14 شهراً ونيف على اندلاع “طوفان الأقصى”، لم نجد مشروعاً عربياً في المواجهة المفروضة مع المشروع الصهيوني التوراتي المدعوم من معظم دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ لا بل إن النظام الرسمي العربي كان وما يزال شريكاً أساسيا في الحرب ضد الشعب الفلسطيني. والحال هكذا، هل يُصبح مُستغرباً مثلاً أن يملأ الفراغ مشروع تقوده إيران وينضوي فيه كلٌ من حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين وحزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وحركة أنصار الله اليمنية.
***
قبل محاولة تلمس الاتجاهات التي ينحو إليها الشرق الأوسط في ظل استمرار الحرب الصهيونية التوراتية ضد العديد من شعوب منطقتنا، لا بد من استغراب مسارعة المقاومة اللبنانية بلسان الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم لاعلان انتصارها في الحرب، وإن كان قاسم قد لخّص مفهوم الانتصار لدى المقاومة بأنه يتمثل في إفشال مخططات العدو بالقضاء على المقاومة وسحقها. لكن ووفقاً لهذا المفهوم، يُمكن الإفتراض أن المقاومة ترى أن الحرب قد انتهت، وهذا الأمر غير صحيح، فهذه الحرب ما زالت مشتعلة في فلسطين المحتلة حيث يقوم الجيش “الإسرائيلي” بعمليات تهجير وإبادة جماعية يومية يذهب ضحيتها بمعدل وسطي حوالي الخمسين شهيداً يومياً، كما أن الحرب على لبنان ما تزال مستمرة وإن بصورة أقل عنفاً عما كان يحصل قبل دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ يقوم الجيش “الإسرائيلي” يومياً بالتوغل براً في مناطق عجز عن دخولها خلال الحرب ويُنفذ عمليات تفجير للمنازل والمؤسسات وتجريف للطرقات واقامة عوائق إسمنتية بين القرى، ناهيك بالتحليق اليومي المتواصل لطيرانه الحربي والمُسيّر ليس فقط في سماء جنوب لبنان بل أيضا فوق البقاع والعاصمة بيروت. يحصل ذلك في ظل وجود لجنة مراقبة دولية برئاسة الولايات المتحدة، عقدت اجتماعين فقط لأعضائها طوال فترة الشهر المنصرم وأصدرت بياناً مقتضباً عن اجتماعها الأخير لا يُطمئن أحداً، إذ اكتفى بأخذ العلم بالشكاوى اللبنانية بشأن الخروقات “الإسرائيلية”. وكما هو معروف أيضاً، فإن الجيش “الإسرائيلي” استغل التطورات السورية للتوغل في جنوب سوريا ويحتل ما يقارب الخمسمائة كلم2 بلا حسيب ولا رقيب، وبات يُثبّت مواقع له في المناطق التي احتلها، وبينها مناطق متداخلة مع الأرض اللبنانية، كما هو الحال في منطقة جبل الشيخ، ناهيك بما يقوم به في الضفة الغربية والقدس.
المؤكد هو أن سوريا أصبحت تدور في فلك المشروع الأمريكي وأن المقاومة في لبنان أصبحت في وضع لا تحسد عليه ومحورها في حالة خسارة استراتيجية قاسية بعد أن تحوّلت وحدة الساحات إلى وحدة الخسارة في الساحات
أمام هذا المشهد، يُمكن القول إن الحرب لم تنته، وها هو رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو يستمر برفع شعار تغيير وجه الشرق الاوسط، بقوة الآلة الحربية “الإسرائيلية” المُغطاة سياسياً ودولياً من الولايات المتحدة وحلفائها في حلف “الناتو” وبالصمت العربي المدوي حياله.
واستناداً إلى نظرية افشال مخطط العدو هو انتصار للمقاومة، يُمكن القول إن المقاومة اللبنانية انتصرت تكتيكياً وموضعياً لكنها خسرت استراتيجيا على مستوى المنطقة نتيجة خسارتها سوريا التي شكّلت على مدى أربعين عاماً قاعدة رئيسية لما كان يسمى “محور المقاومة”.
وفي تلمس لتداعيات استمرار الحرب، يظهر حتى الآن انتهاء الركائز الفعلية لفكرة المشروع القومي العربي بسقوط نظام البعث الحاكم في سوريا بعد أن كان سقط في العراق قبل عقدين ونيف من الزمن وسقط في مصر الناصرية قبل أكثر من خمسين سنة، وها هو اليوم أيضاً ما يُسمى “المشروع الفارسي” ينحسر ويتراجع إثر الضربات القاسية التي تلقاها حلفاء إيران في المنطقة وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا على يد حلفاء تركيا، ما يترك المجال مفتوحا للمشروعين المتقدمين إقليمياً وهما مشروع الصهيونية التوراتية ومشروع العثمانية الجديدة.
إن هذين المشروعين يستندان إلى المشروع الأم في المنطقة، ألا وهو المشروع الامبريالي الأمريكي الذي يتعاطى ببراغماتية واقعية سياسياً وجيوسياسياً، فواشنطن حريصة كل الحرص على وضع كل منطقة الشرق الأوسط تحت هيمنتها، ولا يهمها الأداة التي تستند إليها هذه الهيمنة طالما أن النتيجة تحفظ مصلحة مشروعها المهيمن. من هنا فإنها ستلعب دور ضابط الإيقاع لعدم وقوع تصادم بين المشروع الصهيوني والمشروع العثماني.. وهي نجحت في ذلك على مدى عقدين ونيف من عمر النظام العثماني في تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان، إذ حافظ الأخير على علاقات متينة مع “إسرائيل” في المجالات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وإن يكن بين الحين والآخر يرفع نبرة تصريحاته السياسية ضدها والتي لا تترجم بأي سلوك فعلي على الأرض.
إن اخراج سوريا من فلك التحالف الإيراني ـ الروسي شكّل ضربة ذات طابع استراتيجي لهذا التحالف الذي أثبتت السنوات القليلة المنصرمة هشاشته، فروسيا غضتّ الطرف عن كل الهجمات الجوية التي شنتها “إسرائيل” على المواقع الإيرانية في سوريا، كما غضّت الطرف عن تنفيذ غارات استهدفت قيادات عسكرية إيرانية رفيعة ناهيك عن استهداف قيادات من حزب الله وحلفائه هناك. وحتى في أوج الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على لبنان على مدى 66 يوماً لم تُحرّك روسيا ساكناً لمساعدة حلفاء حليفها الإيراني. واليوم لا مشكلة لواشنطن في أن يصبح نظام الحكم في سوريا بقيادة حركة الإخوان المسلمين إن كان على شاكلة النظام في تركيا طالما أن مصالحها محمية، وإن كانت ستسعى إلى تشجيع النموذج التركي مع سقوط النموذج الإخواني المتشدد الذي عبّر عنه نموذج محمد مرسي في مصر.
مشروع تفتيت سوريا يتعارض حالياً مع المشروع التركي الذي يرى فرصته بفرض سيطرته على كامل الأراضي السورية وليس فقط على المناطق الكردية في الشمال ولا على مدينة حلب التي كان يحلم بالسيطرة عليها منذ زمن بعيد
ان ضبط ايقاع المشروعين “الإسرائيلي” والتركي في المنطقة هو مسؤولية أمريكية؛ ففي أي سيناريو سوري، ما هو مؤكد أن عدويي واشنطن الإيراني والروسي خرجا من دائرة النفوذ فيها وكيفما آلت الأمور فإن واشنطن ستبقى هي الرابحة، فإن استتبت الأوضاع في سوريا وتجاوزت المجموعات المسلحة فوضى ما بعد سقوط بشّار الأسد، فإن هذا الاستقرار يبقي سورياً كلها تحت سيطرة حليفي واشنطن “الإسرائيلي” والتركي وإن انفلتت الأوضاع وتحولت إلى حرب بين المجموعات التي اسقطت نظام الاسد، سنشهد تفكك الدولة السورية إلى دويلات متناحرة ومتحاربة، وفق ما يتناسب مع المشروع “الإسرائيلي” كونه يُعطي “إسرائيل” حرية الحركة وتأبيد سيطرتها على المناطق السورية التي احتلتها مؤخراً، حتى أنها صارت على بعد حوالي 22 كيلومتراً من العاصمة دمشق، أما حليف واشنطن الكردي في الشمال، فسيحتفظ بكيانه تحت حمايتها المباشرة، وحليفها التركي سيبقى منشغلاً بلملمة الأوضاع في باقي المناطق. لكن مشروع تفتيت سوريا يتعارض حالياً مع المشروع التركي الذي يرى فرصته بفرض سيطرته على كامل الأراضي السورية وليس فقط على المناطق الكردية في الشمال ولا على مدينة حلب التي كان يحلم بالسيطرة عليها منذ زمن بعيد. من هنا فإن تركيا ستعمل جاهدة للمحافظة على الاستقرار وتثبيت دعائم حكم حلفائها في دمشق.
وطالما أن الأمور لا تقاس بالتصريحات والبيانات بل بالسلوك الميداني، فإن وضع سوريا سيبقى في دائرة الضبابية إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية التي حدّدتها “هيئة تحرير الشام” بشهر مارس/آذار المقبل، ولكن إلى ذلك الحين وبعده أيضاً فإن المؤكد هو أن سوريا أصبحت تدور في فلك المشروع الأمريكي وأن المقاومة في لبنان أصبحت في وضع لا تحسد عليه ومحورها في حالة خسارة استراتيجية قاسية بعد أن تحوّلت وحدة الساحات إلى وحدة الخسارة في الساحات.