في الشكل، خاطب ماكرون الطبقة السياسية بنبرة تأديبية خارجة عن المألوف لن يستوي بعدها الكلام عن أية علاقة صداقة. بدا كأنه يستعيد لحظة الجنرال غورو، فيما لبنان يحتفل بمئوية تشكُلِهِ ورحيله!
في المضمون، تحدث ماكرون عن مهلة تتراوح بين 4 إلى 6 أسابيع لتنفيذ ورقة الطريق الفرنسية قبل التحول إلى “سياسة حاسمة”. يعني أنه ربطها عملياً إلى ما بعد إنتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهذا طموح أميركي ـ إيراني مشترك، ذلك أن الطرفين تقاطعا على ذلك، عفواً أو تنظيماً أو تآمراً!
منذ إطلاق المبادرة الفرنسية، بدا ماكرون مستعيناً بلغة التهديدات الأميركية وعصاها الغليظة: العقوبات. درجت العادة أن تكون العقوبات أداة. مع الأميركيين، تحولت الأدوات إلى إستراتيجيات، هذه نقطة خلاف جوهرية بين باريس وواشنطن. “الإستعراض المُتقن” لماكرون في قصر الصنوبر مُساجلاً الصحافي الفرنسي المخضرم جورج مالبرونو وسكوت الأخير لم ينقذه من ريبة “حزب الله”.
لقد تولت اللغة الأميركية بالخطاب الفرنسي تحديث مخاوف “الثنائي”. فخطاب العقوبات بتنويعاته الكثيرة كان مُحفزاً للبحث عن حجم الشراكة الفرنسية ـ الأميركية ـ السعودية. وهو السؤال الذي راح يتردد بلا هوادة، وأتت الإجابة عنه متقطعة إنما واضحة بـ”محدودية” حضور وأداء الرئيس المكلف مصطفى أديب الذي ما قدّم جواباً سوى “الاستعانة” بالله وبنادي رؤساء الحكومات. لقد بدا دائماً كـ”poker face” قياساً إلى الحيوية السياسية اللبنانية والمؤامرات التي تسير على أقدامها ذهاباً وإياباً في لبنان، ويفترض به، اي أديب، أنه يُدركها أو خبِرها عندما كان مديراً لمكتب رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي!
أما فرنسا، ومعها الإتحاد الأوروبي، فتفضل سياسة الإحتواء. نُغري حزب الله بجزرة الإعتراف به (جناحه السياسي)، ونقدّم له بعض التنازلات الشكلية (وصولاً إلى إرسال تحية رئاسية فرنسية دافئة إلى السيد حسن نصرالله)، أما في المضمون، فيمكن إحراج حزب الله بالحوار والإجماع اللبناني، عندما يحين أوان العقد الإجتماعي!
ما تستر عليه ماكرون كشفته رزمة العقوبات الاميركية أولاً. ثم خطاب الملك السعودي سلمان ثانياً. تحدث الأخير عن “وجوب نزع سلاح حزب الله في لبنان”. هكذا بدت فرنسا في لبنان ترطن باللغة الأميركية وتتحرك على إيقاع الصافرة السعودية. والحال هذه، فإن كيل الاتهامات الفرنسية صعوداً وهبوطاً ويميناً ويساراً ما عاد يضمن لها الشرط الاساس لاستمراريتها، ألا وهو التوسط بين متنازعين.
قالها ماكرون بالفم الملآن: الهدف واحد. الأميركيون والسعوديون يقولون بحرب تؤدي إلى تكسير رؤوس لبنان واللبنانيين بعنوان “نزع سلاح حزب الله”، يستسلم اللبنانيون في نهايتها، على ما قال الأمير محمد بن سلمان في إجتماع لخلية أزمة لبنان، غداة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، فيأتون إلينا راكعين وزاحفين وجائعين وعندها نفكر بالتدخل من عدمه. أما فرنسا، ومعها الإتحاد الأوروبي، فتفضل سياسة الإحتواء. نُغري حزب الله بجزرة الإعتراف به (جناحه السياسي)، ونقدّم له بعض التنازلات الشكلية (وصولاً إلى إرسال تحية رئاسية فرنسية دافئة إلى السيد حسن نصرالله)، أما في المضمون، فيمكن إحراج حزب الله بالحوار والإجماع اللبناني، عندما يحين أوان العقد الإجتماعي!
أغرب ما في “عظة” ماكرون المُبشّرة بالخراب العميم، إنه خيّر اللبنانيين بين إثنتين. كلتاهما جاءت حاملةً بمعنى ما الكارثة: “إما خارطة الطريق الفرنسية التي يوافق عليها المجتمع الدولي، وإما السيناريو الأسوأ، أي إعلان الحرب ضد حزب الله لينهار ومعه لبنان وهذا ما أرفضه الآن”. هكذا صارت الأمور على الشكل التالي: كارثة أن يبقى الوضع على ما هو عليه. وكارثة أن يحدث التغيير بالعقوبات الاميركية، أو بالتعيين السياسي السعودي لأسباب التأزم في لبنان.. وللسيد نصرالله أن يختار وجبة من بين الإثنتين (غداً سيُعلّق على عظة ماكرون).
ليست “لباقة” مصطفى أديب هي التي سخّفت المبادرة الفرنسية وأفقدتها معناها. من فعل ذلك كان الجهل المُقيم في السعي إلى تشكيل حكومة بعيداً عن فهم عميق لأدوات إشتغال النظام السياسي والطائفي اللبناني. فالمُراد حكومة من دون استشارة الكتل النيابية مع شرط أن توافق هذه على خارج داخلي أو خارج خارجي حتى يحكمها. المطلوب أن تغدو الأكثرية النيابية أقلية برلمانية والعكس صحيح. المأمول بشدة أن يطعن النظام بشرعيته لأن متظاهرين لم ينجحوا بالتحول إلى “كتلة إجتماعية” هتفوا ضده في تظاهرات “الويك أند”.. المسموح أن يتحول مجلس ملة “نادي الرؤساء” إلى مُقرر حاسم في الفاعلية السياسية نيابةً عن الجميع اللبناني وغالبيته طائفي حتى النخاع العظمي. المرجو من رئيس جمهورية يتفجع أناء الليل وأطراف النهار على “الصلاحيات المسيحية” أن يوقع على “بياض الثقة” التي محضها الدور الفرنسي المُلتبس لسفير لبناني في ألمانيا إستُدعي لـ”حكومة مهمة”. كل هذا يُفسر هُزال المبادرة الفرنسية وعشوائيتها وانحسار السياسة فيها وعنها. أكثر من ذلك، إنه يشرح بإسهاب غُربة المبادرة الفرنسية عن “الخاص” في النظام السياسي اللبناني وآليات إشتغاله العميقة.
سقطت المبادرة جراء تداخل الداخلي بالإقليمي والدولي الممتد من السعودية فإيران ثم الولايات المتحدة الأميركية. كل شيء في لبنان يعمل بطريقة تنفي كل طارىء على النظام السياسي وصلابته الطائفية
بالمقابل، هذا لا يلغي سقوط المبادرة الفرنسية صريعة الاجتماع اللبناني الكثيف الهويات، وهي بالتعريف طائفية أولاً وأخيراً. وهي عنيفة إذ تستنفر بعضها على بعض. هويات لا تقيم وزناً للهوية الوطنية. هويات الكتل ـ الجماعات تتقدم على هوية الكل إذا إنوجدت أو أقام البعض لها حساباً. سقطت المبادرة جراء تداخل الداخلي بالإقليمي والدولي الممتد من السعودية فإيران ثم الولايات المتحدة الأميركية. كل شيء في لبنان يعمل بطريقة تنفي كل طارىء على النظام السياسي وصلابته الطائفية. عمله يأتي تحت لافتات ومسميات كثيرة بكثرة الهويات المُشبعة بأدوات التعطيل ضد كل تحديث سياسي ـ ثقافي يطال البنية الأساسية للنظام الطائفي.
وليس افتعالاً ولا مبالغةً الربط بين أمرين في مضبطة ماكرون الاتهامية: إستهداف الشطر الإسلامي (السني والشيعي) من النظام باعتباره طائفياً وطائفيته سبب الإطاحة بالمبادرة الفرنسية، واستثناء الشطر المسيحي وإعفاء صلات وصله بالتعطيل من خلال إصرار رئيس الجمهورية وما يمثل على حكومة موسعة، وعلى إصرار عميق وبتصميم على المشاركة بالتأليف قبل الذهاب إلى البرلمان لنيل الثقة. والحال هذه، فإن الرئيس الفرنسي يحمل مبادرةً مفادها إستعادة المسيحيين من دون امتلاك الأدوات اللازمة لهذه الاستعادة. فلا “التيار العوني” مهجوس بـ”الأم الحنون” ولا “القوات اللبنانية” تُشكل أرجحية مسيحية قادرة على تأمين قوة دافعة للحضور الفرنسي المُستجد بعد سنوات مديدة تشابكت خلالها الأدوار الأميركية ـ السورية ـ الإيرانية. وفي الحالتين، غاب المسيحيون أو غُيبوا.
في ما خص الشطر الإسلامي، صوّر ماكرون مسلمي النظام، سنةً وشيعةً، باعتبارهم يعكسون صراع الإقليم ومأزقه التاريخي. أخذ على سعد الحريري أنه “أخطأ في إضافة الشرط الطائفي لتشكيل الحكومة”، وأكد أن “الخريطة الفرنسية لم تكن تتضمن شروطاً طائفية” (جاراه في هذا القول الزعيم الدرزي وليد جنبلاط). بالمقابل، خاطب “حزب الله” و”حركة أمل” بوصفهما حائط الصد أمام أي تغيير، إتهم الأول بالمسؤولية عن “نظام الرعب”، معتبراً أن “لا الحزب ولا الحركة يريدان التسوية. وهما قررا أنه يجب ألا يتغيّر شيء في لبنان”. هكذا صار النظام اللبناني أسير الاشتباك الشيعي ـ السني، من دون صلات مسيحية، سوى تذكير ميشال عون بموعد الإستشارات الملزمة!
كلام ماكرون وتوصيفاته حملت معاينة عن بعد للأحجام والأوزان اللبنانية الداخلية. ذلك أن “حزب الله” هو الأقدر على التقرير في المعركة الجيوبوليتيكية بالمنطقة. فهذا الحزب توّج مساره التصاعدي باعلان الطائفة الشيعية صاحبة دورٍ موازٍ للطوائف المسيحية والسُنية. فإذا كانت الأولى أناطت بنفسها دور فتح لبنان على الحداثة الغربية، فيما الثانية انتزعت الاستقلال عن الدول العربية مُستعينة بالبريطاني عبر النحاس باشا في مصر، فإن الطائفة الشيعية بخوضها حرب التحرير من الإحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى الحرب على داعش مروراً بحرب تموز/يوليو 2006، أصبحت هي المقررة في موقع لبنان الجيوسياسي، من دون أن تكون مضطرة إلى الإستئذان. يكفي أنها تدّعي أنها بما قررّته وتقرره تحمي نفسها وتحمي لبنان!
أغفل الرئيس الفرنسي أن العلاقة التي جمعت الرئيس رفيق الحريري بالرئيس جاك شيراك كانت استثناءً على الأصل السياسي للسُنة وهي لا تنسحب على كل تاريخهم الأهلي. أما الشيعة وعلاقتهم بفرنسا فيكفي العودة إلى تاريخ أدهم خنجر لإكتشاف أهوالها
وما لم ينتبه إليه الرئيس الفرنسي هو أن حزب الله يبدأ من غزة وقد لا ينتهي باليمن مروراً بسوريا والعراق، ناهيك عن دوره بمعارك البوسنة في تسعينيات القرن الماضي. وما لم ينتبه إليه الرئيس الفرنسي أيضاً وأيضاً هو أن “حزب الله” وبعد هزيمتين إنتخابيتين عامي 2005 و2009 أوجد تعريفاً للفاعلية السياسية مغايراً تماماً لكلاسيكية أي نظام سياسي. فغداة هزيمة 2005 الإنتخابية، قرر أسر جنديين إسرائيليين ـ شرارة حرب 2006، وبعد هزيمة 2009 الإنتخابية، أسقط حكومة سعد الحريري وأتى بحكومة يرأسها نجيب ميقاتي وذهب إلى سوريا للمشاركة بحرب إقليمية ـ دولية ضد داعش. في المحطتين، كان حزب الله يعلن للبنانيين أن هناك عطباً بنيوياً في نظامهم السياسي. هو العطب ذاته الذي يمنع على الدوام تشكل الحكومات إلا بضمانات صارت لها مسمياتها من “الوزير الملك” إلى “الثلث الضامن” أو “الثلث المعطل” وأخيراً “الحقيبة الميثاقية” أي وزارة المال.
لقد مارس ماكرون تعمية عامة عندما اعتبر ان القوى الداخلية تصرفت من بنات أفكارها، ولم يتطرق إلى الأدوار الإيرانية والسعودية، وإلى النفوذ الأميركي الثابت في لبنان منذ “حلف بغداد”. بالتوصيف الشكلي، قال ماكرون ما هو صحيح نسبياً فقط. لكن بالمضمون، قرر أن ينزع الأسباب الخارجية. هو يريد إمساك العصا من النصف بين إيران والولايات المتحدة (ضمنا السعودية)، وهذا بالتحديد يشكل إستحالة سياسية الآن خصوصاً بعدما بلغته المنطقة من تشابك واشتباك يحضر فيه العامل الإسرائيلي للمرة الأولى بقوة قبالة إيران.
ما قاله الرئيس الفرنسي في مخاطبة طرفي النقيض الشيعة والسنة كان عاماً. لكن ما هو خاص وعميق أنه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005 وتوزع القوى بين فريقي 8 و14 آذار، بات استقرار لبنان مرتبطا دائماً بالاستقرار السني ـ الشيعي. واللاستقرار ارتبط على الدوام بالطرفين أيضاً. هذا كان يعني بمعنى ما خروج المسيحيين من دائرة التأثير السياسي، ولو أنهم لا يدركون ذلك أو يتعامون عنه.
ليس لعاقلٍ أن يُغفل أن المشكل السُني ـ الشيعي صار خلافاً ميثاقياً يعلمه الجميع لكنهم ينكرونه أو أنهم يُقنّعونَه بـ”مقتضيات العيش المُشترك” المهدد الآن بنداءات فيدرالية وأخرى تدعو إلى لامركزيات موسعة جداً، مالية وإدارية، بالحد الأدنى. وهذا الخلاف بين الطرفين راهناً، هو على شاكلة الخلاف الميثاقي الذي كان قائماً بين المسلمين من جهة والمسيحيين من جهة أخرى. وبهذا المعنى، فان تبادل الفيتوات بين “السُنية السياسية” و”الشيعية السياسية” هو إعلان مُقنع لخلافهما الميثاقي ولأدوار كل منهما على المستوى الإقليمي.
في الأحوال كلها، أغفل الرئيس الفرنسي أن العلاقة التي جمعت الرئيس رفيق الحريري بالرئيس جاك شيراك كانت استثناءً على الأصل السياسي للسُنة وهي لا تنسحب على كل تاريخهم الأهلي. أما الشيعة وعلاقتهم بفرنسا فيكفي العودة إلى تاريخ أدهم خنجر لإكتشاف أهوالها.
تبقى نقطة أخيرة. للرئيس الفرنسي أن يعيد النظر بفريقه السياسي المعني بالملف اللبناني. أن يعيد تدريب وتأهيل “الخلايا الفرنسية النائمة” في لبنان. لقد أثبت هؤلاء أنهم يقدمون إعتبارات على أخرى. لهم إنحيازاتهم ومصالحهم وطموحاتهم. لا تكفي السير الذاتية المنمقة ولا أن تكون خريج فرنسا حتى يصدقك إيمانويل ماكرون أو سفيره أو بعض الموظفين الدبلوماسيين في قصر الصنوبر.