلّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وبين دولتيهما، إذ يبدو جليًا تفهم كلا الطرفين وتخادمهما بشكل فاعلٍ في عددٍ من الساحات والقضايا المشتركة، ومن يرصد مسار الإعتداءات الإسرائيليّة على سوريا خلال السنوات التسع الماضية، يرى بكلّ وضوحٍ تصاعد وتيرتها وكثافتها وتوسّع مدى انتشارها منذ تسيّد موسكو للمشهد السوري.
أردوغان، “توزكوباران اسكندر” أي إسكندر العاصف (رامي السهام الإنكشاري الأبرز) الجديد لتركيا، فقد وجد في هذه اللحظة فرصته المناسبة لإصابة عدّة أهداف بسهم واحد، تبدأ من تبادل الخدمات مع الولايات المتحدة بإخراج إيران وحلفائها، ثم مساومة روسيا وإضعافها، وكذلك تحجيم تهديد الأكراد بانتظار فرصةٍ مؤاتية للقضاء عليه، إضافةً إلى إسقاط الأسد لتحقيق حلمه بالتمدّد في المجال الحيوي العربي
فوق الإصطفافات
طرفٌ آخر يقف خارج هذه الإصطفافات كلّها، فيبدو كمن يُشرف على كل ما يحدث في سوريا والمنطقة، وهي الولايات المتحدة الأميركية. هنا يُصبح من الضرورة بمكان أن نُعرّف طبيعة ما تخوضه الولايات المتحدّة في منطقتنا منذ ما قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عبر مسار التطبيع الهادىء والهادف، والذي تفجّر بغزارةٍ ودمويّة وعنف بعد هذا التاريخ.
على وقع الحرب الجديدة، نشأ تباين في النظرة إلى ماهيّة هذا الهجوم الإسرائيلي وتعريفه، إذ ظلّ البعض يعتبره حالة هيجانٍ داميةً على إثر مشاهد الذلّ غير المسبوقة التي أرّختها عمليّة “طوفان الأقصى” ضدّ كيان الإحتلال، وأنّها جولةٌ من جولات الصراع التي سرعان ما تنتهي، أو، حتى لو تمادت وطالت، فإنّ سقوفها وتوقعاتها ستبقى محدودة ومحصورة. والواضح أنّ هذا التصوّر، هو الذي غلب عند أصحاب القرار والفاعلين في جبهة الإسناد اللبنانيّة (يكفي دلالة التسمية لفهم التصوّر الذي كان حاضرًا)، وجبهة الدعم الإيرانية.
أمّا التصوّر الثاني، فهو أنّ ما حدث ويحدث ليس ردًا على “طوفان الأقصى”، بل هو غزوٌ بربريٌ جديدٌ، وحين يؤرَّخ لهذه الفترة في المستقبل فهي لن تُروى على أنها كانت حرب غزّة أو لبنان، بل باعتبارها “هجمة تاريخية كبرى”، كما يصفها الزميل عامر محسن، تهدف للسيطرة بالعنف على الإقليم وإنهاء مظاهر المقاومة فيه، لا تخوضها واشنطن فقط، بل تقودها وتحت أمرتها كبرى عواصم الغرب إلى جانب الكيان الصهيوني، على غرار حملات التتار والمغول والصليبيين ضدّ منطقتنا، والتي تستهدف تغيير وجهها وتبديله بشكل جذري. وإن ظل هذا الجدل موضع نقاشٍ في بداية الأحداث، إلّا أنّه حُسم بشلّال الدّماء منذ عمليّة “البايجرز” الشهيرة وحتى يومنا هذا.
من الواضح أنّ الولايات المتحدة التي تستشرس لحفظ زعامتها العالميّة، وفي مواجهة التحديات الخارجيّة الثلاثة الأساسيّة التي تواجهها على الصعيد العالمي، قرّرت حسم التحدّي الأضعف برأيها أوّلًا، وهو حلف طهران وجبهات المقاومة. فأمام معضلتي الصين وروسيا النوويتين، تبدو طهران الأسهل والأقل كلفةً والأسرع في حصد النتائج والمكتسبات.
من هنا يُصبح فهم المشهد السوري وما سيتبعه واضحًا وغير معقد. إذ لم يعد مسموحًا التساهل مع سوريا الضعيفة والمنهكة والمفككة بعبور قوافل السلاح منها إلى جنوب لبنان، حتّى وإن نأت بنفسها في شهورها وسنواتها القليلة الماضية عن المقاومة اللبنانية. كما ساهم في تأجيج الموقف استمرار الرّفض السوري لكل محاولات فتح قنوات تفاوضية مع أنقرة برغم الوساطات الإيرانية والروسية والعراقية، مدفوعًا بوعود الإمارات العربيّة بتسهيل عودة دمشق إلى الجامعة العربيّة، ومساعدتها برفع العقوبات الأميركيّة، والمساهمة في إعادة إعمارها، مقابل تقليص نفوذ إيران وبقائها حاجز صدّ أمام أهداف تركيا “التوسعيّة” في المنطقة العربية؛ كل ذلك دفع تركيا لاستباق التقدم الإماراتي على حدودها.
في هذه اللحظة تحديدًا، ولدت نقطة التقاطعات بين كلٍّ من الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، إن بتفاهماتٍ مباشرةٍ، وهو المنطقي، أو بسباقٍ غير تصادمي، لكنّه في النهاية يفيد جميع هذه الأطراف بما أنّها تستظلّ بعباءة واشنطن، التي تريد إضعاف موسكو وسحب منطقة نفوذٍ وسيطرةٍ من يدها، من أجل تقليص قوّتها في أيّ مفاوضات مفترضة قادمة، فيما الكيان الإسرائيلي يريد إخراج طهران نهائيًا ليسهل تدمير القدرة العسكريّة المتداعية لدى سوريا، فلا ثقة بعد اليوم بأيّ دولةٍ أو كيانٍ يُحيط بها مهما كان هشًا أو ضعيفًا. كما أنّها تريد التغوّل في المجال السوري لتوسيع مساحة الحماية لها والتأثير بالقرار السوري الجديد، والتأكد من السيطرة على خط إمداد المقاومة في لبنان، والأهم الإقتراب من تشكيل طوق كماشة يفصل الجنوب اللبناني عن باقي المناطق ليسهل ضربه في اللحظة التي تقرّر فيها ذلك.
أما أردوغان، “توزكوباران اسكندر” أي إسكندر العاصف (رامي السهام الإنكشاري الأبرز) الجديد لتركيا، فقد وجد في هذه اللحظة فرصته المناسبة لإصابة عدّة أهداف بسهم واحد، تبدأ من تبادل الخدمات مع الولايات المتحدة بإخراج إيران وحلفائها، ثم مساومة روسيا وإضعافها، وكذلك تحجيم تهديد الأكراد بانتظار فرصةٍ مؤاتية للقضاء عليه، إضافةً إلى إسقاط الأسد لتحقيق حلمه بالتمدّد في المجال الحيوي العربي، بعد أن فشل في البلدان العربيّة البعيدة جغرافيًا عنه، وأخيرًا حلّ مسألة اللاجئين السوريين التي استنزفته داخليًا.
أفغانستان العربيّة
لطالما حدث جدالٌ حول عثمانيّة رئيس تركيا الحالي، لكن ما يهمنا أن نؤكد عليه دائمًا، هو أنّ عثمانيّة أردوغان (نشرت قبل نحو أربع سنوات مقالًا مفصلًا عن تلك الفوارق الجوهرية في موقع 180 بوست) تختلف بشكلٍ جذريٍ عن عثمانيّة السلطان محمد الفاتح عام ١٤٥٣م، الأوّل عضوٌ مؤثرٌ وفعّال في حلف شمالي الأطلسي الذي تقوده واشنطن، ذراعُ وسوط الإستكبار الغربي ضدّ الدول المستضعفة والرافضة للهيمنة الغربية، ومعترفٌ بشرعيّة دولة الإحتلال على أرض فلسطين، مع تبادل تجاري متنامٍ منذ وصوله للسلطة حتى اليوم، رغم ادّعاء الحكومة التركيّة بتصفير العلاقات التجاريّة منذ أشهر مع “تل أبيب” (يمكن الإطلاع ببساطة على عمليّة استبدال جمارك رام الله مكان الإسرائيلية لاستمرار التبادل التجاري، عدا عن نفط أذربيجان الذي يغذي الكيان ويصله عبر ميناء جيهان التركي)، بينما السلطان الفاتح كان قد أخذ لقبه من إسقاط قلعة الغربيين القسطنطينية، وصلاته في كنيسة آيا صوفيا التي حوّلها إلى مسجد، من دون أن تطأ قدماه أيّ دولةٍ عربيّة.
التاريخ تدريب لا نهاية له، كلمة يوردها المؤرخ التركي إلبير أورطايلي وينسبها للمؤرخ الألماني ثيودور مومسن، فأسلوب المحتلين يتكرّر دائمًا، حصار وتجويع الدول والجماعات الخارجة عن إرادتهم واستثمار تناقضاتها وإشعالها، وتسهيل التقاتل الداخلي إلى حد الإنهاك، ليصبح من اليسر إسقاط تلك الدولة. لا حاجة للعودة إلى التاريخ القديم، بضع سنواتٍ إلى الخلف، هكذا فعلت الولايات المتحدّة سابقًا في أفغانستان والعراق والصومال وليبيا والسودان وسوريا، والتحديث جارٍ على الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، إنِ استطاعت إلى ذلك سبيلًا. لكن الغريب والعجيب، أنّ هذه الدولة لا تتعلّم من التّاريخ، ربّما هي غطرسة القوّة التي تُشعرها بقدرة الإله على تغيير كلّ شيء. فرصة وإمكانيّة نشوء حركات المقاومة يستحيل أن يولد في ظلّ دولة مركزيّة قوية، فليشاهدوا فلسطين، لبنان، العراق، اليمن، ولينتظروا سوريا أيضًا. سوريا التي يبدو بقيّة مخاضها القادم غير ورديّ، ويُشبه إلى حدٍ كبير أحداث رواية خالد حسينيّ “ألف شمسٍ ساطعة” عن يوميّات الأفغان أيام الإحتلال السوفياتي لكابول، ثم صعود الحالة الجهاديّة ضده بدعمٍ من واشنطن والرياض تحديدًا، لتتفاقم معاناتهم مع هزيمة وانسحاب الجيش الأحمر من كابول واندلاع حرب وجوديّة بين الفصائل الجهادية التي طردت المحتل، لتأتي طالبان وتقصي الجميع دفعة واحدة، ثم لتحضر بعدها أميركا وتسقط طالبان. من يودّ أن يتخيّل أكثر السيناريوهات المتوقعة لسوريا، فليقرأ تلك الرواية، مع التذكير في مسألتين، الأولى؛ أنّ السعودية وأميركا أو قاعدتها الحربية المتقدمة المسماة إسرائيل كانتا بعيدتين عن الحدث الأفغاني يومها، والثانيّة، أنّ الجولة الأخيرة في أفغانستان، كانت لأصحاب الأرض الحقيقيين، وافقتهم على ما هم عليه، أم لم توافقهم.
ما زالت التحوّلات في بداياتها، ومن رفع راية النصر اليوم فقد استعجل الأمر كثيرًا، لنعد للتاريخ ونقرأ أنّ اللعب بتغيير التوازنات في منطقتنا ممكن ويسير، غير أنّ النتائج يستحيل ضمانها والتأكد منها، وساذجٌ إلى حدّ الغباء من يعتقد ذلك، وهذا ما سيدركه “الرّابحون” قريبًا.
مخاضات كثيرة على الطريق، والولادة لم تتم بعد كي نحسم شكل وهوية المولود الجديد. أيّامٌ صعبةٌ تنتظر المنطقة ولبنان، لكن مع ذلك، لا يولد شعاع الفجر ويأتي إلّا من رحم الّليل.