

تفوّقت اليابان في صناعة رقائق السيليكون، وتفوّقت هولندا في صناعة آلات طباعة البرامج على تلك الرقائق، وتفوّقت أميركا والصين في وضع برامج المعلوماتيّة لهذه الرقائق. وطوّرت كل من تايوان وكوريا صناعة الرقائق الإلكترونيّة المتطوّرة الجاهزة للاستعمال في سلع وبرامج المعلوماتيّة والذكاء الإصطناعي. يدخل في إنتاج السلع عالية التقانة عدد متزايد من الشركات المعولمة في الدول والقارّات كافة. كما أن معظم السلع العالية التقانة تحتاج إلى عددٍ متزايد من المعادن والمعادن النادرة، المنتشرة في مناطق متباعدة في العالم، تدخل في إنتاجها وتطويرها تقنيّات جديدة وسريّة في معظم الأحيان. تُنتج الصين معظم المعادن النادرة، بل تتحكّم في إنتاجها وتصديرها. كلّ ذلك يجعل من التكامل الأفقي في الصناعات الكبرى، وبخاصّة في صناعات السلع عالية التقانة، أمراً حتميّاً ولا مهرب منه. حتّى صناعة السيّارات، التي تدخل فيها تقنيّات المعلوماتيّة المتقدّمة، وبسبب التفاوت في كلفة الإنتاج بين الدول، أصبحت تعتمد على عديدٍ من المصانع المتناثرة في دول العالم. أمّا صناعة السيّارات الكهربائيّة فتتّجه نحو التكامل العمودي نتيجة التوتّرات التجاريّة على الصعيد العالمي. لكنّ صناعة البطّاريات الملائمة للسيارات الكهربائيّة جعلت الصين تتحكّم بهذه الصناعة المتقدّمة وتنتج حوالي 80% من البطّاريّات في العالم. كما أن نمو الأسواق الماليّة وإدراج مؤسّسات الإنتاج الكبرى في الأسواق الرأسماليّة (البورصات) في العديد من الدول والقارّات يجعل من الصعب تحديد “هويّة” بعض الشركات ومعرفة مالكيها الحقيقيّين، حيث توزّع أسهم هذه الشركات في معظم أنحاء العالم ويتم تداول أسهمها يوميّاً في الأسواق. أوجبت تطوّرات العولمة ظهور سلاسل الإمداد التي تؤمّن مدخلات الإنتاج من المواد والسلع نصف المصنّعة، وفي الوقت المطلوب، بحيث تقلّص الشركات مخزوناتها من مدخلات الإنتاج.
إنّ تراجع القدرات التنافسيّة الأميركيّة النسبيّة على الصعيد العالمي، وتصاعد عجوزاتها التجاريّة والماليّة، دفعها الآن للعودة عن سياسات العولمة، إلى حماية مؤسّسات الإنتاج لديها وحماية أسواقها بأسوار مرتفعة من الضرائب الجمركيّة. يبدو أن التراجع عن العولمة والعودة إلى الحمائيّة أصبح شبه مستحيل، ولن يخدم مصالح أميركا الاقتصاديّة والسياسيّة. أصبح من شبه المستحيل عودة مؤسّسات الإنتاج إلى سياسة التكامل العمودي، أي أن تصنع الشركات كلّ مدخلات إنتاجها؛ كما أصبح من الصعب جدّاً أو من المستحيل حتى استعادة شركات الإنتاج المهاجرة إلى السوق الأميركيّة وإجبار شركات صناعة مدخلات الإنتاج غير الأميركيّة إلى الإنتاج في السوق الأميركيّة عالية الكلفة من حيث اليد العاملة وكلفة العقارات. وما التذرّع “بالأمن القومي” ووصف عجز ميزان المدفوعات مع بعض دول العالم بـ”سرقة أميركا” ومعاقبة “السارقين” اقتصاديّاً، وبعد تدنّي نصيب أميركا كثيراً من التجارة العالميّة، وتدنّي إنتاجها كنسبة من الإنتاج العالمي، وتراجع نصيب الدولار في العملات والاحتياطات العالميّة، جعل من الصعب تمكّن أميركا من معاقبة العديد من دول العالم بالمقاطعة الاقتصاديّة وبفرض رسوم مرتفعة على صادراتها. أصبحت سياسات العقاب والحصار الأميركيّة تستدعي ردوداً مماثلة من الدول الأخرى المستهدَفة بعقوباتها. إنّ هذه السياسات أصبحت ترتدّ على الاقتصاد الأميركي وقدراته الإنتاجيّة وتعمّق أزماته الاقتصاديّة والسياسيّة.
ثقافة العنف الأميركيّة
تميّزت الثقافة الأميركيّة المعاشة بالعنف والقسوة. اتّسم التاريخ الأميركي بالعنف الدموي القاتل. استمرّت حروب الإبادة الأميركيّة ضدّ الشعوب الهنديّة لقرون. اعتمدت الزراعة الأميركيّة على عمل الرقيق؛ على خطف الشباب الإفريقي ونقله إلى سوق النخاسة في أميركا. ثم كانت حروب التوسّع الأميركيّة للسيطرة على شمال القارة. لم تكن ثقافة العنف الأميركيّة مجرّد نقل تراث أوروبّي، بريطاني بشكل خاص، بل إن التاريخ الأميركي أضاف الكثير لهذا التراث.
ما زال الشعب الأميركي كثير التديّن. ارتفعت نسبة الملتزمين دينيّاً (أي الذين يمارسون الطقوس الدينيّة) من 17% سنة 1776 إلى 65% سنة 1990. كان العنف الأميركي يزداد مع ارتفاع نسبة المتديّنين. دعت المسيحيّة المشرقيّة المنبت إلى السلام والمحبّة، وكانت على نقيض مع اليهوديّة وأخلاقيّات كتب العهد القديم. لم يبق للتراث المسيحي المشرقي من أثرٍ في تراث الشعب الأميركي المُعاش. تمّ توظيف الإيمان الديني في تبرير ممارساتهم الوحشيّة، وبخاصّة في إبادة الشعوب الهندية المسالمة. حمّلوا الله قرار إبادة هذه الشعوب. هم “شعب الله المختار” الذي أوكل الله إليهم تنفيذ إرادته في إعادة صياغة العالم و”تمدين” الشعوب “المتوحّشة”. ربما كان للنظام الرأسمالي الأميركي المتطرّف دوراً في تغذية ثقافة العنف. يقول صحافي أميركي إن “في الولايات المتّحدة ديناً مميّزاً من حيث المنبت عن كلّ المذاهب المسيحيّة، وإنّه منذ القرن الثامن عشر والبروتستانتيّة الأنغلوسكسونيّة تبتعد عن أشكالها المؤسّساتيّة، إلى أشكال جديدة توصي بالنّزعة الفرديّة، ثم تعيد صناعتها لتناسب مجتمعات لا تعبد إلا السوق” (منير العكش ص. 177).
عملت الكوابح السياسيّة والاجتماعيّة للرأسماليّة إبان ثلاثينات القرن الماضي (عبر الركود الكبير) على التخفيف من وحشيّة النظام، عبر “الصفقة الجديدة”، لمنع انفجار ثورة الجياع والعاطلين عن العمل. لكن بعدما خرجت أميركا من الحرب العالميّة الثانية ومن مرحلة الركود الكبير بقدرات إنتاجيّة هائلة وثروات ضخمة، انقضّت على القوى العاملة، وبخاصّة تلك التي لديها توجّهات يساريّة، وأُطلِقت المكارثيّة كأداة إرهابٍ سياسيّ وأمنيّ وفكريّ، فأعادت للرأسمالية الأميركيّة وحشيّتها المطلقة.
العامل وفخ المديونية
عرّت الرأسماليّة الأميركيّة العامل من كلّ حماية له، ثقافيّة كانت أم حقوقيّة أم اجتماعيّة. رمته عارياً أمام دكتاتوريّة رؤوس الأموال، خائفاً من فقدان مصدر رزقه دون سببٍ أو خطأ ارتكبه. غرس النظام الأميركي (عبر الإعلام المكثّف) في عقل الفرد الأميركي أن “الدولة الحاضنة” تناقض رجولته أو تنتقص منها، ولا تتلاءم مع مثله الأعلى في الرجولة (كما في ترويج صورة راعي البقر الأميركي، الفرد الحرّ الواثق من نفسه، الذي يواجه الصعاب ويتغلّب عليها، ولا يحتاج إلى مساعدة أحد أو إلى دولة حاضنة، فهو ليس طفلاً أو عاجزاً)، وحثّه النظام على الاستهلاك، وعلى مزيد من الاستهلاك. يمثّل الاستهلاك قاطرة النمو الاقتصادي. زيادة الاستهلاك تعني زيادة الطلب ثم زيادة الإنتاج في اقتصادٍ تشكّل فيه السلع المستوردة نسبة متدنّية من مجمل الاستهلاك الوطني. لكنّ رفع معدّلات الاستهلاك يعني رفع الرواتب والأجور الحقيقيّة، وهذا يستدعي إعادة توزيع الإنتاج الوطني لصالح القوى العاملة. هذا ما ترفضه رؤوس الأموال. إن زيادة الاستهلاك تتحقّق عبر الاستدانة، عبر البيع بالتقسيط لسلع الاستهلاك المعمّرة خاصّة، وعبر الرهن العقاري وبطاقات الائتمان، وهذا في صالح رؤوس الأموال، حيث تبلغ مثلاً الفائدة على بطاقات الائتمان أكثر من 20%.
رفع الاستهلاك بالدّيون دفع بالعامل الأميركي إلى فخ المديونيّة الدائمة. يعمل ويكّد لساعات طويلة ليتمكّن من خدمة ديونه ومن دفع فواتير آخر الشهر. إن لم يفعل، فقد ممتلكاته ومركزه الاجتماعي وربّما رُمي إلى الشارع، مجرّداً من كل ما يملك من سلع لم يسدّد كامل قيمتها بعد. يعيش المواطن الغارق في المديونيّة خوفاً دائماً من فقدان عمله أو من عجزه عن خدمة مديونيّته.
يعيش العامل الأميركي أيضاَ محاطاً بثقافة العنف. الخوف يثير العنف لدى الإنسان. برامج التلفاز فيها الكثير من العنف والوحشية، وكذلك الرياضة الأميركيّة، مثل المصارعة والملاكمة. حتّى كرة القدم الأميركيّة تتسم بالعنف. وهناك الخوف من “الشارع” حيث يمكن أن يتعرّض إلى العنف، عنف الشرطة أو عنف اللصوص. الخوف من العنف يستدعي طلب القوّة وتمجيد القوّة. يعبّر العامل الأميركي عن غضبه بالرقص العنيف وبالموسيقى الصّاخبة؛ يمجّد القوّة، بل يتعبّدها. يمجّد أبطال الحروب ومجرمي الحروب؛ يمجّد فيهم القوّة التي يفتقدها. أصبح امتلاك السلاح الفردي حاجةً نفسيّة لديه. السلاح يعطي حامله القوّة، والقوّة تطرد الخوف وتحضّ على العداء. ربّما خرج الانسان، نتيجة أزماته، إلى الشارع شاهراً سلاحه ليمارس العنف والقتل ضدّ من لم يؤذه ولم يعرفه. يقول منير العكش: “هذا الوله بالعنف والتنافس على تطويره والتفنّن في تصويره والمباهاة به وممارسته، من أبرز وجوه الثقافة الأميركيّة” (العكش ص. 202). أصبحت ثقافة العنف سمة أساسيّة في ثقافة النظام الأميركي، تُمارَس ضدّ “شياطين” الخارج كما ضدّ الشعب في الداخل، وخاصّة ضدّ “الملوّنين”. قال وزير الدفاع الأميركي (في عهدي نيكسون وفورد) شليزنجر في إحدى خطبه: “يقولون إن الحرب جهنّم وإن السلام جنّة. لكنّنا نعرف جميعاً أن هذا كذب. الحرب هي الجنّة والسلام هو الجحيم” (العكش ص. 203).
أميركا وإبادة الشعوب الأصلية
يصعب فهم حرب الإبادة في غزّة ومحيطها العربي والبعيد إن لم ننظر إليها في إطارها الأوسع، بل العالمي، وفهمها كحربٍ في مخاض ولادة نظام عالمي جديد، في سياق جدليّة التاريخ، ومن رحم النظام الرأسمالي العالمي بقيادته الأميركيّة، من ناحية، وكتعبير عن الثقافة الأميركيّة وأخلاقياتها وخطرها على الانسانيّة جمعاء. تدفع أميركا العالم إلى حافة حرب عالميّة نوويّة قد تفني البشريّة. ويستنزف النظام الرأسمالي الأميركي العالمي طاقات الكرة الأرضيّة المتجدّدة ومختلف مواردها، ويستنزفها بتغيير المناخ، ويهدد الكثير من شعوب العالم، من ناحية أخرى.
علينا أن نفهم حرب الإبادة في غزّة في سياق حروب أميركا على الوطن العربي وجواره الإسلامي مباشرة أو بالواسطة، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ثم بالحروب الشاملة العسكريّة وغير العسكريّة التي اجتاحت الوطن العربي كلّه تقريباً وتُهدّد محيطه الإسلامي.
تُشَن الحرب على غزّة، والتي يلعب فيها سلاح الطيران المتفوّق دوراً رئيسيّاً وحاسماً، وبأموال أميركيّة لا يطالب دونالد ترامب باسترجاعها، وبأسلحة وذخائر الصف الأوّل العسكري الأميركي الأكثر حداثة وفعالية وقدرة على القتل والتدمير، وتحت المظلّة السياسيّة و”الاستثنائية” الأميركيّة. ذلك يجعل إسرائيل في منجاة من “المحاسبة” الدوليّة على جرائمها الموصوفة والمتواصلة ضدّ الإنسانيّة، وبجنودٍ يحمل العديد منهم الجنسيّة المزدوجة، الأميركيّة و”الإسرائيليّة”، وبتخطيط استراتيجي أميركي وقيادة أميركيّة مقنّعة. إن صعوبة المعركة وإطالة أجلها وتردّداتها العالميّة، وبخاصّة لدى الشعوب الأوروبية، أسقط الأقنعة عن الوجه الأميركي القميء، وخاصة مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض. أصبح ترامب يحتلّ موقع القرار الاستراتيجي والتكتيكي في هذه الحرب، علناً ودون أقنعة، يخوض الحرب دون “قفّازات”، متحدّياً معظم دول العالم وشعوبه وأنظمته.
ومن الضروري بالنسبة للمقاومة ومعسكرها تحديد هويّة العدو دون إبهام. العدو هو النظام الأميركي، “إمبراطوريّة الشر المطلق”، كما يصفها المؤرخ كمال صليبي. العدو هو أميركا، بكل قوّتها وجبروتها وهيمنتها العالميّة. تمثّل حرب غزّة معركةً في حربٍ مديدة لن تنتهي إلّا بسقوط هذه الإمبراطوريّة والكيان الصهيوني التابع لها. لا مكان في الشرق الأوسط لدولة فلسطينيّة مستقلّة إلّا لدولة تمتد من “المي للمي”، فقد دُفِن مشروع حل الدولتين منذ أجل طويل. إن التعايش مع اليمين الصهيوني الحاكم الذي يزداد عنصريّة وإجراماً يوماً بعد يوم، وبدعم شامل من أميركا، ينفي إمكانيّة الحلول السلميّة للصراع مع الكيان الصهيوني.
نماذج إبادوية من صنع أميركا
ومن أجل فهم معركة الإبادة في غزّة بشكل أفضل لا بد من إلقاء نظرة على إبادة أميركا للشعوب الأميركية الأصلية، والتي تتكرّر منذ سنتين في فلسطين المحتلّة.
ظهرت المسيحيّة عبر تعاليم السيد المسيح وسيرته كنقيض للتوراة والتاريخ العبري. أثارت عودة بعض المسيحيّين إلى كتب العهد القديم العبري، والاستناد إلى قيمه وأخلاقيّاته، تلبيةً لحاجات تطوّر النظام الرأسمالي، ردود فعل غاضبة من قِبل العديد من الرموز الفكريّة والأدبيّة أوروبيّة. رأى البعض في روايات كتب العهد القديم “تجسيداً لسوء الطويّة والنوازع الخبيثة في الإنسان”. رأى فولتير في العبرانيّين وكتبهم المقدّسة “آفةً خبيثة سمّمت الإنسانيّة على مدى آلاف السنين”. أمّا هيوم فرأى في أدبيّات العهد القديم “كتابات قومٍ أجلاف جهلة”. ورأى برنارد شو في هذه الأدبيّات “سجلّاً بذيئاً لرؤى مدمن على المخدّرات” (العكش ص.118) .
لم يمنع هذا النقد من أن تصبح أدبيّات وأخلاقيّات كتب العهد القديم نبراساً يهتدي به قادة أميركا وفرقاً مسيحيّة عديدة من البروتستانتيّين. قال الرئيس روزفلت إنّ تاريخ الأمّة الأميركيّة، بشكل عام، هو تاريخ التوسّع الجغرافي الذي أباد المستعمرون الأنغلوساكسون خلاله أكثر من 400 أمّة وشعب راقٍ ومسالم، في ما يشكّل اليوم الولايات المتّحدة الأميركيّة، “ونذروا كلّ ذلك لربهم الذي كان يكلّمهم ويعطي جرائمهم بعداً أخلاقيّاً نبيلاً مستعاراً بكل تفاصيله من “فكرة إسرائيل التاريخيّة” (العكش، ص.12). كل بلاغة العنف الأميركيّة كانت وما زالت تستمدّ استعاراتها من أدبيّات “فكرة إسرائيل التاريخيّة” وأساطيرها المقدّسة وأنماط سلوك أبطالها. هذه الصيغة الإنكليزيّة من “فكرة إسرائيل” لازمت تاريخ أميركا منذ موجة الاستعمار الأولى، وتبنّاها كلّ قادة أميركا، على تعدّد اتجاهاتهم الحزبيّة والفكريّة (العكش، ص. 12-13).
كانت كلّ مذبحة جديدة لسكان أميركا الأصليين، وكلّ سفينة جديدة للعبيد “آية إلهيّة” (معجزة)، وكأن السماء قد اختارتهم واختارت “إنكلترا الجديدة” لتدبير شؤون العالم… عندما أبيدت قبيلة “هنديّة” بداء الجدري، قال حاكم مستعمرة “ماساشوستس”: “هذه نعمة إلهيّة ومعجزة صنعها الله ليعيننا على إبادة الهنود”، ثم ردّد الرئيس “الأميركي” بنجامين فرانكلن هذا الشعور “الإنساني” في مناسبة مماثلة، حيث قال “إنّها تدابير معيّنة اتّخذتها العناية الإلهية لاستئصال هؤلاء الوحوش” (العكش، ص. 254-255). وعلى مدى أكثر من أربعة قرون، “ظلّت فكرة أميركا تخطف روح الدين، تُطوّعها لأهدافها الإمبراطوريّة الثلاثة التي استعارها من “إسرائيل التاريخيّة”: اجتياح أرض الغير، استبدال السكان بآخرين غرباء واستبعاد من بقي منهم حيّاً، استبدال الثقافة والتاريخ بثقافة المحتلّين الغرباء وتاريخهم” (العكش، ص.11).
إنّ تبنّي الأميركيّين للتراث والفكر التلمودي جعلهم يرتكزون في إعلامهم، (بحسب ريجينالد هورسمان) على القول: “إنّ اغتصاب أراضي الهنود وإبادتهم فضيلة إنسانيّة، أمّا معارضة الهنود لذلك الاغتصاب وتلك الإبادة فوحشيّة وشر” (العكش، ص.283).
تمكّن المستعمرون الإنكليز من إبادة شعوب أميركا الأصليين بسلاحهم الناري المتفوّق بنسبة عالية جداً على سلاح القبائل “الهنديّة” البدائي، ثم “بفضل مكرهم الإجرامي الذي يقدّس القوّة والعنف وسرقة الآخرين، جاعلين من هذه الرذائل قيماً إنسانيّة سامية، بل ديناً يستقي بنيته وأخلاقيّاته من “العهد القديم” وأدبيّاته، ويطرحه في صيغة “المقدّس” غير القابل للنقد والمساءلة.
كانت للشعوب الأصليّة، التي مدّت يد المساعدة للغرباء عند وصولهم من أوروبّا، حضارات متقدّمة مسالمة، كما وصفهم المطران “برتولومي دي لاستاراس”: “أكثر شعوب الأرض تواضعاً وصبراً ومسالمة وسكينة. إنّهم لا يعرفون الضغينة والصخب والعنف والخصام. شعوب تجهل الحقد وسوء الطويّة، وتعفّ عن الثّأر والانتقام” (العكش، ص. 283) . كان للشعوب الأصليّة “ديانات نبيلة ونصوص مقدّسة إنسانيّة وعمارة متطوّرة ومدهشة. اشتغلوا بالرياضيّات والفلك والكتابة والزراعة، وصنعوا الأدوات والعقاقير ومراصد النجوم” (العكش، ص. 272).
شيطنة الضحيّة
عمل الإعلام الأميركي على شيطنة أعداء أميركا أو الخارجين عن طاعتها، وبخاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية. كان الاستعمار الجديد الأميركي بحاجة إلى “شيطان” يمثّل تهديداً حقيقيّاً أو متخيّلاً لأميركا وشعبها، يثير المخاوف، يحرّض على العنف والقتال، يبرّر شنّ الحروب الاستباقيّة والوقائيّة، ويُشبِع تعطّش الثقافة الأميركيّة لدماء الشعوب وخيراتها، ويمكّنها من توسيع إمبراطوريّتها. نمت شيطنة دول وقادة دول وشعوب في أميركا اللاتينيّة وأفريقيا وآسيا كمقدّمة لاغتيال القادة وشنّ الحروب الاقتصاديّة والعسكريّة على الدول، مثل كوبا الثورة والكونغو في عهد باتريس لومومبا ومصر جمال عبد الناصر، كما فيتنام الشماليّة وإيران مصدّق والعراق وليبيا والصومال في عهد سياد برّي، والعديد من دول أميركا اللاتينيّة وقادتها.
لم يبقَ من الشعوب الأصلية في أميركا نتيجة حروب الإبادة التي شنّها الغزاة الأوروبيون، وبعد 500 سنة من وصول “العبرانيّين الجدد” المستعمرين البيض، سوى ربع مليون “هندي” من أصل 18.5 مليون عند بدء حروب الإبادة “المقدّسة” ضدّهم، ضدّ “الكنعانيّين الجدد” الذين “أحلّ الله قتلهم على يد شعبه المختار”. يقول مارك هولي، أحد قادة من تبقّى من شعوب أميركا الأصليين، الذين يعيشون في معسكرات الموت البطيئ والذل: “تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أقل ما فعله المنتصر هو محو تاريخ المهزوم، ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض. هذه واحدة من الإتاوات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيّون. إن جلّادنا المقدّس واحد” (العكش، ص. 291).
تعمل القيادات الأميركيّة الصهيونيّة منذ عقود على فكرة تجربة إبادة الشعوب الأصليين في فلسطين المحتلّة، كما شاهدنا بالحرب على غزّة وخطّة ترامب في تهجير ما تبقّى فيها من بشر قبل أن يخرج علينا مؤخراً بخطة جديدة جوهرها إنهاء القضية. لن تتمكّن أميركا من تكرار تجربتها في الإبادة الناجحة في فلسطين ومحيطها، وذلك لمتغيّرات الزمن والتاريخ، ووعي الشعوب وصلابة إرادتها ونمو قدراتها على المقاومة. لكنّ القيادة الإمبريالية الأميركيّة تجيد قراءة متغيّرات العالم. بعد مجزرة قانا في لبنان (1996)، التي ارتكبها زعران أميركا الصهاينة بالطائرات والقنابل الأميركيّة، قال الرئيس الأميركي بيل كلينتون في خطاب له في يافا المحتلة (تل أبيب) ثم في شرم الشيخ: “رحلة إسرائيل وأميركا رحلة واحدة”، وهدّد كلّ من يقاوم الاحتلال “الإسرائيلي” بأنه سيُستأصل ويباد (root out). ما زال هذا الكلام يتردّد الآن وبكثرة من قِبل القيادتين الأميركيّة والصهيونيّة.
اليوم، يهدّد الرئيس الأميركي ترامب بفتح أبواب جهنّم على الفلسطينيّين إن لم يفرجوا عن المحتجزين لديهم من الصهاينة والأميركيّين، وكأن أبواب جهنّم لم تفتح عليهم بعد، بفعل قدرات القتل والدمار الأميركيّة.
طريق الموت والدموع واحدة
كرّرت أميركا تجربتها في إبادة “الهنود الحمر” مرّات عديدة في توسّعها الاستعماري، وتعمل على تكرارها بكلّ تفاصيلها في غزّة وسائر فلسطين المحتلّة وجوارها، بوسائل وأسلحة أكثر تطوّراً وفعالية. ما زال الأميركي الحاكم يعتقد أن الله جعل من الأميركيين شعبه المختار وكلّفهم تنفيذ إرادته، وأنّه ما زال “يتكلّم” مع قيادة أميركا ويمدّ لهم يد العون. قال السيناتور الأميركي بنغريدج، في إطار بحث إمكانية اجتياح الفليبين سنة 1898 (طبعاً اجتاحوها لاحقاً): “ما جعلنا الله شعبه المختار إلّا لكي يعيد صياغة العالم. ولا شك في أنّ ضمّنا للفيليبين سيوفّر للجمهوريّة الأميركيّة هيمنة مطلقة وأبديّة على المحيط الهندي وفي الشرق. أراد الله أن يجعلنا الأسياد الذين يعيدون صياغة العالم ويضعون النظام حيث تنمو الفوضى، ولم يُنعم علينا بروح التقدّم إلّا لندحر قوّة التخلّف في كلّ أرجاء الأرض” (العكش، ص. 159).
احتلّت أميركا الفليبين. يقول ضابط أميركي في رسالة لأهله: “كان رجالنا أشدّاء، وقد أبادوا بدم بارد الرجال والنساء والأطفال والأسرى والمعتقلين والمشبوهين من سن العاشرة فما فوق، وحسب أوامر الجنرال سمث”. كان ذلك في أحد أكبر جزر الفليبين (العكش ص. 167). واليوم تبيد الطائرات الأميركيّة جميع البشر، بمن فيهم الأطفال الذين لم يولدوا بعد. في سنة 1898، قال شارل فرانسيس، في إطار النقاش حول “العنف الأميركي المقدّس”: “كان التعامل مع الأعراق الدنيا بالسكين والبندقيّة هو الأجدى… نعم، كانت عمليّة إبادة، ولكنّها لهذا السبب إبادة شكّلت خلاصاّ للعرق الأنغلوساكسوني وطهراً لصفائه” (العكش، ص. 162). في حرب الإبادة ضدّ شعوب أميركا الأصليين، “كانت فرق الموت الأميركيّة في زمن السلم تغتال القادة والزعماء “الشياطين” الذين يرفضون إلقاء السلاح والركون إلى المعاهدات… أمّا في الحروب فكان الاميركيّون، بعد نهاية المعركة، يقتلون زعماء المقاومة الهنديّة مثلما فعل الرئيس أبراهام لنكولن في سنة 1862 عندما أمر بشنق 58 زعيماً هنديّاً، وسحل واحداً منهم”. (العكش ص. 165).
مارس القادة الأميركيّون والصهاينة هذه “الفضيلة” منذ عقود طويلة. لا يأخذ الصهاينة الأسرى في ساحات القتال ويغتالون القادة متى يستطيعون ذلك. استنسخ العدو الأميركي-الصهيوني سياسة التهجير التي مارسها الغزاة الأوروبيون مع شعوب أميركا الأصليين، وسياسة إجبار هذه الشعوب على السير على طريق “الموت والدموع” كقطعان من البشر، تاركين أوطانهم وكلّ ما يملكون، إلى أماكن بعيدة هم غرباء عنها. كان أكثر من دُفع في هذه المسيرات يموت من شدّة الإرهاق أو من رصاص بنادق الجيش الأميركي.
اليوم، لا تسمح أرض غزّة الضيّقة بدفع أهلها إلى مسيرات طويلة مضنية، ولكنّها تسمح بتكرار التهجير القسري، حسب أوامر الجيش الصهيوني وطائراته الأميركيّة التي تلاحق الفلسطينيين بالموت. يدفعهم العدو الأميركي الصهيوني إلى “ملاجئ آمنة” في مدارس الأونروا ومجمّعات الخيم مراكز المساعدات، إلى حيث يلاحقهم الموت، إلى حيث قتلهم أسهل وأقل كلفة وهم في خيام بدل أبنية. يهربون من الموت إلى الموت. الوطن هو المكان حيث يولد الإنسان ويعيش، حيث يحب ويكره، يفرح ويحزن، يعيش ويموت.
التهجير القسري هو اقتلاع من الوطن، اقتلاع متكرّر ليعتاد المقتَلع على فكرة التهجير، و”ما لجرحٍ بميّتٍ إيلام”، ليرمي به العدو في نهاية المطاف إلى خارج أرض غزّة وفلسطين. يطرح الرئيس الأميركي، القائد الأوّل لحرب الإبادة، فكرة إخلاء غزّة من سكّانها ليتسنّى له بناء “ريفييرا” فخمة أميركيّة على أنقاض شعبها وتراثها، ليبيعها إلى أثرياء العالم.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: حرب الإبادة الصهيونية-الأميركية على غزة: الخلفية التاريخية والمآلات (1)