

1-إنَّ الأميركيينَ لا يُفاوضونَ بل يَسْعَوْنَ إلى إخضاع الإيرانيين، ومَن معَهم في تقاطعِ العلاقاتِ التي تمتدُّ من طهران إلى روسيا والصين وأميركا اللاتينية.
2-إنَّ العدوَّ الصهيوني كان موجوداً في كل حلقات التفاوض بغطاء أميركي مدروس في دهاليز الدولة العميقة.
3- إنَ الاتحاد الأوروبي كان خارج المشاركة في مسرح المفاوضات، لكنه كان ينتظر الفرصة لإعلان المزيد من تبعيّتِه للولايات المتحدة، فما إنْ وقعَ العدوان الإسرائيلي حتى سارعَ مثلّث الاتحاد: الفرنسي – البريطاني – الألماني إلى إعلانه تأييدَ ما يُسمّيهِ زوراً “حقَّ إسرائيل في الدفاع عن النفس”.
إزاء ذلك أصيب ترامب بصدمةٍ. لم يَخْضَعِ الإيرانيُّون. رفضُوا الشروط الأميركية، لكنَّهم أحْرجُوا إدارةَ البيتِ “الأبيض” أمام الرأي العالمي لأنهم لم يُمارسُوا الرفضَ الجامدَ بل رفضُوا وقدَّمُوا بدائلَ مرِنة. بدائل جدّية لا يستطيعُ الطرفُ الأميركي أن يُبرِّر رفضهُ إيَّاها أمام العالم. هنا سجَّل الإيرانيون نقطةً ذكيةً في التفاوض، فهم يُتقنونَ لعبةَ الشِطرنج أكثر مما يعرفُها المفاوض الأميركي الذي انسحب من الكلامِ ولجأ إلى إعطاء نتنياهو موافقته على شنِّ العدوان. وهذا الأخير الذي كان يتحدَّث منذ ثلاثين عاماً عمَّا يسمِّيه “ضرورة ضرب إيران لا البرنامج النووي وحده”، وَجَدَ ضالـَّـتهُ في هذه اللحظة. إنَّهُ مأزومٌ في الداخل بسببِ انسدادِ أفقِ حربِه على غزَّة والضفَّة. لذا فتح الحربَ على إيرانَ إمعاناً في هربهِ إلى الأمام من أجل هدفينِ عنده: الأول تنفيذ الخطط القديمة لضرب إيران؛ والثاني بقاؤُهُ في السلطة. وكلاهما بموافقة أميركيةٍ، ولا سيَّما في مضمون الهدف الأول، لجهة السعْي إلى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية ، ومحاولة إعادة إيران إلى دور الشرطي الأميركي – الغربي – الإسرائيلي في منطقة الشرق.
هذه الحربُ أطلقتها واشنطنْ وتل أبيبْ مُوسَّعةً من الأصل. إنها حرب عالمية في نطاقِ إقليمٍ هو الأكثر خُطورةً وحساسيةً ومعانيَ إستراتيجيةً بين أقاليم الكرة الأرضية. وعندما ننظرُ إلى خريطة الصراعات الراهنة في العالم نتأكَّد من ذلك، فإيران تقعُ في قلبِ خطِّ الاتصالِ بالصين وروسيا، وتُحاذي باكستان الدولةَ النوويةَ الإسلاميةَ، وتُطِلُّ على الخليجِ والبحرِ الأحمر، وتستطيعُ إغلاق مضيق هرمز، والتأثير في مضيق باب المندَب، ولها حلفاء في العراق واليمن وبلاد الشام، وعلاقات جديدة إيجابية مع مصر، فضلاً عن حدودٍ مشتركةٍ مع تركيا حيث تتبادلان التأثُّرَ والتأثيرَ مهما تكنِ العلاقاتُ بينهما سلبية أو إيجابية.
هذه هي أمامنا الخريطة الجغراسِيَّة والثقافيَّة والاقتصادية والدينيَّة للحرب على إيران. ليس سهلاً على “إسرائيل” أن تحقِّق نصراَ على هذا القوسِ المتنوِّع ِكلِّه. وليس صعباً أبداً على إيرانَ أن تُفْشِلَ أهدافَ الحرب. هذا القوس هو الأخطر بين كلِّ الأقواس الإقليميّة في العالم. يأتي قبل القوس الروسي – الأوكراني – الغربي. والحرب فيه لها بعدٌ عالمي مباشر، فالاقتصادات فيه كبيرة وصاعدة (ولا سيما الصين)، والملاحة البحريَّةٌ هائلة الاتساع من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي إلى البحر المتوسِّط وإلى المحيط الأطلسي، والثروات أكبر من أن توصفَ، وتنوُّع الثقافات والهويّات رحبٌ جدَّاً إذْ تتقاطع فيه الخطوط الكبرى بين الإسلام والكونفوشيَّة والأرثوذكسية.
إذا انتهت الحرب غداً أو بعد سنين فلا فرقَ، ذلك أنَّ نتائجَها هي التي ستحدِّدُ – معَ الحربِ في أوكرانيا – طبيعة النظام العالمي الجديد. إننا نعيش الآن مرحلة تحلُّلِ النظام العالمي الذي أعقب الحربين العالميتين الأولى والثانية. لم تعدِ إمبراطوريةُ الولايات المتحدة قادرةً على الاستمرار الأحادي في القيادة الدوليّة، ولم يعُدْ بمستطاع ربيبتها “إسرائيل” تبرير الجرائم التي ترتكبها، وفقدت الأمل بالقضاءِ على الشعبِ الفلسطيني، فهرب الطرفان الأميركي والإسرائيلي إلى الأمام عبر الحرب الدائرة حالياً على إيران. هذا الهربُ الدمويُّ أمرٌ معروفٌ تاريخياً فالدولُ عندما تستشعرُ اقترابَ سقوطها تقدمُ على مغامراتٍ جنونيّة أثبتت التجارب أنَّها لا تنقذُها. وهكذا فالولاياتُ المتحدة إمبراطوريةٌ في طريق الزوال، والكيان الإسرائيلي جسمٌ غريب في طريق الانحلال.
هذه الصورة تدفعُنا إلى السؤالِ عن المواقف الرسمية العربية؟ المناخُ العربيُّ العامُّ، وبغالبيتهِ الساحقةِ، اختارَ التبعيّةَ الكاملةَ لواشنطن وإسرائيل؛ كلام دبلوماسيٌ مطَّاط في العلن، أمَّا في الخفاء فتمنيّاتٌ بانتصارٍ أميركي – إسرائيلي. وهذا في منتهى قُصر النظر والحقد والعناد والخوف من الشعوب، فضلاً عن دفعِ الأموال العربية التي تستثمِرُها أميركا في دعم إسرائيل. ولقد بات واضحاً منذ الآن أنَّ غالبية الدول العربية ستصبحُ أشدَّ هامشيةً في الساحة الدولية المقبلة كيفما كانت نتائج الحرب، ما لم تستدركْ فتصحِّح قبل أن تأتي مرحلة المزيد من التفكيك.
إنَّنا أمام حروبٍ إقليمية – عالمية، والحرب على إيران جزءٌ أساسيٌ منها. وعندما ننتبه إلى المعنى الإستراتيجي لموقع إيران الجغرافي على أبواب الصين وروسيا ندرك جيداً أنَّ العالم يشهدُ دفعةً جديدةً نحو تحوُّلاتٍ باتجاه إسقاط المنظومة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.