هل أطاحت إيران بـ”الممر الهندي” فجر السابع من أكتوبر؟ (3)

ما كانت إيران على علم بـ"طوفان الأقصى". لقد فوجئت بالعملية كما فوجئ العالم بأسره. لعل سريتها هي سبب نجاحها. هذا موجز الكلام المتداول حول علاقة إيران وأطراف "محور الممانعة" بهذه العملية التي أشعلت نصف حرب عالمية في منطقتنا ولم تكد تنتهي فصولها بعد.

أعيد التذكير بتصريح لمحمد جواد ظريف، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية (المستقيل) إذ يقول إن العملية الفلسطينية أطاحت باجتماع إيراني أميركي للبحث في “الملف النووي” قبل يومين من موعده في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023. أضف إلى ذلك أن إيران وحلفاءها كانوا يسعون، قبل “الطوفان” لإشاعة أجواء من الاستقرار والمصالحة في المنطقة، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق الإيراني ـــ السعودي (10 مارس/آذار 2023) في بكين وتخفيض التوتر في اليمن وترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ونشر أنباء شبه مؤكدة عن قرب ترسيم الحدود البرية، وبالتالي ما كان من مصلحتهم قلب الطاولة بضربة واحدة أو على الأقل لم يخططوا لذلك.

في السياق عبّرَت جماعات إيرانية عن استياء متزايد من دعم طهران غير المحدود للقضية الفلسطينية، حين ردّد متظاهرون في العامين (2022-2023) شعارات تعكس امتعاضهم من دعم بلادهم للقضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية “لا فلسطين ولا لبنان، نحن فداء لإيران”. وذهب ظريف أبعد من ذلك عندما صرّح بأن حلفاء إيران في “محور الممانعة”، عملوا لمصالحهم الخاصة وأحياناً كثيرة على حساب مصالح إيران، وذلك في إشارة إلى عملية “طوفان الأقصى” من دون التشاور مع القيادة الإيرانية. وانتقد ظريف موقف بلاده التي “تريد أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم”. كأنه يضمر القول إن سياسة السلطة الفلسطينية هي السياسة الواجب تأييدها وليس سياسة حماس والجهاد الإسلامي والمنظمات المقاتلة الأخرى.

بيد أن تصريحات ظريف كما هتافات المعارضين للحكومة الإيرانية، على أهميتها، لا تعبر عن حقيقة الموقف الرسمي في إيران تجاه القضية الفلسطينية، وهي بعيدة عن مراكز القرار الفعلية في الجمهورية الإسلامية ولا حظّ لها في تغيير سياسة إيران الفلسطينية أقله في المدى المنظور.

يحتفظ ظريف بتأثير في أوساط النخبة والرأي العام، لكن لا رجاحة لأقواله في مراكز صنع القرار وبخاصة في الحلقة الضيقة المحيطة بالمرشد الأعلى وقيادة الحرس الثوري الإيراني وتيار المحافظين.

ومن المعلوم أن ظريف ينتمي إلى فريق الرئيس السابق المعتدل حسن روحاني، وقد ارتبط اسمه بالاتفاق النووي الإيراني الذي ألغاه دونالد ترامب (8 مايو/أيار 2018)، وبالتالي يُذَكِّرُ الإيرانيين بالفشل الذي نجم عن سياسة المعتدلين في هذا المجال الحيوي. ولعل ذلك يفسر بطبيعة الحال، هزيمتهم وفوز المحافظين بالرئاسة عبر اختيار الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي (آب/أغسطس 2021).

وعليه من الصعب أن تُغيّر تصريحات ظريف أو الاحتجاجات المحدودة في الشارع، موقف إيران من فلسطين التي احتلت موقعاً استراتيجياً في سياسة طهران الخارجية منذ انطلاقة الثورة الإسلامية في العام 1979، وما تزال فلسطين قضية إيران الأولى في الشرق الأوسط حتى إشعار آخر وهي تتيح للجمهورية الإسلامية دوراً مركزياً يدعم موقعها الاقليمي ونفوذها الدولي وعلاقاتها المميزة مع روسيا والصين ودورها في التأثير على طرق التجارة العالمية التي تعبر الشرق الأوسط نحو أوروبا.

شرعية الثورة الإيرانية

مقابل تصريحات ظريف النقدية أجمعت مراكز القرار على وجوب دعم القضية الفلسطينية وعلى التفاخر بعملية “طوفان الأقصى” التي ربما ما كان يمكن أن تتم لولا الموافقة الإيرانية أو على الأقل التسامح مع قيامها. ومن الطبيعي ألا تتبنى إيران العملية رسمياً فتضع نفسها في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية.

يمكن أن نذهب إلى أبعد من الترحيب في موقف إيران، إذا افترضنا أنها لا تخشى ردود الفعل الإسرائيلية، ما دامت هي ومحورها في موقع شديد الثقة بالاستعدادات والتدريبات والخبرة اللازمة لخوض حرب ناجحة ضد الدولة العبرية. لنتذكر معاً فرضيات الحرب التي كان المحور يناقشها وبينها اجتياح الجليل الأعلى في شمال فلسطين المحتلة وصولاً إلى حيفا خلال أسبوع او أسبوعين، فضلاً عن الخطاب الإيراني القتالي الذي تتردد فيه جمل من نوع: جحيم الصواريخ الإيرانية يمكن أن يُدمّر إسرائيل ويحيلها إلى رماد.

أما الافتراض بأن عملية “طوفان الأقصى” قد تشعل حرباً مفتوحة مع إسرائيل، وأن ذلك يتناقض مع التفاهم الإيراني السعودي أو ترسيم الحدود البحرية مع لبنان او إشاعة أجواء الاستقرار في الإقليم؛ هذا الافتراض لم يكن مطروحاً عشية العملية، وكان يمكن أن يُطرح لو أن واشنطن تريد حلاً مناسباً للملف النووي الإيراني ولو أن إسرائيل لا تعمل بطريقة حثيثة على اشعال حرب أميركية غربية ضد إيران.

أُخَمِّنُ ان حسابات إيران قبل “الطوفان” كانت تميل إلى لجم إسرائيل أو ردعها، كي ترسم مع حلفائها في المحور واصدقائها الروس والصينين خريطة جيوسياسية في المنطقة حول طريق الحرير لا تكون فيها الدولة العبرية القوة المُعَطِّلة والأقوى في الشرق الأوسط. ولا تكون قطباً مقرراً في التطورات القادمة على هذا الطريق، الذي تحتل فيه إيران دوراً أساسياً في حين يستبعدها “الممر الهندي” الذي يضم الولايات المتحدة والامارات والسعودية وإسرائيل والأردن والذي يصل الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.

الفت الانتباه هنا إلى أن الإعلان عن “الممر الهندي” تم في 10 أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل أقل من شهر من “طوفان الأقصى”. هذا الطريق يتفرع إلى ممرين. الأول يربط الهند بميناء الفجيرة في الامارات وممر آخر يربط الفجيرة بالسعودية والأردن عبر سككك حديدية تصل إلى ميناء حيفا في إسرائيل ومنها عبر المتوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة وهو يعزل إيران تماماً في إقليم تعتبره اقليمها.

وتفصح الصواريخ والمسيرات الحوثية الفعالة، على طريقي “الحرير” و”الممر الهندي” التجاريين، عن تخطيط إيراني استراتيجي يتيح لطهران كلمة وازنة، وذلك عبر بسط النفوذ على طريقين بحريين مركزيين في المنطقة، هما باب المندب ومضيق هرمز. هذا النفوذ بدا فعالاً في حرب “الطوفان” عبر محاصرة إسرائيل في البحر الأحمر وكشف محدودية قدرتها الدفاعية كما تبين من بعد.

إستناداً إلى ما تقدم، يمكننا التوقف عند مؤشرات عديدة تفيد بأن إيران كانت على علم بالعملية مبدئياً، ولربما بحجمها وتوقيتها وإن صحّ ذلك فهذا يعني أنها شاركت في التخطيط لها وعقدت رهاناً عليها لإضعاف إسرائيل والدفاع عن المصالح الإيرانية الاستراتيجية في الإقليم.

ومن بين المؤشرات التي تسير في هذا الاتجاه أتوقف عند تصريح محمد باقر قاليباف رئيس مجلس الشورى الإيراني إذ قال إن بلاده شاركت في التخطيط للعملية، لكنه تراجع عن تصريحه فيما بعد (تشرين الثاني/نوفمبر 2023). وقد حاول الناطق باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف أن يتبنى العملية (27 ديسمبر/كانون الأول 2023) بقوله انها انطلقت من اجل الثأر لقاسم سليماني بعد أن اعتبره إسماعيل هنية “شهيد القدس” في خطاب علني، لكن قيادة حماس في الدوحة، سرعان ما نفت ذلك بقولها إن العملية تمت بسبب الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، ليعدل أبو عبيدة الناطق باسم “كتائب القسام” في غزة هذا النفي بقوله إن عملية “طوفان الأقصى” يمكن أن تكون في أحد وجوهها انتقاماً لكل الذين سقطوا على طريق القدس. ومن ثم انتهى هذا الاختلاف بتصريح لقائد الحرس الثوري حسين سلامي أكد فيه أن لا ترابط بين “طوفان الأقصى” واستشهاد قاسم سليماني، وأن العملية الفلسطينية تمت بقرار فلسطيني مستقل.

إقرأ على موقع 180   من تونس إلى لبنان.. عندما يكبر الحلم

المشاركة في التخطيط

ما من شك في أن سعي الحرس الثوري لتصنيف “طوفان الأقصى” في خانة رمزه الأكبر قاسم سليماني، مؤشر افتراضي على مشاركة إيران في التخطيط لهذه العملية، فضلاً عن مؤشرات أخرى من بينها زيارة إسماعيل هنية رئيس الحركة الراحل، إلى طهران في سبتمبر/أيلول 2023 أي قبل أقل من شهر من تنفيذ العملية.

وفي السياق تجدر الإشارة إلى تأكيد السيد حسن نصرالله أكثر من مرة، أن الحزب ومعه “المحور” كانا على علم بالتخطيط لعملية عسكرية كبيرة من طرف حماس من دون العلم بتفاصيلها وحجمها وتوقيتها. هذا العلم المسبق كان يجب أن يأخذ بالاعتبار ردي الفعل الأميركي والإسرائيلي؛ لا سيما وأن الحزب خبر في العام 2006 نتائج عملية “الوعد الصادق” إسرائيلياً، وبالتالي كان ينبغي مع وجود حكومة الحرب الإسرائيلية أن تكون التوقعات أكبر وأخطر بكثير من ذي قبل، أي اعتماد مقياس التناسب بين الفعل وردة الفعل.

كذلك يمكن افتراض الترابط بين عملية “طوفان الأقصى” والانتقادات الإيرانية للتطبيع المنتظر بين السعودية وإسرائيل اذ أكد الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي أن بلاده ترفض التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة (سبتمبر/أيلول 2023). وجاء تصريح رئيسي في سياق انتقادات إعلامية واسعة للتطبيع المفترض، لعل اكثرها وضوحا وحِدَّة ما ورد في خطاب للسيد نصرالله في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي قبل خمسة أيام من “الطوفان”، حين قال حرفياً “إن التطبيع هو طعن بالشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس”. ومن غير المستبعد أن يكون “الطوفان” قد وقع استباقا لما ترفضه حماس وإيران و”محور الممانعة” عموماً، وهنا ينبغي التوقف عند الترحيب الأول بـ”الطوفان” من جانب المرشد السيد علي خامنئي وقائد الحرس الثوري وشخصيات مؤثرة في الجمهورية الإسلامية من دون تبني العملية رسمياً.

وبالتالي أستبعد النفي القاطع أن إيران فوجئت بعملية “طوفان الأقصى”، أو لم تكن تتوقعها لأنها مضرة بمصالح الجمهورية الإسلامية كما يوحي استنتاج محمد جواد ظريف. ومن المرجح أيضاً أن يكون تخطيط حماس للعملية وتنفيذها قد تم بحجم وزخم مفيد للمقاومة في غزة، يتيح لها اختبار فعالية “المحور” ومعادلة “وحدة الساحات”، وبالتالي اقفال كل الطرق التي قد تبعد بعض أطراف المحور- الذاهبة إلى تسويات محلية – عن الصراع مع الكيان الصهيوني.

تغيير استراتيجي.. يستوجب “الطوفان”!

في المحصلة لا يمكن أن نهمل معرفة إيران المسبقة بعملية “طوفان الأقصى” واحتمال مشاركتها في التخطيط وذلك للأسباب التالية:

أولاً؛ تدعم إيران وتمول وتنقل خبرتها الصاروخية وتدرب أطراف محورها وبالتالي لا يمكن أن تكون “خارج التغطية” عندما ينفذ أحد الأطراف عملية عسكرية بحجم هجوم السابع من أكتوبر. وإذا أردنا توسيع هذا الاحتمال يمكننا القول إن إيران كانت على علم بالتخطيط لعملية غير عادية وكانت قادرة على اختبار رد الفعل الإسرائيلي بالقياس إلى حرب لبنان المشار اليها أعلاه. وهي ما كانت تحسب بطبيعة الحال أن يتخذ رد الفعل الإسرائيلي-الأميركي على “الطوفان” هيئة حرب إبادة جماعية.

ثانياً؛ يفصح رد الفعل الأميركي والغربي المباشر على هذه العملية عن تقدير أو معرفة بأن “طوفان الأقصى” ليس عملية غزاوية كسائر عمليات المقاومة، بل عملٌ مخططٌ يهدف إلى اضعاف إسرائيل وتهميشها في مشاريع الطرق التجارية الاستراتيجية في الشرق الأوسط وهي لا تتحمل هذا الاختبار ولا تستطيع التعايش معه.

ثالثاً؛ تزامنت العملية مع تغيير متوقع في المنطقة يتعلق بمصير القضية الفلسطينية وذلك عبر التطبيع السعودي الإسرائيلي، الذي من شأنه لو تم أن يضع القضية في مسار جديد ويخرجها من العمل المسلح. وفي السياق يمكن للتطبيع أن يزيل عقبة هائلة أمام “الممر الهندي” التجاري مقابل “طريق الحرير” الصيني.

كان من المتوقع أن يقفل التطبيع السعودي مع إسرائيل أبواب الجامعة العربية أمام أي خط آخر للتعاطي مع القضية الفلسطينية، غير الخط الذي تعتمده السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عباس، وذلك للمرة الأولى منذ نشوئها، ويضعف شرعية العمل لدعم هذه القضية خارج حدود الجامعة، فضلاً عن فتح أفق إسلامي أمام هذا الخيار. لنتخيل اجتماع واتفاق تركيا وباكستان وأندونيسيا والسعودية في الفضاء الإسلامي على “حل الدولتين” مع الاعتراف بالدولة العبرية (يمكن هنا رصد أبعاد قمة نيويورك الأخيرة على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة ومعنى أن تتبنى الدول الإسلامية حل الدولتين). هذا الاعتراف يمكن أن يضعف ويهمش موقع إيران في الإقليم وفي العالم الإسلامي.

إن التغيير الاستراتيجي الذي كان يلوح في أفق المنطقة ما كان بوسع محور الممانعة اعتراضه من دون عملية كبيرة من وزن “طوفان الأقصى”، تشعل حرباً تحت السيطرة وتغير قواعد الاشتباك وتعطل التطبيع القادم.

ولا أغالي كثيراً بالقول إن حزب الله كان قد جرّب في تلك الفترة نفسها، استدراج إسرائيل إلى فخ، عندما نصب خيمتين قرب الحدود اللبنانية الإسرائيلية. الأولى في نيسان/أبريل 2023 قرب موقع للأمم المتحدة في مزارع شبعا المتنازع عليها، والثانية في أيار/مايو 2023 على بعد خمسين متراً داخل أرض تعتبرها إسرائيل تحت سيطرتها. لم ترد إسرائيل على هذا الاستفزاز الذي كان يُهدّد بانفجار على الحدود، يُرَجّحُ أن توقيته ما كان مناسباً للدولة العبرية.

رابعاً؛ ما كان يمكن لإيران أن تنصاع للتغيير القادم في مصير القضية الفلسطينية وفي مصير طرق التجارة، وبالتالي تهميشها، وهي التي ربطت شرعية ثورتها بفلسطين، واعتبرتها القضية المركزية للجمهورية الإسلامية.

نعم كان من الصعب على طهران أن ترى البساط يُسحَب من تحت أقدامها ومحورها باللعبة الابراهيمية الهادفة إلى تغيير وجه المنطقة وخريطة المصالح فيها، فكان “الطوفان” والراجح أنه تم بإشراف إيراني، لكن المفاجأة كانت في حجم العملية وآثارها التي تجاوزت كل الحدود المتوقعة. لعل طهران كانت تتوقع تصعيداً تحت السيطرة يشبه ما سبق، فإذا بها تفاجأ بـ”بيرل هاربر” فلسطيني غيّر كل قواعد الاشتباك.. وكان عليها أن ترد على هذه المفاجأة وعلى هذا التغيير، وهذا ما سنتطرق إليه في الحلقة الرابعة.

Print Friendly, PDF & Email
فيصل جلول

باحث لبناني في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أمريكا، إسرائيل، الهند وإيطاليا.. كيف تستفيد من الممر الإقتصادي؟