برزت هذه الإشكالية كأحد تداعيات سنوات حكم دونالد ترامب الاستقطابية، التي أسقط فيها الحدود بين ما هو داخلي، وبين ما هو خارجي، بنمط شركاتي يبتعد كل البُعد عن النهج الكلاسيكي الأميركي، في إرساء استراتيجية بعيدة المدى للسياسات الخارجية، مع الحرص على أن يكون مردودها الداخلي مرتبط دوماً وبشكل شعاراتي بالمنافسة الانتخابية بين الحزبين، وليس الهيمنة على مجريات السياسة الداخلية وتأثيرها على يوميات المواطن الأميركي.
الاستثناءات التي حدثت، وأن كانت بمثابة كشف لوهم “الاستثناء الأميركي” منذ حرب فيتنام وحتى حكم ترامب، أكدت على قاعدة أصبحت بدورها العنوان الأبرز في سياسة بايدن الخارجية المزمعة، هي عودة الإمبراطورية الأميركية لممارسة دورها بفاعلية، كما كانت الحال عشية انتهاء الحرب الباردة، ما يعني قدرتها شبه المطلقة على فرض إرادتها الخارجية على الخصوم والحلفاء على حداً سواء، برغم المشاكل الداخلية، ابتداءً بتداعيات جائحة كورونا، وليس انتهاءً بالاستقطاب الحاد الذي بلغ ذروته في السنوات الأربع الماضية.
عودة المؤسساتية وخلافات “شركاء ترامب”
يضاف إلى ما سبق، ضبابية استشراف الخطوط العامة للسياسات الأميركية الخارجية في ولاية بايدن الأولى، إذ ستكون أمامه أولويات خارجية وداخلية قد يكون الشرق الأوسط على رأسها، مثلما كان الأمر في ولاية باراك أوباما الأولى، التي شغل فيها بايدن منصب نائب الرئيس.
ولكن التعقيد الذي أضافه ترامب في السنوات الأربعة الماضية في تحولات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط قد افضى إلى ضرورة مُلحة أن تكون هناك مسارات متوازية في استعادة واشنطن لدورها، ولمقدراتها الدبلوماسية، بجانب استعادة مناطق نفوذها وإدارتها وفق استراتيجية هي بنفسها قيد التحول والتغيير والتجريب.
هذا يعني أن مستقبل العلاقات مع حلفاء أميركا، سواء في الشرق الأوسط أو في العالم، قد بات جزءاً من استراتيجية الأمن القومي الأميركي، وسيحتل رأس أولويات وزارة الخارجية الأميركية في استعادة دورها المؤسساتي.
كل ذلك يجعل الشرق الأوسط بكل تعقيداته ساحة مناسبة لعودة التيار المؤسساتي كصانع ومتخذ للقرار بعد تهميش على مدار السنوات الماضية، ولكن لا يعني بالتبعية أن الأولويات الأميركية ستحدد وفق أولويات الحلفاء وانقساماتهم التي استفاد منها ترامب تماماً كاستفاد هؤلاء من من الانقسام الذي أحدثه في الداخل الأميركي، أو حتى التوافق على مسافة وسط كمرحلة انتقالية مثلما كانت الحال في ولاية أوباما الثانية، وذلك لأمرين رئيسيين:
- الأول هو أن الصراعات بين “حلفاء واشنطن” باتت على قدر من التعقيد، يحتاج فيه الوصول إلى وسط لحلحلته إلى جهود وموارد يرى بايدن وفريقه أن ثمة قضايا خارجية أخرى، بما في ذلك في الشرق الأوسط – كالعودة للاتفاق النووي وتحديد مستقبل نفوذ إيران – أَووخاصة مع كل الظروف الاستثنائية على كافة الأصعدة، وهو ما حدث بالفعل في لبنان والتحركات الأميركية الأخيرة هناك.
- الثاني وهو أن هؤلاء “الحلفاء” يتصارعون باطراد في السنوات العشر الأخير على ما تبقى من امتياز الحماية الأميركية، الذي تحول في ولاية ترامب إلى مزاد علني يفوز به من يدفع أكثر أو يقدم خدمات انتخابية له ولنتنياهو، سواء كان الدافع تغيُّر محددات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وارتفاع كُلفة هذه الحماية، أو نجاحهم في تعويض فقدان الامتياز الأميركي بترتيبات إقليمية ودولية سرعان ما تحولت إلى أوراق مناورة مع واشنطن بفاعلية تضخمت في عهد ترامب، إلى الحد الذي جعل ولاءهم للولايات المتحدة موضع شكوك في أروقة صنع القرار في واشنطن.
الشرق الأوسط بكل تعقيداته ساحة مناسبة لعودة التيار المؤسساتي كصانع ومتخذ للقرار بعد تهميش على مدار السنوات الماضية
لهذا جاء اختيار كل من جيك سوليفان وانتوني بلينكن لمنصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية لاعتبارات أكثر أهمية من الكفاءة والخبرة والصورة والعلاقات العامة، وهي الاعتبارات التي هيمنت على المفاضلة بين المرشحين لتولي حقائب هامة مثل الاستخبارات الوطنية والبنتاغون؛ حيث يجمع الاثنان القدرة على تكوين رؤىً واستراتيجيات بعيدة المدى على مستوى الخارج، ما يتوافق مع محددات برنامج بايدن وسياساته من حيث عودة ما يسُمى بتيار المؤسسات لمراكز اتخاذ القرار، وذلك بعد سنوات من تهميش ترامب للمؤسسات الأميركية المختلفة خلال السنوات الأربع الماضية بشتى الطرق، ابتداءً من التغيرات المستمرة في قيادتها إلى تخفيض ميزانياتها، وغيرها من الإجراءات التي ساهمت، برأي بايدن، في انتكاس واشنطن في الاضطلاع بدورها المعهود على مستوى العالم والشرق الأوسط تحديداً.
وبخلاف أن توجهات وآراء سوليفان بلينكن، ومسار تفاعلهما مع العمل العام في مختلف المناصب، والمهمات التي تولياها، والتي تدل على توافقهما حول المبادئ والأفكار العامة التي طرحها بايدن خلال حملته الانتخابية، فأن للرجلين باع كبير في كيفية تحويل تلك الأفكار إلى سياسات وإجراءات على أرض الواقع.
لقد عمل بلينكن لسنوات كمساعد لبايدن في مختلف المناصب والمهمات التي تولها، ومعروف عنه قدرته على المبادأة والمبادرة ووضع المخططات والاستراتيجيات الطموحة الخاصة بالشرق الأوسط تحديداً، وذلك بشكل جعل صوته مميزة على طاولة اتخاذ القرار في عهد باراك أوباما، بالرغم من أن منصبه حينها لم يخوّله حتى خبرة تشريعية كنائب أو سيناتور.
علاوة على ما سبق، لم يجد بلينكن حرجاً في انتقاد أوباما-الذي أثنى على اختيار بايدن له- علانية بخصوص سياساته تجاه سوريا وتحديداً عندما قرر الأخير عدم شن الضربة العسكرية في أواخر العام 2014.
أما سوليفان، فعلى الرغم من ابتعاده تاريخياً عن فريق بايدن وتياره في الحزب الديموقراطي، إلا أنه كان بمثابة الذراع اليمنى لهيلاري كلينتون في مختلف المناصب والمهمات التي تصدرت لها، وكان مثله مثل بلينكن، من حيث وضع الرؤى وتجريب السياسات في الخارج، وأهمها مشروع فدرلة العراق، ومحاولة إيجاد قنوات تواصل واتصال مع حركة طالبان بعيداً عن الدوحة التي كال لها اتهامات مراراً بدعم الإرهاب، والأهم آراءه حول نشاط قنوات الضغط والنفوذ في واشنطن التي يشرف عليها ويمولها مَن يفترض بهم أنهم حلفاء لها، والتي كان لها تأثير في اتخاذ القرار في أروقة السياسة والتشريع في العاصمة، وبلغ ذروة نشاطها في عهد ترامب.
انعكاس الاستقطاب الأميركي على المنطقة
ما سبق يعكس، مع مواقف وتصريحات أخرى لكل من بلينكن وسوليفان، اتجاهاً نحو إعادة هيكلة خريطة حلفاء واشنطن من منظور أمنها القومي/العالمي، وهو الأمر الذي رأى أوباما في مذكراته المنشورة مؤخراً أنه لم يُشكل أولوية لدرجة أنه باندلاع احداث 2011 في المنطقة لم يكن هناك سيناريو أميركي لكيفية تموضع وهيكلة خريطة التحالفات وتراتبية وكالة مصالح الولايات المتحدة بين حلفائها، وهو ما انتج صراعاً إقليمياً في ما بينهم سرعان ما تحول إلى استقطاب مزمن أشبه بالاستقطاب الداخلي الأميركي نفسه.
ومن زاوية ملفات وقضايا المنطقة، فإن التوازن المقصود الذي عمد إليه بايدن في تعيينه لكل من سوليفان وبلينكن يشي بأن سياسته الخارجية ستقوم، بجانب استعادة مكانة واشنطن على الساحة الدولية ومواجهة ما يسميه بـ”خطر الاستبداد”، على مقاربة يتراوح مداها بين معالجة آثار سياسات إدارة ترامب، وبين حلحلة المشاكل المزمنة في طبيعة علاقة واشنطن بحلفائها، والتي نتجت عن تراكم سياسات وقرارات ساهم بايدن نفسه في تشكيلها خلال توليه مختلف المناصب والمهمات في مسيرته السياسية؛ فسياسات واشنطن “الديموقراطية” -أي في فترات تولي الديموقراطيين للسلطة – في الشرق الأوسط كانت بمثابة دائرة مفرغة من ردود الأفعال ومواجهة تداعيات وإدارة خسائر الإدارات الجمهورية السابقة عنها، وهو ما جعل المنطقة فعلياً رهن للخلاف -الذي اضحى استقطاباً بعهد ترامب- بين الحزبين، وبين التيارات داخل كل حزب من دون أن يتحمل أي منها مسؤولية القرارات الخاطئة أو معالجتها.
ومن هذا المنظور، فإن ما سيقوم به الثنائي الأميركي من تحولات في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، والتي يسميها بايدن بـ”استعادة أميركا لدورها”، ستظل محدداته رهناً بمجريات الاستقطاب الداخلي الأميركي وأولويات أطرافه في واشنطن؛ فمثلما استخدم ترامب المنطقة كمهرب للأمام من اخفاقاته الداخلية وزيادة “نجاحاته” أمام مؤيديه، فإن بايدن يريد أن يؤكد أمام من انتخبوه انه سيضع حداً لـ”الشيكات على بياض” وما شابه من تفاصيل نمط إدارة ترامب لعلاقات بلاده مع “حلفائها”، الذين بدورهم استغلوا فترة ترامب لتكريس مكاسب في أكثر من اتجاه وملف لحين انتهاء الانتخابات الأميركية، وبات عليهم التموضع بحسب أولويات الإدارة الجديدة.
في الصورة الكاملة، قد يعني ما سبق أن العناد البادي حالياً من جانب حلفاء واشنطن تجاه ملامح توجهات بايدن بخصوص ملفات مثل حقوق الإنسان والحريات العامة، وكذلك استمرار تضارب واختلاف الأولويات بينهم، قد يمتد لأن يصبح مُناخاً في المستقبل القريب، يرتهن استمراره من عدمه بمدى نجاح كل من بلينكن وسوليفان في إدارة التوازن بين تحولات استراتيجية الولايات المتحدة وبين تطبيق سياسات/تصريحات بايدن الخاصة بالمنطقة، والأهم توظيف -وليس حل- الشقاق بين من كانوا حلفاء واشنطن واصبحوا يصنفون من جانب ساكن البيت الأبيض الجديد على أنهم “شركاء” ترامب، عبر إجبارهم على التموضع حسب أولويات بايدن الخارجية، وهو ما سيفرض تشظياً جديداً قد يؤدي إلى تغيرات جذرية في مكونات الاستقطاب الإقليمي نحو أفق قد يتشابه مع أجواء الحرب الباردة.