لبنان.. ما معنى أن تكون “إدارة الأزمة” علاجاً للسلاح؟

ليس من تفسير سياسي مُقنِع للتحرّك الدولي - العربي غير المسبوق لاحتواء أزمة النظام السياسي اللبناني، سوى التحوّلات التي طرأت على موقع لبنان وجعلته لاعباً إقليمياً يُحسب له حساب؛ ويعود ذلك بصورة رئيسيّة إلى دور حزب الله والمقاومة اللبنانية في المواجهة المتشعّبة مع إسرائيل، خصوصاً منذ عملية "طوفان الأقصى" وانخراط لبنان في حرب إسناد غزة.

تتجلّى أهميّة الموقع المحوري للبنان بإزاء المنظومة الإقليمية التي تضمّ مِصر والسعودية وتركيا وإيران وإسرائيل، في التقاطع والتفاعل على أرضه بين التشكيلين النزاعيّين الرئيسيّين في الإقليم، وهما التشكيل النزاعي التقليدي العربي – الإسرائيلي والتشكيل النزاعي الإيراني – الغربي؛ وإذ يفرض النسقان ديناميّاتهما على السياسة اللبنانية، فإنّ التخطيط والممارسة السياسية في لبنان، تصبح عملية شديدة التعقيد لارتباطها بالتوازنات والتناقضات العربية والإقليمية.

إذاً، هذه الورقة تتعامل مع أزمة لبنان باعتبارها جزءاً من منظومة الصراع في الإقليم، وبالتالي لا يُمكن تصوّر علاج لعلاقة لبنان بالأزمات الإقليمية من خلال إبعاده أو فصله عنها عبر تطبيق سياسة الحياد الإيجابي، أو الحياد السلبي أو الحياد، وذلك لأن الواقع الجيوسياسي يفرض مقاربة من نوع مركّب:

– يُفترض أولاً أن نفهم الطبيعة النظامية أو “السيستامية” للصراع في المنطقة بمحوريها الرئيسيين اللذين يتقاطعان ويتشابكان في لبنان؛

– أن نُدرك ثانياً دينامية التحولات التي قد تطرأ لتضغط على المحورين المذكورين وتجعل ممكناً الفصل النسبي للبنان عن الأزمات الإقليمية تحت سقف سعودي – إيراني؛

– أن نأخذ في الاعتبار ثالثاً في التخطيط للسياسات في لبنان، أن هذه العملية تمر حكماً عبر المعادلتين العربية والدولية، وأنّ الجيوبوليتيك اللبنانية تفرض الأخذ في الاعتبار أن الأقطاب العرب لهم حصّة في هذه الجيوبوليتيك اللبنانية التي تجد توازنها عندما يكون الوضع الإقليمي العربي متوازناً؛ وفي المقابل، يختل توازنها عندما تتفاقم الصراعات الإقليمية ولا يكون الوضع اللبناني مستقراً.

إن طبيعة التوازن بين طرفي الصراع في لبنان لا تسمح بتغيير بنيوي في اللحظة الراهنة. وإذا أردنا التفكير إستراتيجياً في أزمة النظام اللبناني، يتعيّن أن نُفكّر ضمن منطق التوازن المتحرك من الخارج إلى الداخل، وليس من تحت إلى فوق

ولا بُد من الإشارة إلى أن سوريا تطمح دائماً، أيّاً تكن طبيعة النظام فيها، إلى تجاوز حصّتها في لبنان، وأنه لا مجال لاحتواء هذه النزعة التي تكشف ضعفاً بنيويّاً إلا عبر التوازن الذي يفرضه النظام الإقليمي العربي، فإذا كان هذا التوازن مفقوداً أو مُعطّلاً، فإن لبنان يكون مرشحاً لطغيان الدور السوري، كما حصل في العديد من الحقبات السياسية اللبنانية، منذ الإستقلال حتى يومنا هذا.

كما أن أي اختراق للنظام الإقليمي العربي بأدوار إقليميّة أخرى مثل الدور الإسرائيلي، أو الدَّور الإيراني، أو الدور التركي، يجب أن يؤخذ في الحسبان في التخطيط وممارسة السياسة في لبنان.

الإختلال الكبير

ما الذي تغيّر في الإقليم عقب حرب الإسناد لكي نشهد ما شهدناه من تحولات مفاجئة في لبنان، وصولاً إلى نوع من إدارة الأزمة تحت رعاية غربية – عربية، تُرجم بملء فراغ السلطة (رئاسة جمهورية وحكومة جديدة) وبقوة دفع خارجية وداخلية هادفة لتطبيق القرار 1701 وصولاً إلى تمدده نحو شمال نهر الليطاني (القرار 1559 ضمناً) وتحضير لبنان للترتيبات التي تنتظر المنطقة في المرحلة المقبلة؟

لقد نجحت الضغوط العربية – الدولية في توفير الظروف المؤاتية لانتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وذلك بعد أزمة فراغ رئاسية طويلة. ومن الواضح أن سلسلة من التطورات أعقبت حربي غزة ولبنان وتُوّجت بالتحول الذي شهدته سوريا بسقوط نظام بشّار الأسد، أنتج مفاعيل جديدة على صعيد النظام الإقليمي؛ لذلك عكست خطوة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية ملامح حقبة سياسية جديدة تتجلى فيها قدرة القوى المحليّة المتحالفة مع “الغرب الجماعي”، ولا سيّما منه أميركا وفرنسا، ومع قوى إقليمية، أبرزها السعودية، على الذهاب بعيداً في تعديل ميزان القوى، بعدما تبيّن أن قوى المعسكر الآخر القريب من المحور الإقليمي الإيراني تعرضت لضربات قاسية جداً أطاح بآليات الحرب غير المتناظرة وبتوازنات الردع القائمة منذ العام 2000 تاريخ تحرير الجنوب اللبناني حتى تاريخ حرب الإسناد في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

هذا الإختلال في موازين القوى تُرجم باتفاق وقف إطلاق النار بكل التباساته ومضامينه المُعلنة أو المُتفاهم عليها سراً بين الولايات المتحدة وإسرائيل. كما تُرجم بسقوط ترشيح سليمان فرنجية وانتخاب جوزاف عون رئيسا للجمهورية، ثم بالاتيان برئيس للحكومة غير متفاهم عليه مع “ثنائي” أمل وحزب الله وصولاً إلى فرض معادلة حكومة التكنوقراط بتمثيل سياسي وحزبي محدود، في لحظة مفصلية سترسم معالم المنطقة لعقود من الزمن.

محور المرحلة الجديدة في لبنان يدور حول “الإنقاذ والإصلاح” في ظلّ آليّة من التوازن المتحرّك بسقوف عدّة، متداخلة، غربية – عربية، إيرانية – عربية وعربية – إسرائيلية، تعمل كلّها لضبط التوازنات اللبنانية ولو بحسابات متنافرة أو متناقضة أحياناً

ميزان القوى

إنّ لبنان كان وما يزال بصيغته الطائفية السياسية شديد التأثّر بالمعادلة العربية والإقليمية من حوله، وهي حالة تفاعل قد تأخذ شكلاً مباشراً وسريعاً، بحيث أن كل تبدّل في معادلة ميزان القوى الداخلي، يكون مرتبطاً بتحوّل موازٍ في التوازنات الإقليمية، خصوصاً عندما يكون هذا التحوّل بمقياس حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على فلسطين ولبنان أو بمقياس سقوط النظام البعثي في الجوار السوري وحلول النفوذ التركي في دمشق مكان النفوذ الإيراني.

إقرأ على موقع 180  مسكين لبنان.. حكم الصبية يستجلب الوصاية

ونظراً إلى الرابطة العضوية بين لبنان وسوريا، من الصعب أن نتصوّر أن أيّ تحوّل عميق أو جذري في أيٍّ من البلدين، يمكن أن يحدث من دون أن يكون له تداعيات على البلد الآخر. وإنّ هذا العامل التكاملي بين بيروت ودمشق، سلباً وإيجاباً، كفيلٌ بأن يُبيّن مدى تأثير عملية إعادة البناء السياسية والاقتصادية في سوريا، على الأقل في جانبها المتعلّق بالنزوح السكاني نتيجةً للحرب وسياسات النظام السوري السابق على مجريات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في لبنان في السنوات وربما العقود المقبلة.

إدارة الأزمة

محور المرحلة الجديدة في لبنان يدور حول “الإنقاذ والإصلاح”، في ظلّ آليّة من التوازن المتحرّك بسقوف عدّة، متداخلة، غربية – عربية، إيرانية – عربية، وعربية – إسرائيلية، تعمل كلّها لضبط التوازنات اللبنانية، ولو بحسابات متنافرة أو متناقضة أحياناً. وهذه المرحلة يمكن أن تُدرج في إطار إدارة الأزمة على مستوى منخفض من التوتر مع إسرائيل، في انتظار تثبيت اتفاق وقف النار وإرساء القرار 1701 على قاعدة واقعية من جهة وتبلور صورة الحكم الجديد في سوريا وكيف سيتصرف مع الوقائع التي تُحاصره، ولا سيما واقع الدخول الإسرائيلي على خط التوازنات السورية الداخلية، من جهة ثانية.

في أيّ حال، إن طبيعة التوازن بين طرفي الصراع في لبنان لا تسمح بتغيير بنيوي في اللحظة الراهنة. وإذا أردنا التفكير إستراتيجياً في أزمة النظام اللبناني، يتعيّن أن نُفكّر ضمن منطق التوازن المتحرك من الخارج إلى الداخل، وليس من تحت إلى فوق.

إنطلاقاً من هذا التصوّر، لا يُمكن مقاربة أوجه الأزمة في لبنان إلا على هديِ القضايا الإقليمية الكبرى، ومنها كيفية التعامل العربي مع جموح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسيطرة على غزّة وضم الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار (الأردن ومصر والسعودية وربما لبنان) وانحسار النفوذ الإيراني في المشرق ومآلات التفاوض الأميركي – الإيراني في المرحلة المقبلة.

من هذه الزاوية، وفي ضوء المراجعات التي بدأها حزب الله لنتائج حربي الإسناد ولبنان، لعله يبادر، في هذا السياق، إلى تفكيك الجانب النزاعي للسلاح وجعله موضوعاً متصلاً بالأمن القومي اللبناني على قاعدة إدارة هذا السلاح على نحو مشترك، ما يعني أن على الحزب تجنّب تفجير حرب بقرار منفرد أو بقرار من حلفائه الإقليميين، وأن قضايا الحرب والسلام تُدار من الدولة اللبنانية ومؤسستها العسكرية.

تبدو هذه الصيغة قابلة للتطبيق على أساس تفاهم ضمني: لا عمليات للمقاومة من الجنوب؛ الجيش منتشر في مناطق عمل “اليونيفيل” جنوب نهر الليطاني؛ سلاح حزب الله تحت الأرض. ويعني الشقّ الصامت من التفاهم أن الحزب يُبقي سلاحه معه شمال “النهر” لكنه يمتنع عن القيام بعمليات تحريك أو إسناد، كما يعني التنفيذ الكامل للقرار 1701 في جنوب نهر الليطاني.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  11 سبتمبر 2001.. يوم كان العالم كله أمريكياً