أوروبا تخسر أميركا.. هل تكون من أكلة اللحوم أم النباتات؟

على مدى 80 عاماً، عاشت أوروبا تحت مظلة "السلام الأميركي"، لتستفيق على واقع جديد يفرض عليها تدبر شوونها الدفاعية بقواها الذاتية. ويهرع القادة الأوروبيون لوضع الخطط والاستراتيجيات على عجل، والتفكر في خيارات لم تكن متخيلة، قبل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منذ نحو شهرين.

الأوروبيون الذين هالهم الانقلاب المتمادي في السياسة الخارجية الأميركية، وجدوا أنفسهم مرغمين على الذهاب نحو اعادة التسلح لملء الفراغ الأميركي المتوقع في المجالين التقليدي والنووي، وعلى سلوك مسار يثبت أن القارة في امكانها أن تكون قوة جيوسياسية كبرى مستقلة عن الولايات المتحدة، للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يعني ذلك أن سياسة الأمر الواقع التي يتبعها ترامب في أوكرانيا، فرضت على أوروبا أن تتشكّل من جديد، سياسياً وعسكرياً. لذا، لم يعد انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فرضية مستحيلة. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى احتمال سحب أميركا 180 رأساً نووياً من قواعدها في ألمانيا، وأن ترفض واشنطن الاستمرار في صيانة الترسانة النووية البريطانية.

وسياسة “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً” أو “أميركا أولاً”، لا تُزعزع فقط حلف “الناتو” الذي كان الدعامة الأمنية الأساسية التي تأسست عام 1949 وقادت الغرب إلى الانتصار في الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، بل هي تنسف الدعامة الأخرى التي أرساها مؤتمر بريتون وودز عام 1944 الذي وضع قواعد للتجارة العالمية في مقدمها تعريفات جمركية متدنية. فقد أعلن ترامب الحرب التجارية على الحلفاء قبل الخصوم، معتبراً أن هذا النظام الذي كان معمولاً به منذ ثمانية عقود من الزمن جعل الدول تنهب أميركا.

بعد خطاب نائب الرئيس الأميركي جي.دي. فانس أمام مؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي، وما تلاه من اجتماع كارثي في البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وتجميد المساعدات العسكرية والاستخباراتية الأميركية المخصصة لكييف، قبل إعادة العمل بها على أثر قبول زيلينسكي باقتراح أميركي لوقف النار لمدة 30 يوماً، مضافاً إلى ذلك سيل التهديدات التي يواظب ترامب على إطلاقها بضم كندا وجزيرة غرينلاند وقناة بناما، وإقران ذلك بفرض تعريفات جمركية عالية، بعد ذلك كله، اقتنع الأوروبيون بأن الطلاق بين ضفتي الأطلسي حاصل لا محالة.

هذا التداعي في العلاقات يجعل الأوروبيين يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة، وبأن خيارهم الوحيد هو تدبر شؤونهم بأنفسهم من الآن فصاعداً. وهم أقرب الآن إلى الأخذ بمقولة أنه “إذا لم تكن جالساً إلى الطاولة، فإنك ستكون على لائحة الطعام”. والصيف الماضي، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعبيراً مشابهاً أمام قمة أوروبية في بروكسل، إذ قال إن “العالم منقسم اليوم إلى أكلة لحوم وأكلة نباتات.. فإلى متى ستبقى أوروبا من أكلة النباتات”؟

وتعبيراً عن هذه الحقيقة المرة، قالت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية كايا كالاس: “بات واضحاً أن العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد. يتعين علينا نحن الأوروبيين أن نواجه هذا التحدي”.

هذا التحدي نفسه، دفع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى اقتراح مشروع من خمسة أقسام بقيمة 800 مليار يورو لتعزيز الدفاع الأوروبي.

سياسة ترامب هي التي صنعت لحظة ماكرون. ذلك أنه بعد سنوات من التحذير الذي أطلقه الرئيس الفرنسي في شأن “الموت الوشيك” لحلف “الناتو”، بدا أنه كان تنبوئياً، بعدما أدار ترامب ظهره للحلفاء

مخاطر الانتشار النووي

 وفي سياق اندفاع أوروبا إلى التسلح، تبقى الأنظار مسلطة على فرنسا وألمانيا، الدولتان الرئيسيتان في الاتحاد الأوروبي، واللتان سيقع عليهما العبء الأكبر في الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.

ويسعى المستشار الألماني المقبل فريدريتش ميرتس بالتوافق مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي بزعامة المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتس وحزب الخضر، إلى طرح مشروع قانون على البوندستاغ هذا الأسبوع، يُحرّر الحكومة من سقف الدين المفروض على الانفاق الدفاعي في البلاد، للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وقال ميرتس خلال تقديمه المشروع الذي يتضمن رصد مئات المليارات من اليورو لإعادة التسليح: “ألمانيا عادت وهي تقدّم إسهامها الكبير في الدفاع عن الحرّية والسلم في أوروبا”. والرسالة الأبلغ، هي أن الرجل لم يستبعد بالمطلق، خلال مقابلة مع صحيفة ألمانية الأسبوع الماضي، احتمال لجوء ألمانيا إلى صنع السلاح النووي، في حال نقلت أميركا قنابلها النووية من القواعد الألمانية.

في هذا المجال، حريٌ بالذكر، أنه خلال فترة “السلام الأميركي”، حمت المظلة النووية الأميركية الحلفاء، ما أدى إلى تقليل حوافز الانتشار النووي. وبما أن هذه الحماية باتت غير جديرة بالثقة، فستواجه البلدان خياراً صارخاً: إما تطوير أسلحة نووية أو القبول بموقف الضعف. ومن المرجح أن تكون النتيجة سلسلة من الانتشار النووي، مما يزيد من خطر سوء التقدير والحوادث واندلاع سباقات التسلح الإقليمية.

وها هنا تبرز دعوة ماكرون إلى فتح “نقاش استراتيجي” حول مسألة ملء الفراغ النووي الأميركي، من دون استبعاد أن تشمل قوة الردع النووية الفرنسية، التي يقدر بأنها تضم ما بين 400 و500 رأس حربي، تطلق من مقاتلات أو غواصات، ألمانيا ودولاً أوروبية أخرى. لكن سرعان ما تقفز إلى الواجهة مشكلة أساسية عندما يحين السؤال مَن سيمتلك قرار استخدام هذه الترسانة: فرنسا أم الدول التي من المحتمل نشر الرؤوس الفرنسية فيها؟

إقرأ على موقع 180  أشباحُ الخطر تُخيّم على الشرق الأوسط

أما رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك فلديه وجهة نظر أخرى، عندما يخاطب البرلمان في وارسو قائلاً: “لو كانت لدينا أسلحة نووية خاصة بنا، لكنا أكثر أماناً”. والرئيس البولندي أندريه دودا اتخذ خطوة متقدمة بدعوته أميركا إلى نشر رؤوسها النووية التكتيكية في بلاده في حال قرّرت سحبها من ألمانيا.

الموت الوشيك لـ”الناتو”!

وينهمك ماكرون في اجتماعات مع نظرائه الأوروبيين لاستكشاف آفاق التوصل إلى دفاع أوروبي مستقل عن أميركا. ومن هنا اتفق مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر على انشاء قوة حفظ سلام مشتركة ترسل إلى أوكرانيا لضمان أي تسوية محتملة.

والثلاثاء الماضي، استقبل ماكرون قادة عسكريين من نحو 30 دولة اجتمعوا في باريس لحضور مؤتمر الدفاع والأمن، حيث طلب المزيد من الالتزامات حيال أوكرانيا. وفي إجراء غني بالدلالات، أجرت الدول الأوروبية الأعضاء في “الناتو” مناورات الشهر الماضي على مسافة أميال فقط من أوكرانيا، من دون مشاركة أميركية.

يُلخّص الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في مقال نشره في مجلة “الإيكونوميست” البريطانية المرحلة التي تمر بها العلاقات الأوروبية-الأميركية بالقول: “لنكن واضحين، بينما الشعب الأميركي ما يزال صديقاً لنا، فإن إدارة ترامب لم تعد حليفتنا”!

ولاحظت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، أن ماكرون الذي غيّبته التطورات التي أعقبت الانتخابات التشريعية المبكرة الصيف الماضي، لما أفرزته من برلمان منقسم بحدة وحكومات غير مستقرة ودعوات إلى استقالة الرئيس، عاد اليوم ليتحول نقطة ارتكاز في قيادة أوروبا في المرحلة المقبلة. وبذلك تكون سياسة ترامب هي التي صنعت لحظة ماكرون. ذلك أنه بعد سنوات من التحذير الذي أطلقه الرئيس الفرنسي في شأن “الموت الوشيك” لحلف “الناتو”، بدا أنه كان تنبوئياً، بعدما أدار ترامب ظهره للحلفاء.

هل يقود كل هذا الحراك الأوروبي المحموم إلى بروز القارة كقوة عظمى مستقلة وفق ما يطمح إليه البعض؟

من البديهي القول إن القارة القديمة التي أصابتها سياسة ترامب بالذعر، ترى نفسها في خضم مرحلة انتقالية، وتتطلع بحذر إلى ما ستتمخض عنها الجهود الأميركية المبذولة لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية، وإلى أي مدى يمكن أن تتطور العلاقات الأميركية-الروسية في حال وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اقتراح ترامب بوقف النار 30 يوماً مع أوكرانيا.

إدارة ترامب “لم تعد حليفتنا”!

هل يمكن لأوروبا أن تدافع عن نفسها في مواجهة روسيا، من دون الحصول على مساعدة من الولايات المتحدة؟

كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في تقويم لها لمثل هذا الموقف قائلة: “تفتقر أوروبا إلى دفاعات جوية مهمة وإلى قدرات استخباراتية، لكن جيوشها تُشكّل معاً قوة جوية هائلة وبحرية ضخمة وجيش مخيف.. والقوات البرية التي تراجعت امكاناتها بعد الحرب الباردة، يُعاد بناؤها تدريجياً ويضاف إليها تجهيزات متقدمة”.

وتملك الجيوش الأوروبية حالياً خمسة آلاف دبابة و2800 مدفع ذاتي الحركة في مقابل امتلاك روسيا ثلاثة آلاف دبابة هي ما تبقى لها بعد خسائرها في أوكرانيا، وتمتلك من المدفعية ما يعادل العدد الموجود في أوروبا. واستناداً إلى المعهد الدولي للدراست الاستراتيجية، فإن الدول الأوروبية لديها 2000 مقاتلة في مقابل ألف مقاتلة موجودة في روسيا. ويرى المعهد أن روسيا خسرت طائرة من كل خمس طائرات أرسلتها في مهمات إلى أوكرانيا.

لعل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند في مقال نشره في مجلة “الإيكونوميست” البريطانية يُلخّص المرحلة التي تمر بها العلاقات الأوروبية-الأميركية بالقول: “لنكن واضحين، بينما الشعب الأميركي ما يزال صديقاً لنا، فإن إدارة ترامب لم تعد حليفتنا”!

هي مرحلة إنتقالية على مستوى النظام الدولي بأسره، كما على مستوى العلاقات الأميركية-الأوروبية، لكن هل سيكون مسارها ثابتاً أم أنه قابل للمفاجآت؟

مع دونالد ترامب يُمكن توقع كل شيء.. وخصوصاً غير المتوقع!

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ما بعد أوديسا.. روسيا و"الناتو" وجهاً لوجه في مولدافيا!