هل على المواطن أن يختار بين المقاومة والديموقراطية؟

مع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، واتّهام "محور المقاومة" بمساندة نظام استبدادي، يبرز سؤال حول أهمية العلاقة بين المقاومة والديموقراطية وحول الأولوية المفترض أخذها في الاعتبار. بعبارة أخرى، هل تستقيم المقاومة من دون ديموقراطية، ولمن الأولوية في حال كان لا بد من الاختيار؟

لطالما استخدمت الحريات والحقوق، وتالياً الديموقراطية، معياراً يقيس به خصوم المقاومة، باعتبارها خياراً لمواجهة العدو الصهيوني، صحة هذا الخيار. بمعنى ادّعاء أن الجهات التي اختارت المواجهة مع المشروع الصهيوني في المنطقة، اتّسمت بالطابع الشمولي والإقصائي وحتى الإستبدادي؛ وبالتالي هي تُشكّل عائقاً أمام تقدم الشعوب التي تُساندها، وتحول دون عيشها بكرامة خلافاً لما تدّعيه. وركّز الإعلام المعادي لهذا “المحور” على نقاط عديدة تُفنّد وتضيء وتبالغ، حتى أنها تخترع في بعض الأحيان صوراً وأحداثاً ووقائع تؤيّد ادّعاءاتها. من هنا، الإضاءة على ما يدعم هذه المقولات واتهام الجهات المنضوية في “محور المقاومة” باستخدام الأيديولوجيا القومية والعقيدة الدينية لتجنيد المقاومين، ولتجييش الجمهور المؤيد لخياراتها، مع ما يستتبع ذلك من غسل للأدمغة وقمع أي تعبير عن اتجاهات مختلفة وتكفير الخصوم ومنع المعارضة ورفض أي نقد باعتباره نقداً لخيار ديني سماوي أو عقيدة قومية عربية وحدوية.

هكذا، استطاع أعداء المقاومة، في كثير من الأحيان، استغلال الثغرات الموجودة واقعاً لديها لتشويه مضمونها والتصويب عليها. من هنا السؤال المهم: هل على المواطن أن يختار بين المقاومة وبين الديموقراطية؟ بين بناء القوة العسكرية وبين بناء الإنسان؟ والسؤال الأهم: أوليس هدف المقاومة هو تحرير الإنسان وعيشه بكرامة؟ أوليس هدف الديموقراطية نفسه؟

هذا مع العلم أنني لم أكن يوماً معجبة بديموقراطية غرب لطالما غلّفها بشعارات جميلة، تُخفي تحتها “استحماراً” لشعوبه و”استعماراً” لشعوبنا. ففي الغرب، انتخابات توصف بالحرة، لكن تقودها الدولة العميقة. إعلامٌ يصنع الرأي العام بما يتوافق مع اتجاهات هذه الدولة. حقوقٌ وحرياتٌ ذات حدود يرسمها صانعو القرار السياسي والاجتماعي وحتى الأخلاقي. حقوقٌ وحرياتٌ، حسب التجربة الغربية، واجهةٌ جميلةٌ لمنزلق قد يقضي على المجتمع والقيم إذا تبنيناه على علاته، وهي انتقائية تُستخدَم عند الحاجة ضدّ أنظمة يُراد إسقاطها، وتُحجَب عن شعوب يُراد إخضاعها، تماماً كما اختفت أمام ما جرى في غزة ولبنان وغيرهما.

إن تقديسنا لمبدأ المقاومة يجب ألا يجعلنا نغفل أهمية نشر الوعي والثقافة، والتفكير النقدي، وتقبّل الرأي الآخر، بالإضافة إلى أهمية حرية الخيارات السياسية وضرورة عدم تأجيل البحث في محاسبة الذات والتصدي لكل أشكال الفساد وعدم إهمال أي استحقاق أخلاقي أو اجتماعي بحجة الضرورة العسكرية وأولوية التصدي للعدو

لكن هذا لا ينفي واقع أن العيش بكرامة لا يستقيم إلا بجناحين: مقاومة المحتل والمعتدي والاستعمار بكل أشكاله (العسكرية والثقافية والاقتصادية) من جهة، والحفاظ على حقوق الإنسان وحرياته من جهة أخرى، وذلك بهدف بناء الإنسان السوي القوي القادر على بناء الوطن والدولة. فالشعوب المستعبدة لا قيامة حقيقية لها. في أحسن الأحوال هي ناقلة لحضارة غيرها بما لا يتوافق مع تراثها ومفاهيمها الجماعية. هذا إذا افترضنا حسن نية المستعمر في إنماء المجتمع الخاضع لسيطرته، وإذا أغفلنا نواياه في السيطرة والاستيلاء على مقدرات الدولة التابعة له. تفاعل الحضارات وتناقحها شيء، واستيراد قيم ومفاهيم لا تتوافق مع العقل الجماعي للمجتمع شيءٌ آخر.

منطقتنا المشرقية تتميز بحضارة ومفاهيم وقيم لا تتطابق مع تلك الموجودة لدى الغرب أو الصين أو روسيا مثلاً. حاول أتاتورك استنساخ تجربة الغرب في تركيا ومحو التراث العثماني. نجح في البداية بسبب مرارة الهزيمة التي مُنيت بها السلطنة في الحرب العالمية الأولى لكنه لم يستطع أن يمنع حزب العدالة والتنمية المتفرّع من فكر “الإخوان المسلمين” من العودة إلى السلطة بعد حين من الزمن. مما يعني أن التراث الإسلامي وتراث الخلافة ما زال كامناً لدى جزء لا يستهان به من هذا المجتمع.

إيران التي حاول الشاه محمد رضا بهلوي جعلها جزءاً من الغرب لم تتقبل بمعظمها هذا الأمر لتنفجر في ثورة متطرفة ضد الغرب مع حكم ديني خالص. هل نجحت الأحزاب العلمانية التي حكمت بعض الدول العربية في علمنة كل المجتمع أو حتى غالبيته؟ ما تفسير انتشار ظاهرة التدين بين العراقيين والسوريين والمصريين؟ التفسير واضح: هذا المشرق لطالما كان مهداً للأديان، وليس من السهل اقتلاع الذاكرة الجماعية واللاوعي الجماعي الديني من تراثه وخلفياته، مهما كان تخلّف المجتمعات فيه مُنفّراً، ومهما كان الإعجاب بالغرب شديداً.

لنعد إلى موضوع الديموقراطية وأقرانها من الحقوق والحريات. لا ديموقراطية دون حق تقرير المصير، دون حرية القرار، ودون حرية اختيار النموذج الحضاري الملائم لكل شعب من الشعوب. وبالتالي لا ديموقراطية دون تحرّر تصنعه مقاومة لكل مشاريع السيطرة العسكرية والاقتصادية والثقافية. وبالمقابل، لا معنى لمقاومة تحرّر الأرض ولا تُحرّر الإنسان والفكر. إن الأنظمة أو الأحزاب التي تستلب الحرية والفكر والحقوق هي معادل للمحتل والمعتدي.

إن تقديسنا لمبدأ المقاومة يجب ألا يجعلنا نغفل أهمية نشر الوعي والثقافة، والتفكير النقدي، وتقبّل الرأي الآخر، بالإضافة إلى أهمية حرية الخيارات السياسية وضرورة عدم تأجيل البحث في محاسبة الذات والتصدي لكل أشكال الفساد وعدم إهمال أي استحقاق أخلاقي أو اجتماعي بحجة الضرورة العسكرية وأولوية التصدي للعدو. فتآكل مجتمعات المقاومة من الداخل أشدّ خطورة من العدو الخارجي. كما أن التهاون في إصلاح هذه المجتمعات يجعلها فريسة سهلة للعمالة عن قصد أو عن غير قصد ويعطي أعداء المقاومة مجالاً للبرهنة على خطأ هذا الخيار وعلى كونه سبباً للتخلف ومانعاً للعيش الكريم ولبناء وطن سليم.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "الباروميتر العربي": نسبة مؤيدي حزب الله في لبنان.. تتزايد!
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مصر وتركيا... حشود على حافة الحرب الليبية