على الرغم من أهمية الاتفاق مع طالبان على الصعيد الأميركي، إلا أنه لم يحظَ باهتمام إعلامي -مقارنة باتفاقيات التطبيع مع إسرائيل- على المستوى العربي، فقد مرّ بشكل سريع ومقتضب، ولم ينعكس بالشرح والتحليل كعادة إعلام محاور الشرق الأوسط، التي على اختلافها واختلاف مواقفها بين الترحيب والشجب تجاه موجة التطبيع الأخيرة والمتوقعة منذ سنوات، جعلت من الاتفاق الإسرائيلي – الاماراتي والاتفاق الإسرائيلي-البحريني الخبر الأبرز على مدار الأسابيع الماضية.
على المقلب الآخر، وبعد حوالي 20 عاماً، خلفت مئات الآلاف من الضحايا، يجلس وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، على مائدة تفاوض واحدة مع مندوبي وممثلي حركة طالبان لبحث أخر ترتيبات الانسحاب الأميركي وما سيؤول إليه الصراع بين الحكومة الأفغانية -الموالية لواشنطن- بين الحركة الإسلامية التي يحظى قادتها بتحفيز أميركي متمثل في رفع أسماء قيادييها من قائمة العقوبات والمطلوبين، وفي دعم سياسي يتمثل في تأييد مطالب الحركة بالإفراج عن أعضائها المتورطين في قتال جنود التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لغزو أفغانستان عام 2001، وذلك بعد تمهيد شاق للجولة الأخيرة من المفاوضات التي كانت قد استؤنفت مطلع العام الجاري.
ينهي الاتفاق الأخير –في حال تنفيذه- الوجود الأميركي العسكري الرسمي في أفغانستان، والذي يبلغ حالياً حوالي 13 ألف جندي في أكثر من 20 قاعدة عسكرية في مختلف أنحاء البلاد، وهو عدد لا يشمل قوات “الناتو” وقوات الشركات العسكرية الخاصة المتعاقدة مع البنتاغون أو مع الحكومة الأفغانية، والتي تجاوز عددها 22 ألف فرد في العام 2018، والمتوقع أن يتم انسحابها بشكل موازٍ مع انسحاب القوات الأميركية دون وضوح آلية تنفيذ ذلك.
وعلى الرغم من تعطل المفاوضات النهائية خلال العام الماضي أكثر من مرة واقترابها من حد الانهيار، فإن الولايات المتحدة سعت إلى إتمام المفاوضات باتفاق نهائي ينهي الحرب الأطول في تاريخها، ويضع ختاماً لما قارب عقدين من الزمن، بين دواعٍ استراتيجية عنوانها الرئيسي انسحاب/إعادة تموضع في وسط آسيا، وارتهان ذلك بعودة القوات الأميركية من هناك، وإنهاء فصل الحرب الأطول، ووقف خسائر مادية هي الأكثر كٌلفة في تاريخ الحروب الأميركية تجاوزت سقف التريليون دولار، وبين دواعٍ انتخابية رئاسية وتشريعية هي الأهم والأكثر إثارة للجدل، وذلك بالنظر إلى مناخ الاستقطاب الداخلي الحاد في الولايات المتحدة، والذي يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاستثمار فيه بحدود قصوى لا تقف عند نجاحه في فترة رئاسية ثانية، بل تتعداها باتجاه إنهاء وحسم ما لم لم يستطع إسلافه حسمه من ملفات معقدة ومتشابكة خاصة في السياسة الخارجية في الشرق الأقصى، ومن ضمنها الانسحاب من أفغانستان، الذي قد تعهد به منذ أن كان مرشحاً للانتخابات وارجأه حتى الأشهر الأخيرة السابقة لقرب فوزه بولاية ثانية.
وبحسب ما نُشر وسُرب في آذار/مارس الماضي من بنود الاتفاق ذي الملاحق السرية، فإن واشنطن ستعمل على تخفيض سريع لقواتها في أفغانستان خلال 14 شهراً ضمن ثلاث مراحل. الأولى خلال الأسابيع القليلة المقبلة وتُخفض فيها القوات الأميركية لنحو 8000 جندي، ثم تقليص الانتشار الأميركي في خمس قواعد عسكرية، ومن ثم الانسحاب التام، وذلك في حال التزمت حركة طالبان ببنود الاتفاق المثيرة للجدل وخاصة في ما يتعلق بترتيبات ما بعد الانسحاب الأمنية والسياسية.
وباستثناء الدواعي الانتخابية وتأثيرها على توقيت وإخراج الاتفاق الأخير، إلا أنّ ثمة طابعاً غالباً على نمط التفاوض بين واشنطن وطالبان، حدوده الدنيا بالنسبة للأولى إنهاء الكارثة الاستراتيجية التي مثلت استنزافاً طويل الأمد على مدى 19 عاماً، وبالنسبة للثانية فإنه يمثل إقرار أمر واقع بالسيطرة والهيمنة على الأرض بالمعنى العسكري والسياسي والمجتمعي بعد إخفاق الولايات المتحدة في القضاء على الحركة التي لا تلقي بالاً للتوقيتات الانتخابية الأميركية، والتي استمرت في عملياتها العسكرية ضد قوات الحكومة الأفغانية الموالية لواشنطن خلال الأشهر الأخيرة بوتيرة تصعيد وليس تهدئة، ما عطّل التوقيع على الاتفاق الذي كان مقرراً في أواخر العام الماضي.
تضع طالبان نصب أعينها السيطرة على الحكومة الأفغانية القادمة بشكل كامل، واشتراط الإفراج عن الآلاف من سجنائها قبل أية تهدئة مع الحكومة الحالية، التي بدورها لا تثق كثيراً في السلوك الأميركي المتعجل
وطبقاً لهذه المقاربة، أتت جولة المفاوضات الأخيرة على ضوء اعتماد واشنطن فصل مسألة الانسحاب عن الوصول إلى اتفاق شامل يرتب للمرحلة التالية له، وترك هذه المسألة رهن للتفاوض بين الأطراف الأفغانية في الداخل برعاية أميركية كبند من بنود الاتفاق الأخير، وهو الأمر الذي تبدو فيه تصريحات ترامب وبومبيو متفائلة أكثر من اللازم، على عكس طالبان التي باتت تضع نصب أعينها السيطرة على الحكومة الأفغانية القادمة بشكل كامل، واشتراط الإفراج عن الآلاف من سجنائها قبل أية تهدئة مع الحكومة الحالية، التي بدورها لا تثق كثيراً في السلوك الأميركي المتعجل للاتفاق كإنجاز انتخابي يخص شخص ترامب ولا يلقي بالاً بمستقبل “حلفاء واشنطن”.
أما على مستوى علاقة الإدارة الأميركية بشركائها، فإن الخلاف الخليجي-الخليجي المندلع رسمياً منذ ثلاث سنوات بات بالنسبة لترامب غير ذي معنى، خاصة إذا نُظر إلى الدور القطري الأخير بالنسبة لساكن البيت الأبيض واستفادته الانتخابية منه، وهو الامر الذي يوازي ويفوق في بعض جوانبه اتفاقيات السلام الموقعة بين أبوظبي والمنامة وتل أبيب؛ فناهيك عن الارتباط المباشر بين انهاء الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، فإن ثمة استفادة بلغت أقصاها طيلة سنوات الخلاف بين الدوحة وباقي العواصم الخليجية والعربية قد حققها ترامب اقتصادياً وسياسياً، مثلت ذروتها في التنافس بينها لتقديم خدمات انتخابية للإدارة الأميركية تتمثل في صنع منجزات خارجية ولو بشكل دعائي مثل ما يسمى بـ”صفقة القرن”، ورسمية عبر تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية. وهنا يأتي تمايز دور الدوحة التي حسب تصريحات الرئيس الأميركي المتواترة في الأسابيع الأخيرة ساهمت في إنجاز ترامب الانتخابي الأهم على مستوى داخلي وخارجي وهو المشاركة في تأمين الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والذي على عكس اتفاقيات التطبيع العربية-الإسرائيلية الأخيرة يرتبط بشكل ميكانيكي بشعبية ترامب وقدرته على حشد مؤيديه في الانتخابات الرئاسية الأصعب في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
ثمة إلحاح من جانب ترامب على إنهاء الخلاف الخليجي-الخليجي، ليس بدافع رد الجميّل للدوحة على دورها في انجاز الاتفاق مع طالبان، ولكن لأن هذا الخلاف حُققت منه الاستفادة القصوى أميركياً على مختلف الأصعدة
وطبقاً للسابق وكخلفية للانتخابات الأميركية وعلاقاتها بكل قضايا وملفات المنطقة تقريباً، فإن على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي ثمة إلحاحاً ترامبياً على إنهاء الخلاف مع قطر، ليس بدافع رد الجميّل للدوحة على دورها في انجاز اتفاق بين واشنطن وطالبان، ولكن لأن الخلاف الخليجي-الخليجي حُققت منه الاستفادة القصوى أميركياً على مختلف الأصعدة، وأن ترتيبات الإدارة الأميركية الحالية -إذا فاز ترامب بولاية ثانية- تفترض نوعاً من الاصطفاف بين شركائها في الخليج والمنطقة عموماً في معظم الملفات، وعلى رأسها شمولية التطبيع العربي مع إسرائيل، والذي عبر عنه الرئيس الأميركي في احتفالية التوقيع التي استضافها في البيت الأبيض حين قال إنّ دولاً خليجية أخرى في الطريق، وهو الأمر الذي تجاوبت معه قطر، حين أكدت التزامها بـ”مبادرة السلام العربية” التي صاغتها وحملتها السعودية، والتي صمتت ايجابياً على القفز على مبادرتها التاريخية في اتفاقيات التطبيع الأخيرة، لتتحدث عنها الدوحة على النحو السابق، وهو ما يعني وجود هامش سعودي لمصالحة خليجية وشيكة بإشراف أميركي كاصطفاف أخير بين شركاء ترامب قبيل حربه الانتخابية.