الاستراتيجية الأميركية في سوريا.. من العسكر إلى العمامة

شكّل الملف السوري أحد أعقد التحديات التي واجهت السياسة الخارجية الأميركية في القرن الحادي والعشرين. منذ اندلاع الصراع السوري عام 2011، وجدت واشنطن نفسها في مأزق استراتيجي حقيقي: كيف تتعامل مع تحولات مشهد إقليمي مضطرب، وهي تترنح تحت وطأة تداعيات حربي العراق وأفغانستان؟

ينطلق هذا التحليل من سؤال مركزي: هل مثّل صعود الفصائل الإسلامية المسلحة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، تحولاً استراتيجياً مقصوداً في السياسة الأميركية من “العسكر” إلى “العمامة”؟ أم أنه كان مجرد نتيجة حتمية لسلسلة إخفاقات استراتيجية؟

من البراغماتية إلى التردّد

تعاملت الولايات المتحدة مع النظام السوري لعقود بمنطق براغماتي صرف. فعلى الرغم من عداء النظام السوري لإسرائيل وتحالفه مع الاتحاد السوفييتي، رأت واشنطن في دمشق شريكاً ضرورياً لإدارة التوازنات الإقليمية. تجلى هذا واضحاً في حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما شاركت سوريا في التحالف الدولي لتحرير الكويت من جيش صدّام حسين، إلى جانب مصر ودول الخليج، وقابلت واشنطن ذلك بتلزيم ملف لبنان إلى حافظ الأسد بمباركة سعودية..

ومع تولي بشار الأسد السلطة في العام 2000، سيطر وهم على دوائر صنع القرار في واشنطن (وكذلك على معظم العواصم الأوروبية) مفاده أن الشاب الغربي التعليم يُمكن أن يكون مُصلحاً. لكن هذا الوهم سرعان ما تبخر مع تبدد “ربيع دمشق” وقمع النظام أي بذرة للإصلاح ورفضه توسيع قاعدة المشاركة في السلطة.

ومع ذلك، استمر التعاون الأميركي السوري، إلى أن حطّ الأميركيون رحالهم على أرض بلاد ما بين النهرين (غزو العراق 2003)؛ حينذاك لم تعد أميركا في أميركا بل صارت دولة جوار لسوريا ولها مطالبها التي حملها وزير خارجية أميركا كولين باول إلى بشار الأسد في ربيع العام 2004، وكانت النتيجة أن بشار الأسد قرّر دعم المقاومة العراقية وتشجيع الإسلاميين في سوريا للقتال ضد الأميركيين سعياً منه للتخلص منهم، فضلاً عن رفض باقي المطالب المتصلة بحزب الله وحماس وحزب العمال الكردستاني والتنظيمات الفلسطينية المقيمة في دمشق تاريخياً. سارع الأميركيون بعد ذلك للرد من لحظة قمة النورماندي الشهيرة عام 2004، في مسار أفضى إلى صدور القرار الدولي الرقم 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005.

السياسة الأميركية في سوريا حقّقت فشلاً ذريعاً إذا ما قيست بأهدافها المعلنة. فبدلاً من إضعاف النظام أو إيجاد بديل معتدل، أدت هذه السياسة إلى تمكين وتمدد النفوذين الإيراني والروسي بشكل غير مسبوق على حساب النفوذ الأميركي؛ تدمير البلاد؛ تهجير ملايين السوريين؛ ظهور كيانات هجينة (مثل “هيئة تحرير الشام” في إدلب) تتمتع بقوة عسكرية وإدارية، وتعزيز نموذج “الدولة الفاشلة” الذي أصبح بيئة خصبة للتطرف والعنف

الثورة السورية

مع اندلاع الاحتجاجات السورية في ربيع العام 2011 والتي جاءت في سياق “الربيع العربي” الذي شمل العديد من العواصم العربية، وجدت الإدارة الأميركية نفسها في موقف متناقض. من ناحية، لم تستطع تجاهل مطالب المتظاهرين الديموقراطية، وبخاصة بعد خطاب باراك أوباما في القاهرة عام 2009 الذي دعا إلى “بداية جديدة” مع العالم الإسلامي. ومن ناحية أخرى، خشيت أن يؤدي سقوط النظام السوري إلى فوضى شاملة كما حدث في العراق بعد غزوه عام 2003.

هذا التردد الأميركي تجسد في سياسة “الحد الأدنى من التدخل”. فبدلاً من دعم المعارضة السورية بشكل حاسم أو التدخل عسكرياً بشكل مباشر، اكتفت واشنطن بدعم رمزي للمعارضة التي اعتبرتها “معتدلة” وفرضت عقوبات على النظام السوري.

هذه السياسة المترددة خلقت فراغاً استراتيجياً في سوريا، كان بمثابة تربة خصبة لنمو تنظيمات متطرفة أتت من كل حدب وصوب. كما فتحت الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية متعددة، تحوّلت معها سوريا إلى ساحة للصراع بالوكالة.

صعود “النصرة”

في هذا السياق من الفوضى والفراغ، برزت تنظيمات جهادية متطرفة، أبرزها “جبهة النصرة” التي تأسست عام 2012 كفرع لتنظيم “القاعدة” في سوريا.

تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، طوّرت “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام لاحقاً) قدراتها العسكرية والتنظيمية وصولاً إلى تمكنها من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية.

ويدعي البعض أن صعود “هيئة تحرير الشام” كان نتيجة “هندسة أميركية محكمة”، لكن التحليل الموضوعي يشير إلى أن هذا الصعود كان بالأساس نتاج عوامل داخلية وإقليمية:

أولاً؛ الفراغ الأمني والسياسي الذي خلّفه انهيار الدولة المركزية.

ثانياً؛ الدعم الإقليمي من بعض الدول التي رأت في “الهيئة” حاجزاً أمام التمدد الإيراني.

ثالثاً؛ البراعة التكتيكية لقيادة “الهيئة” في استغلال التعقيدات المحلية.

لقد قدّم الجولاني نفسه كبديل “معتدل” مقارنة بتنظيم “داعش”، وسعى إلى إعادة تموضعه سياسياً من خلال التخلي عن الخطاب الجهادي العالمي والتركيز على القضايا المحلية.

البراغماتية الأميركية

في مواجهة هذا المشهد المعقّد، تبنت الولايات المتحدة سياسة براغماتية قائمة على “إدارة الفوضى” بدلاً من السيطرة عليها. تجلت هذه البراغماتية في عدة مستويات:

  • على مستوى مكافحة الإرهاب: تعاونت واشنطن بشكل غير مباشر مع “الهيئة” في معركة القضاء على “داعش”، مستفيدة من كونها القوة الأكثر فاعلية على الأرض في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية..
  • على المستوى الجيوسياسي: استخدمت الولايات المتحدة وجود “الهيئة” كورقة ضغط بوجه النظام السوري وحلفائه، وكعائق أمام التمدد الإيراني في شمال غرب سوريا.
  • على المستوى الإقليمي: تغاضت واشنطن عن الدعم التركي لـ”هيئة تحرير الشام”، باعتباره يُحقّق مصلحة أميركية في إبقاء منطقة إدلب خارج سيطرة النظام وحلفائه.
إقرأ على موقع 180  فرنسا وانتخاباتها التّشريعيّة.. أزمة هوية عميقة الجذور

الفشل الاستراتيجي

برغم هذه البراغماتية، فإن السياسة الأميركية في سوريا حقّقت فشلاً ذريعاً إذا ما قيست بأهدافها المعلنة. فبدلاً من إضعاف النظام أو إيجاد بديل معتدل، أدت هذه السياسة إلى تمكين وتمدد النفوذين الإيراني والروسي بشكل غير مسبوق على حساب النفوذ الأميركي؛ تدمير البلاد؛ تهجير ملايين السوريين؛ ظهور كيانات هجينة (مثل “هيئة تحرير الشام” في إدلب) تتمتع بقوة عسكرية وإدارية، وتعزيز نموذج “الدولة الفاشلة” الذي أصبح بيئة خصبة للتطرف والعنف.

في الختام، فكرة “تحول الاستراتيجية الأميركية من العسكر إلى العمامة” تخفي حقيقة أكثر إيلاماً، وهي أن الولايات المتحدة لم تتحول ببراعة من خيار إلى آخر، بل فقدت السيطرة على المسار وأصبحت تتفاعل مع الوقائع التي صنعها الآخرون أكثر من كونها تصنعها. والدرس الأكبر الذي تقدمه سوريا هو أن التردد والبراغماتية قصيرة النظر في التعامل مع الصراعات المعقّدة لا ينتجان إلا وحوشاً جديدة وأوضاعاً أكثر استعصاءً. فبدلاً من أن تؤدي السياسة الأميركية إلى انتقال ديموقراطي أو استقرار إقليمي، ساهمت في خلق بيئة من الفوضى المستدامة التي تخدم المصالح المتطرفة وتضر بالمصالح الأميركية طويلة المدى.

سوريا لم تكن قصة تحول استراتيجي مدروس من “العسكر” إلى “العمامة”، بل كانت مأساة إنسانية وسياسية تحولت فيها البراغماتية قصيرة المدى إلى إستراتيجية غير مقصودة لإدارة الفوضى، بثمنٍ تدفعه الشعوب أولاً، وتدفعه مصداقية القوى العظمى أخيراً.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لعنة "المجال الحيوي" بين الإمبرياليات الشرقية والغربية