نقع في كتاب مذكرات إيلي فرزلي على تاريخ يعاد استنساخ بعض فصوله في زمننا الراهن.. دور المؤسسة العسكرية في الاستفادة من الظروف السائدة لتأسيس لحظات مستقبلية ملائمة لتطلعاتها. توظيف الظرف الإقتصادي الحرج في استنبات معطيات سياسية تخدم أهدافاً تعوزها البراءة… الإتكاء على كلام حق ينطلق من إصلاح القضاء لإدراك غايات باطلة تتمثل في ترسيخ الهيمنة عليه.
أمور شتى بوسع مذكرات إيلي فرزلي إبرازها، وفي مقدمها إعادة النظر في مقولة ممانعة بعض الجهات اللبنانية للنفوذ السوري: الراحل عبد الحليم خدام كان مشكى ضيم الراحل رفيق الحريري دون جدال.. المسؤول السوري كان مستعداً للتدخل حتى في سلسلة الرواتب المحلية عندما تستدعي مصلحة حليفه ذلك. وهو أمر لم يكن متاحاً له في سوريا.
لنصغِ إلى الراوي:
“طوال ولايتي الياس هراوي، العاديَّة والممدَّدة، أدَّت المؤسسة العسكرية، بعد نجاحها في بناء نفسها، أدواراً شتَّى في النزاع الداخلي، كانت فيها “قدوة” وأمثولة سياسية.
كان واضحاً أنها تتحضَّر للعهد المقبل. أبعدت نفسها عن التدخّل في الخلافات السياسية، وانصبَّ اهتمامها على القضايا الاجتماعية، ومنها سلسلة الرتب والرواتب، والتحرُّكات العمالية. ثم راحت بشكل غير منظور، تتغلغلُ في النقابات العمالية التي تقلَّبت مواقفها حيالها تبعاً للظروف: أحياناً معها، وأحياناً مع خصومها. تارةً على الحياد، وطوراً في قلب المواجهة. إلاَّ أنَّ التدخل اشتدَّ، بشكل لافت، قبل ثلاثة أشهر من الاستحقاق الرئاسي الذي حمل إميل لحود إلى قصر بعبدا!
كيمياء مفقودة
في العهد الجديد، كان من الصعوبة بمكان توقُّع تعاون فعَّال بين إميل لحود، رئيساً للجمهورية، ورفيق الحريري رئيساً للحكومة. فليس بين الرجلين كيمياء شخصية، وهما على مزاجين مختلفين، وينتميان إلى مدارس ومفاهيم متناقضة. فلا قواسم مشتركة بينهما إن في السياسة، أو في أسلوب العمل، أو حتى التفكير والأداء، إضافة إلى خلافاتهما التي تراكمت طوال السنوات “الهراوية” التسع.
عقبات كثيرة اعترضت طريقهما، يُعزى بعضها إلى مديرية الاستخبارات التي عملت بجدٍّ على إرباك رفيق الحريري، فلم يتوانَ هو الآخر عن بذل المستحيل لمنع إناطة أي دور مركزي لضباطها البارزين، العقيد جميل السيِّد مساعد مدير الاستخبارات، كان أحدهم.
إقتصاد مسيس
في تموز/يوليو وآب/أغسطس 1998 برزت انقسامات حادَّة بين المسؤولين، وخصوصاً حيال إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، بالتزامن مع تحرُّك “الاتحاد العمالي العام” مطالباً بتصحيح الأجور.
وضع مجلس النواب يده على هذا الملف، لضبطه من التفلُّت خارج القانون. راح الاتحاد العمالي والمنظمات النقابية يتحرَّكون في الشارع، فبدت حكومة رفيق الحريري في حيرة من أمرها لا تعرف كيف تتعامل مع ذلك التحرك، ولم تكن تأمن استخدام الجيش في قمعه، فكان لا بد من أن يستنجد رفيق الحريري بدمشق.
قابل أولاً الرئيس السوري طوال ثلاث ساعات متمسِّكاً بذريعة عدم تحميل الخزينة اللبنانية أعباء مالية لا طاقة لها على تحمُّلها، وأنَّ حكومته ليست وراء الأرقام الكبيرة الجديدة في مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب، بل اللجان النيابية المشتركة هي التي رفعت الأعباء إلى سقف لا يمكنه – هو وحكومته – الموافقة عليه، فليس بالإمكان تغطية الفارق الكبير في كلفة السلسلة من الميزانية العامة، أو البحث عن مصادر تمويل جديدة.
عبد الحليم خدام: هل يريد البعض من خلال زيادة الإنفاق من دون موارد أن يصل الدولار إلى عتبة 3000 ليرة أو 5000 أو 10000 ليرة؟
وطرق باب عبد الحليم خدام، علَّ نائب الرئيس السوري ينزع السلسلة من عنقه، فلبَّى تمنِّي صديقه الذي نُسب اليه في صحيفة “النهار”، نقلاً عن “مجموعة من الشخصيات اللبنانية” التقى بها في 12 آب/أغسطس 1998، أنه يعارض تعديل الأجور ويفضِّل تأجيل بتِّها إلى العهد الجديد بعد أشهر قليلة، محمِّلاً، في الكلام المنسوب إليه، اللجان النيابية المشتركة مسؤولية زيادة أرقام سلسلة الرتب والرواتب والأعباء المترتِّبة عليها، وهو موقف رفيق الحريري نفسه الذي عبَّر عنه لنا فرادى، وفي اجتماعات اللجان النيابية المشتركة.
في 13 آب/أغسطس 1998، قال خدام:
“على اللبنانيين أن يُدركوا بوضوح كامل أنَّ الحلَّ لمشاكلهم الاقتصادية الحادَّة لا يكون بزيادة عشوائية لرواتب تقود إلى التضخُّم (…) هل يريد البعض من خلال زيادة الإنفاق من دون موارد أن يصل الدولار إلى عتبة 3000 ليرة أو 5000 أو 10000 ليرة؟”. (…)
صدام مع ولي النعمة
ما كان بوسعي أن أدع تدخُّل عبد الحليم خدام في ما لا يعنيه يمرُّ من غير ردٍّ. ففي يوم نشر الكلام المنسوب إليه، عقدت مؤتمراً صحافياً غايته الردُّ على تصريح نائب الرئيس السوري، فقلت فيه:
“إنَّ ما أعلنه خدام جاء نتيجة إطعامه معلومات خاطئة أدَّت إلى استنتاجات غير صحيحة وكلام غير مبرَّر، وهذا ما يُعرف بالفرنسية Intoxication، أي أنَّ هناك تسميماً للمعلومات”. (…)
قبل أن أعقد مؤتمري الصحافي للردِّ على عبد الحليم خدام، دعاني الرئيس نبيه برِّي إلى مكتبه ليسألني ما إذا كنت قرأت تصريح وزير العدل بهيج طبارة في الجرائد، وناولني جريدة “السفير” التي نُشر فيها الحديث. قرأت في الجريدة، ثم قرأت في وجه رئيس المجلس، فكأنه يقول لي بأنه من غير الجائز أن نسكت على هذا الكلام، في وقت كنَّا نحن الذين نشكو من تطاول السلطة التنفيذية على دور المجلس النيابي، واستقوائها بالسوريين عند كلّ عقبة.
أشار وزير العدل في حديثه الصحافي إلى أنَّ الخلل بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية يكمن في اتّفاق الطائف لجهة “تفرُّس” المجلس النيابي، ليدلَّ على ذلك المكمن، وهو منع رئيس الجمهورية والحكومة من حلِّ مجلس النواب. هناك في رأيه يكمن الخلل. وجدت في ذلك التصريح محاولة لتقزيم دور المؤسسة الأم، فوافقني رئيس المجلس على إعلان موقف حازم منه، في المؤتمر الصحافي، فبعد الردِّ على خدام صوَّبت الكلام باتّجاه بهيج طبارة، معتبراً أن “مجلس النواب ليس العامود الفقري للنظام السياسي البرلماني الديموقراطي فحسب، بل هو العامود الفقري لتوجُّه النظام الذي لم يتمكّن أحد من النيل والتشكيك في غطائه الاستراتيجي”.
تبيَّن لنا أنَّ رفيق الحريري وراء الإيعاز إلى بهيج طبارة إدخال هذا البند كي يتحكَّم بالقضاة الذين يمدِّد لهم خدمتهم في السلك، فيمسون متأثّرين به، مدينين له في استمرارهم في الوظيفة، الأمر الذي يعطِّل دورهم، وبالتالي يعطِّل ما رمت إليه فكرتي في الإفادة من خبرة قضاة القمة
وارتدَّ كلامي إلى موضوع رفع سنِّ تقاعد القضاة، الذي كنت اقترحته عليه لدى لقائنا في تعزية رئيس الرهبانية المارونية المريمية العام، بشقيقه في جبيل، لأيام خلت. حدَّثته عن ظاهرة لمستها هي انعدام طبقة وسطى من القضاة نجمت عن سني الحرب بين طبقتي قضاة القمة الموشكين على بلوغ سن التقاعد والقضاة الجدد القليلي الخبرة، الأمر الذي أدَّى إلى نقص فادح في المؤسسة القضائية. فاقترحت عليه رفع سن تقاعد القضاة من 68 عاماً إلى 72 عاماً، يكون القضاة الجدد خلالها قد اكتسبوا مزيداً من الخبرة والثقافة الواسعة. وافقني الوزير في الرأي، وأعدَّ مشروع قانون به. بعد يومين دعاني نبيه برِّي إلى مكتبه، ليقول لي: “وصلني هذا المشروع، وقيل لي إنَّك تؤيِّده”.
أجبته بالتأكيد: “طبعاً. أنا اقترحته على وزير العدل. لنمشِ به لأن لنا مصلحة في المحافظة على قضاة القمة”.
ثم سألني: “هل أنت موافق على البند الوارد فيه، القائل بمنح الحكومة صلاحية أن تقرِّر مَن مِن القضاة تمدِّد له ومَن لا تمدِّد؟”
أجبته حانقاً: “قطعاً لا. لم أناقشه معه. حكينا في مبدأ رفع سن التقاعد فقط”.
تبيَّن لنا أنَّ رفيق الحريري وراء الإيعاز إلى بهيج طبارة إدخال هذا البند كي يتحكَّم بالقضاة الذين يمدِّد لهم خدمتهم في السلك، فيمسون متأثّرين به، مدينين له في استمرارهم في الوظيفة، الأمر الذي يعطِّل دورهم، وبالتالي يعطِّل ما رمت إليه فكرتي في الإفادة من خبرة قضاة القمة، لا استغلالها ووضعها بين أيدي السلطة الإجرائية.
أثار كلامي في المؤتمر الصحافي حفيظة رئيس الحكومة رفيق الحريري الذي كان يقضي إجازة لمدة أسبوع في سردينيا، فقام مكتبه الإعلامي في بيروت بإصدار ردٍّ باسمه وتقصَّدني بقوله: “أخرج ما في جعبته من بلاغة لفظية ليقول إن الرئيس رفيق الحريري ضلَّل نائب الرئيس السوري الذي انطلت عليه الحيلة فاتخذ موقفاً مغلوطاً مبنيَّاً على معلومات خاطئة”.
ثم انبرى بيان المكتب الإعلامي إلى الدفاع عن عبدالحليم خدام بالقول:
“إن هذا النوع من الكلام غير المدروس يشكِّل خروجاً على أصول اللياقة السياسية في التحدُّث عن نائب الرئيس السوري”. (…)
الإستثمار في الجيش
في ذلك الوقت، كان الوضع في البلاد لم يعد يُطاق. الصدام بين السلطة السياسية و”الاتحاد العمالي العام” على أشدِّه، لا سيما بعد محاصرة الجيش مقرَّه واعتقال رئيسه الياس أبو رزق في الأول من حزيران/يونيو 1997 بناء على إيعاز سياسي حكومي توسَّل القضاء غطاءً. لم تستطع الحكومة أن تصمد طويلا في وجه الاتحاد العمالي، فأفرجت عن الأمين العام ياسر نعمة بعد أربعة أيام، وتبعه رئيس الاتحاد في اليوم الثامن.
التطورات التي لاحت من وراء ذلك الاضطراب كانت خطيرة للغاية، لأنَّ حكومة رفيق الحريري أنزلت الجيش ليواجه العمال وأساتذة المدارس، والفئات الشعبية الفقيرة، في معادلة مقلوبة، لأن سمعة الجيش قامت على نصرته لقضايا الناس المحقَّة.
كان “الاتحاد العمالي العام” قد دعا إلى تظاهرة شعبية حاشدة. عشية التظاهرة، كلَّفت الحكومة الجيش حفظ الأمن في البلاد ثلاثة أشهر، وحظرت أيَّ تحرُّك في الشارع لا يُؤذَنُ به أو يُرخَّص له، ومنعت فوق ذلك التظاهر منعاً باتاً.
أضحى الجيش في وسط المواجهة بين الطرفين. اعتقل الياس أبو رزق وياسر نعمة بتهم ساقها إليهما القضاء هي: “اغتصاب سلطة، وانتحال صفة، وتشويه سمعة لبنان في الخارج”، فأصدر مذكرتَي توقيف وجاهيتين في حقِّهما. (…)
قلت لكنعان: “تصوَّر أن العماد إميل لحُّود الذي يشاركنا هذا القلق والهواجس على البلد ومصيره، وامتعاضه مما يجري إلى درجة أنه تقبَّل فكرة تنفيذ انقلاب عسكري كحلٍّ حقيقي، فلم يمانع لولا العقبة السورية”
كان لي حوار مع جميل السيِّد حول الوضع المأزوم في البلاد، محوره البحث عن مخرج قاطع وموثوق للأزمة وإعادة اللُّحمة الاجتماعية من خلال السلطة المناسبة. ومن يعرف جميل السيِّد عن قرب يعرف أنه ممَّن لا يتأخّرون في السعي إلى كلِّ مشروع سلطوي. سألته:”ماذا عسانا أن نفعل لإنقاذ هذا الوضع؟ هل يكون انقلاباً مثلاً. هل من ظرف أنسب من الآن يمكننا فيه استثمار النقمة من خلال حركة يقوم بها الجيش؟”
أجاب بلا تردُّد: “يجب أن نحكي مع قائد الجيش”.
اتصل السيِّد بالعماد إميل لحُّود في الحال واتفقنا على الاجتماع به في الحمَّام العسكري في المنارة، مساء اليوم نفسه. فور وصولنا إلى جناحه كان خارجاً من حوض السباحة في يوم ماطر.
أطلعناه على الفكرة القائلة بـ”انقلاب عسكري” أبيض لا تُهرق فيه نقطة دم واحدة.
أصغى الينا بانتباه غير عادي، ثم قال: “لا مانع، شرط أن يوافق الرئيس الأسد على الأمر. من غير الممكن القيام بذلك من دون القوات السورية”.
تنبَّهت عندئذ إلى أنَّ الرئيس السوري لا ينخرط في مجازفة من هذا النوع محفوفة بالأخطار. ولذلك توجهت غداة اليوم التالي باكراً إلى عنجر للاجتماع مع غازي كنعان، وفاتحته في الموضوع، وكنا منفردين.
قدَّمت له عرضاً تمهيدياً عن أحوال البلاد غاليت في أوصافه أكثر مما يحتمل، أو يستحق، قبل أن أدخل في صلب الموضوع بغية حمله على تقبُّله.
قلت له: “إن الوضع الداخلي بلغ حالاً بالغة السوء، ناهيك بأن الأمن مهدَّد ونحن نوشك على الانهيار. كذلك حال الاستقرار والخط السياسي برمَّته في خطر، بل من شأنه التأثير على سوريا في حال تفاقمه. لم يعد في الإمكان التخلّص من هذا الوضع الذي نحن فيه سوى باجراءات حازمة”.
ثم أسهبت داخلاً في التفاصيل، وقلت لكنعان: “تصوَّر أن العماد إميل لحُّود الذي يشاركنا هذا القلق والهواجس على البلد ومصيره، وامتعاضه مما يجري إلى درجة أنه تقبَّل فكرة تنفيذ انقلاب عسكري كحلٍّ حقيقي، فلم يمانع لولا العقبة السورية”. (…)
جلس غازي كنعان مسترخياً، ولم يبدِ اهتماماً بما شرحت، ولم يعلِّق عليه، وكأني به اعتبره من قبيل الضيق بالأحوال السائدة. فكرَّرت العبارات نفسها وقلت:”إن العماد لحُّود سأل عن موقف الرئيس الأسد وإمكان فرض أمر واقع”.
عندئذ شعر بأن الكلام جدِّي، فأمسك بيدي قائلاً: “روق. على مهلك. أعد كلامك“.
أعدت الكلام وقصصت عليه ما دار بيني وجميل السيِّد وقائد الجيش.
انتفض فجأة وقال حانقاً: “هل تريدون إدخالي أنا وأنتم إلى السجن؟ هل تريدون أن تُعلَّقوا على المشانق؟ توقَّف. بلا ولدنة“.
وأقفل باب المناقشة في الموضوع.
ثم أضاف: “تذهب فوراً إلى عند العماد لحُّود وتقول له إن هذا الأمر لا أساس له من الصحة، وغير وارد على الاطلاق وبتاتاً. انزعوه من رؤوسكم كلياً“.
قلت مستطرداً: “إذا نجح الانقلاب تكسبون، وإذا أخفق لستم على علم به”.
ردَّ بعصبيَّة: “بلا هذه الصبيانيات“.
في طريق عودتي إلى بيروت لاحقتني مكالماته الهاتفية، واحدة تلو أخرى: “هل وصلت؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعل جميل“؟
كذلك خابر جميل السيِّد طالباً منه التخلِّي عن هذه الفكرة.
انتهى الأمر عند هذا الحد بأن طواه غازي كنعان فوراً. (…)
بعد انتهاء تلك القمَّة، لم يستطع الياس هراوي كبح كيده. غلبه طبعه التآمري. من سيارته وهو عائد من دمشق هاتَفَ إميل لحُّود وأبلغه بأن القرار السوري بانتخابه رئيساً للجمهورية خلفاً له قد اتّخذ وصار باتَّاً
الطبع التآمري لهراوي
أفَلَت رئاسة الياس هراوي، وأطلَّ علينا، بعد طول انتظار، استحقاق جديد.
أسماء كثيرة دخلت في “البازار” كالعادة، وكان المطلوب واحداً مطابقاً للمواصفات التي عكفنا على تحديدها بدقة وترتيب أولوياتها.
على جاري عادته، طلب مني غازي كنعان، أواخر أيلول/سبتمبر 1998، إبداء وجهة نظر خطِّية في المرشحين المتداولة أسماؤهم لرئاسة الجمهورية.
تداولت في الأمر مع جميل السيِّد وجلسنا إلى الطاولة نستعرض الأسماء المؤهَّلة وضمَّت الأربعة الرئيسيين: الوزراء ميشال إده، وفارس بويز، وجان عبيد، وقائد الجيش إميل لحود. (…)
كنت في قرارة نفسي أفهم لماذا طلب منِّي غازي كنعان تأكيد المؤكّد، فهو كان يريد مخرجاً يُعفيه من المسؤولية في حال “شاطت الطبخة”، وكتفاً لبنانية يُلبسها عباءة الملامة، فعلاقتي به، بحلوها ومرِّها، بسلبياتها وإيجابياتها، كشفت له، بأن كتفي هي الأقدر على حمل الأثقال. رُفعت المطالعة التي خرجنا بها، جميل السيِّد وأنا، إلى الرئيس السوري، وفيها ترجيح إميل لحُّود أولاً، يليه جان عبيد، طبقاً لجدول المواصفات التي وضعناها، فكانت على مكتب الرئيس حافظ الأسد قبل أيام قليلة من القمَّة بينه وبين الرئيس اللبناني التي انعقدت في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1998 للبحث في الانتخابات الرئاسية.
بعد انتهاء تلك القمَّة، لم يستطع الياس هراوي كبح كيده. غلبه طبعه التآمري. من سيارته وهو عائد من دمشق هاتَفَ إميل لحُّود وأبلغه بأن القرار السوري بانتخابه رئيساً للجمهورية خلفاً له قد اتّخذ وصار باتَّاً. تصرُّفٌ مريبٌ ومتعمَّدٌ وسيءُ النيَّة، فقد كان بإمكانه أن ينتظر حتى وصوله إلى قصر بعبدا، لينقل الرسالة حسب الأصول، على الأقل من الناحية الشكلية. تقصَّد هراوي من تلك المكالمة تشويه سمعة إميل لحُّود وتصويره بأنه “صنيعة سوريا”، قبل وصول ترشيحه إلى مجلس النواب، كأنما كان وصوله هو إلى الرئاسة صناعة لبنانية لا غبار عليها! (…)
بعد يومين، في 15 تشرين الأول/أكتوبر، انتخب مجلس النواب بإجماع الحاضرين، وعددهم 118 نائباً، قائد الجيش رئيساً للجمهورية، غاب عن جلسة الانتخاب عمر كرامي وكتلة وليد جنبلاط بنوابها السبعة.
– كتاب “أجمل التاريخ كان غداً”، صادر عن دار سائر المشرق، بطبعته الأولى في مطلع العام 2020.
الحلقة 1، أجمل التاريخ كان غداً: شاهد على حقبة:
https://180post.com/archives/10168
الحلقة 2، مشادة تاريخية بين الفرزليين أديب وإيلي:
https://180post.com/archives/10266
الحلقة 3، زحلة تنتظر النجدة منذ 45 سنة:
https://180post.com/archives/10443
الحلقة 4، الماروني يلغي الثنائي الكاثوليكي ويتقرّب من بشير:
https://180post.com/archives/10552
الحلقة 5، هكذا تعرفت على غازي كنعان:
https://180post.com/archives/10690
الحلقة 6، كنعان: دعهما (عون وجعجع) يكسران الجرة:
https://180post.com/archives/10807
الحلقة 7، كنعان يطلب التمديد لهراوي”برفع الأيدي”
https://180post.com/archives/10994