لبنان أمام أيام مفصلية.. هل تنتصر التسوية الداخلية أم الإملاءات الخارجية؟

يدخل لبنان مع نهاية الشهر الحالي مرحلة مفصلية من تاريخه الحديث من شأنها أن تُحدّد مصيره وهويته، فمع مطلع شهر سبتمبر/أيلول المقبل يُفترض أن تُقدّم قيادة الجيش اللبناني خطتها لتفيذ قرار الحكومة اللبنانية القاضي بحصر السلاح الذي تُصنفه بأنه غير شرعي، في اشارة إلى سلاح المقاومة. وفي نهاية الشهر الحالي، يُفترض أن يُقرّر مجلس الأمن صيغة التمديد لقوات الطوارىء الدولية المؤقتة العاملة في لبنان (اليونيفيل).

هذان القراران (حصر السلاح والتمديد لليونيفيل) يضعان لبنان على سكة مستقبلية تُحدّد ما إذا كان سيتحول مجدداً إلى أرض مستباحة للعدوان “الإسرائيلي”، معطوفاً على انفجار داخلي ينجم عن اصرار الحكومة على تنفيذ قراره حصر السلاح بالقوة، علماً أن “إسرائيل” لم تلتزم بوقف عدوانها بعد اتفاق وقف اطلاق النار الذي توصلت إليه مع الحكومة اللبنانية بصورة غير مباشرة وبرعاية أميركية فرنسية في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بل هي أمعنت في خرق الاتفاق عبر التقدم برياً واحتلال المزيد من الأراضي وواصلت عمليات الاغتيال وشن الغارات الجوية على مختلف الأراضي اللبنانية.

اليونيفيل.. وفرنسا

للمرة الأولى منذ انتشار قوات اليونيفيل في لبنان في مارس/آذار عام 1978 يطرح موضوع إنهاء عمل هذه القوات في لبنان بصورة نهائية. ويكتسب هذا الطرح أهميته من كون الجهة التي تتبناه هي الولايات المتحدة الأميركية التي تساهم بنحو 28 بالمئة من الموازنة المالية لهذه القوات البالغة حوالي 486 مليون دولار.

ويُشكّل الطرح الأميركي تغطية دبلوماسية لطلب “إسرائيل” التي تقول إن اليونيفيل لم تنجح في كبح جماح المقاومة في جنوب لبنان وبالتالي من غير المجدي مواصلة صرف كل هذه الأموال بلا طائل. غير أن حقيقة الأمر أن “إسرائيل” التي تمكنت خلال 66 يوماً من حربها البرية مع المقاومة خلال العام الماضي من توجيه ضربات قاسية للمقاومة وباتت ترى أن ضمانتها لتثمير هذه الضربات تكمن في خلق منطقة عازلة في القرى الحدودية في جنوب لبنان مع تثبيت وجود جيشها في عدة مواقع في هذه القرى، وأن من شأن ذلك أن يُطلق يدها في ضم هذه القرى لاحقاً للكيان “الإسرائيلي” كما فعلت في مرتفعات الجولان السورية المحتلة وفي القدس الشرقية وفي معظم أراضي الضفة الغربية المحتلة.

أما المقاومة، فإنها ترى أن اليونيفيل، وعلى مدى سنوات انتشارها في جنوب لبنان منذ العام 1978، كانت تُقدم خدمات مجانية للاحتلال “الإسرائيلي”، فضلاً عن أنها لم تمنع يوماً الاعتداءات “الإسرائيلية” المتكررة على لبنان. أما كونها شاهداً دولياً على انتهاكات “إسرائيل” للسيادة اللبنانية؛ هذه الشهادة لم تثمر مرة واحدة بفعل الغطاء الذي تُوفره الولايات المتحدة لهذه الاعتداءات. لذلك تعتبر المقاومة نفسها غير معنية بالتمديد لليونيفيل أو عدمه، لا بل إن عدم التمديد يطلق يدها في إعادة تنظيم وضعها في جنوب لبنان، على قاعدة أن مقاومة الاحتلال حقٌ مشروعٌ وفق كل المواثيق الدولية. أما الموقف الرسمي اللبناني فهو يتمسك بالتمديد لليونيفيل لاعتبارين، الأول، أن وجود شاهد دولي على مواصلة العدوان “الإسرائيلي” هو أمرٌ مهمٌ للحفاظ على السيادة اللبنانية؛ الثاني، استثمار المساعدات الانسانية التي تقدمها هذه القوات للمجتمع المحلي في الجنوب.

والجدير ذكره أن انتشار ما يُقارب من 11 ألف جندي دولي من 49 دولة في العالم في جنوب لبنان يجعل من هذه القوات أكبر رب عمل بعد الدولة اللبنانية في تلك المنطقة، إذ يعمل في اليونيفيل حوالي 570 موظفاً مدنياً لبنانياً معظمهم من أبناء القرى الجنوبية، كما يعمل أيضاً حوالي 300 موظفاً مدنياً دولياً يسكنون مع عائلاتهم على الأراضي اللبنانية، يضاف إلى ذلك أن الأمور اللوجستية للقوات الدولية يتم شراؤها من السوق اللبنانية (محروقات، مواد غذائية، إلخ..) ناهيك عن المشاريع الإنسانية التي تُقدّمها اليونيفيل وتبلغ قيمتها السنوية قرابة السبعة ملايين دولار.

وتلخيصاً لما سبق، فإن الدفع الأميركي و”الإسرائيلي” لإنهاء عمل اليونيفيل يقابله إصرار رسمي لبناني على التمديد لها وعدم اكتراث من جانب المقاومة، مع الإشارة إلى أن فرنسا تُشارك الدولة اللبنانية موقفها المتمسك ببقاء اليونيفيل في لبنان كآخر مؤشر لنفوذها في لبنان في ضوء تراجع حضورها في الشرق الأوسط ولبنان.

والجدير ذكره أن هناك كتيبة فرنسية عاملة تحت علم اليونيفيل وتضم في صفوفها أكثر من 800 جندي ناهيك عن كون رئيس أركان اليونيفيل ونائب رئيس البعثة والمسؤول السياسي فيها من حملة الجنسية الفرنسية. وبسبب مهمة الكتيبة الفرنسية كقوة احتياط لقائد اليونيفيل فإن نطاق عملياتها يشمل كل منطقة عمل اليونيفيل في جنوب لبنان من نهر الليطاني شمالاً إلى الخط الأزرق جنوباً.

ومن المرجح أن تفضي المشاورات خلال أيام في مجلس الامن الدولي إلى تسوية تقضي بالتمديد لليونيفيل لعام واحد (وهنا يجدر الذكر أن مجلس الامن وعلى مدى عمر اليونيفيل كان يُجدّد لعمل هذه القوات لسنة واحدة في كل مرة) مع التوجه لخفض عديدها إلى ما يقارب الستة آلاف جندي والاستعاضة عن النقص الناجم عن هذا التخفيض باستخدام كاميرات المراقبة المتطورة إلى جانب المُسيّرات، وكلاهما بادارة غرفة عمليات في مقر قيادة اليونيفيل في بلدة الناقورة الحدودية. وبطبيعة الحال فإن تخفيض عدد الجنود سيؤدي إلى تخفيض عدد الموظفين المدنيين، علماً أنه يوجد أكثر من 110 موظفين لبنانيين يعملون بصفة مترجمين.

إقرأ على موقع 180  القضاء اللبناني والراهبتان.. والإنتفاضة والإعلام

الشرطي الطيب والشرطي القاسي

وماذا عن الموضوع المتعلق بقرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية؟

لا بد من العودة إلى الوراء قليلاً لرصد ما حصل في اجتماعي الحكومة اللبنانية في الخامس والسابع من أغسطس/آب الجاري واللذين انتهيا إلى اصدار القرار، فوزراء كل من حزب الله وحركة أمل انسحبا من اجتماعات الحكومة حينها ليصدر القرار من دون وجودهم، ما يُثير اشكالية بشأن ميثاقية القرار بسبب غياب تمثيل مكون طائفي عن اجتماعات الحكومة. وهنا كال رئيس مجلس النواب نبيه بري وحليفه حزب الله الاتهامات إلى رئيس الجمهورية جوزاف عون بالانقلاب على اتفاق مسبق عقد معه بعدم صدور هكذا قرار في الحكومة وبأن يُصار إلى تأجيل الموضوع لوقت لاحق، كما اتهما عون ورئيس الحكومة نواف سلام بالخضوع للإملاءات الأميركية من دون الأخذ بالاعتبار المصلحة الوطنية. ويستدلا على ذلك بالبيانين المنفصلين اللذين صدرا عن كل من عون وسلام وتضمنا إشارة واضحة إلى أن القرار هو تلبية لـ”الأهداف الواردة في الورقة الأميركية” التي قدّمها المبعوث الأميركي توم برّاك للمسؤولين اللبنانيين.

وتصف أوساط مقربة من الحليفين، حزب الله وحركة أمل، ما فعله عون وسلام بأنه أشبه بالخديعة التي تنجم عن لعبة “الشرطي الطيب” و”الشرطي القاسي” (Good cop, bad cop) التي نشاهدها في الافلام الأميركية، ويلعب عون في هذا الاطار دور “الشرطي الطيب” فيما يلعب سلام دور “الشرطي القاسي”. وبذلك يكون عون قد خسر الموقع المتمايز الذي كان يحتله عند الحليفين، كما ترى هذه الأوساط أن القرار الحكومي قد رمى كرة النار في حضن قيادة الجيش اللبناني. وهنا تكمن خطورة القرار، كونه يُحوّل الأزمة من صراع بين لبنان والعدو “الإسرائيلي” إلى أزمة بنيوية داخلية قد تطيح بوحدة البلاد. فتركيبة الجيش في إطار النظام السياسي الطائفي في لبنان وقدرات الجيش العسكرية المحدودة لا تسمح له بخوض مواجهة مسلحة مع مكون طائفي بأكمله له تمثيله الوازن في مجلس النواب والحكومة وينتشر على امتداد جغرافية البلاد من جهة وله حضوره في المؤسسة العسكرية على مختلف مستوياتها (أفراداً ورتباء وضباطاً). أمام هذا الواقع، سارع قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل إلى عقد لقاءات مع الرئيس بري وممثلين عن حزب الله طمأن فيها “الثنائي” بعدم استعداد المؤسسة العسكرية الانخراط في مغامرة نزع سلاح المقاومة بالقوة وبأنه يشترط لتنفيذه قرار الحكومة الحصول على غطاء سياسي من كل مكوناتها.

تسوية أو المجهول!

لقد قال الرئيسان عون وسلام للمبعوث الأميركي توم برّاك أنهما بالقرار الحكومي قدّما الخطوة الأولى على طريق تسوية الأوضاع مع “إسرائيل” ويتوقعا أن تُقابل خطوتهما هذه بخطوة مقابلة من جانبها، ولكن كل ما تسرّب في الإعلام “الإسرائيلي” يشير إلى أنه لن تكون هناك خطوة مقابلة بمستوى الخطوة اللبنانية، علماً أن لبنان قدّم أيضاً خطوة أخرى باطلاق سراح مواطن عربي يحمل الهوية “الإسرائيلية” ومجند احتياط في الجيش “الإسرائيلي” سبق أن اعتقلته مخابرات الجيش اللبناني في جنوب لبنان في العام الماضي وذلك من دون أي مقابل، علماً أن هناك 19 أسيراً لبنانياً كان الجيش “الإسرائيلي” قد اعتقل معظمهم بعد اتفاق وقف اطلاق النار في خريف العام 2024.

هذا التعنت “الإسرائيلي” بمواصلة احتلال أراضٍ لبنانية وعدم اطلاق الأسرى اللبنانيين وعدم السماح لأهالي الجنوب في قرى الحافة الأمامية بالبدء بإعادة بناء منازلهم، هذا كله من شأنه أن يُقدّم للرئيسين عون وسلام فرصة للخروج من مأزق القرار الحكومي الذي حدّد نهاية الشهر الحالي مهلة زمنية للجيش لتقديم خطته لنزع السلاح كما حدّد نهاية العام الحالي موعداً للانتهاء من تنفيذ هذه الخطة.

هل يستفيد الرئيسان من هذه الفرصة؟

من المستبعد ذلك في ضوء واقع الوصاية الأميركية على لبنان ومواقف الوفد الأميركي الذي يزور لبنان حالياً، وبالتالي صارت خارطة الطريق الأميركية الإسرائيلية واضحة المعالم: لا انسحاب إسرائيلياً ولا وقف للنار ولا ضمانات للبنان إلا إذا بدأت الحكومة اللبنانية بتنفيذ قرار نزع السلاح.

في المحصلة، إذا كان هناك مشروع قابل للتسوية والتطبيق في موضوع التمديد لليونيفيل، فإن القرار الحكومي صار أكثر تعقيداً؛ لذا، ليس أمام الرئيسين عون وسلام سوى التمسك بالوحدة الوطنية بين كل مكونات الشعب اللبناني وإن كانت كلفة ذلك تحمل المزيد من الضغوط الأميركية و”الإسرائيلية” التي لن تتوقف مهما قدّمت الحكومة اللبنانية من تنازلات مجانية.. إذا لم يحصل ذلك، فإن الأمور تتجه نحو المحظور والمجهول.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "الغاز" و"عُقَد" العَقد المصري.. استجرار "التطبيع"!