وُصفت القمة الأوروبية في بروكسيل، يومي الخميس والجمعة الماضيين، بأنها كانت الأكثر إنقساماً منذ عقود بين الأعضاء الـ27. الإنقسام كان حول إقتراح قدمته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بمساندة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل عقد قمة أوروبية – روسية تأخذ في الإعتبار “المصلحة المشتركة” للجانبين وتُرسّخ الإستقرار في وقت ترتفع فيه التوترات في البحر الأسود على ضوء الإحتكاك البحري الروسي – البريطاني، وبعد مضي ثلاثة أشهر فقط على قرع طبول الحرب على الجبهة الأوكرانية.
استمر الجدل الأوروبي – الأوروبي يومين وقارعت ميركل الحجة بالحجة، لكن بالأخير تغلبت جمهوريات الخط الأمامي على الجبهة الشرقية، ولا سيما بولندا وجمهوريات البلطيق على فرنسا وألمانيا ليطوى الإقتراح الألماني -الفرنسي. ولم تخفِ المستشارة مرارتها لدى خروجها من القمة عندما قالت إن زعماء الإتحاد الأوروبي افتقروا إلى “الشجاعة” لإتخاذ قرار بعقد قمة مع روسيا.
وقبل أن تغادر ميركل القمة، وقفت أمام النواب الألمان في البوندستاغ ببرلين لتقول بصراحة، إنه ما دام بايدن عقد قمة مع بوتين، فإنها لم تعد ترى مانعاً من أن يقدم الإتحاد الأوروبي على خطوة مماثلة.
تبدو ميركل وكأنها لا تريد أن تترك أرضاً محروقة لخلفها وترغب في تطبيع العلاقات مع الكرملين قبل تسليم زمام الحزب للاشيت
ولا يمكن فصل الإندفاع الألماني – الفرنسي للتقارب مع روسيا، عن نتائج القمة الاميركية – الروسية في جنيف والقرار ببدء حوار استراتيجي بين واشنطن وموسكو، فلماذا تتخلف أوروبا عن ركب التحول الجاري في العلاقات بين البيت الأبيض والكرملين؟
هل يمكن وصف معارضة بولندا وجمهوريا البلطيق بالسذاجة السياسية أم أن قرار جيران روسيا ينبع من الخشية من فقدان الحماية الأميركية في حال مضيهم في تأييد برلين وباريس؟ رئيس الوزراء اللاتفي كريسيانيس كارنز، قال في بروكسيل إن روسيا قد تعتبر القمة مكافأة لها بعد أن فشلت الديبلوماسية في إنهاء الصراع بشرق أوكرانيا. أما رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيكي، فقد اشترط على بوتين أن يكف عن سياساته “العدوانية” نحو جيرانه، وقال إنه من المستحيل عقد قمة في الوقت الذي تحتفظ فيه موسكو بشبه جزيرة القرم، التي ضمتها من أوكرانيا في 2014، وتنحاز للانفصاليين في شرق أوكرانيا.
بدت برلين وباريس من خلال دعوتهما إلى القمة الأوروبية الروسية وكأنهما يسلمان بالأمر الواقع الذي أوجدته روسيا في أوكرانيا بعد عام 2014. علماً أن ميركل كانت “حجر الزاوية”، وفق تعبير مجلة “بوليتيكو” الأميركية في نظام العقوبات على روسيا. وهي التي نقلت المعارض الروسي أليكسي نافالني بطائرة خاصة من سيبيريا إلى برلين الصيف الماضي على أثر ما قيل عن تعرضه للتسمم بغاز “نوفيتشوك” السوفياتي. ولم تمانع برلين في فرض موجة إثر موجة من العقوبات الأوروبية على موسكو بسبب نافالني وبسبب أوكرانيا وسوريا، وتضامنت مع الولايات المتحدة أوائل العام الجاري في طرد ديبلوماسيين روس على خلفية الإتهامات الأميركية لروسيا بشن هجمات سيبرانية على وكالات فيديرالية أميركية في العام الماضي.
ميركل تغادر منصبها في أيلول/ سبتمبر المقبل وسيخلفها أرمين لاشيت على رأس الإتحاد الديموقراطي المسيحي الذي من المحتمل أن يكون أيضاً المستشار المقبل. ومعروف عنه “واقعيته” وتبنيه طوال حياته السياسية لهجة مرنة حيال بوتين، وتبدو ميركل وكأنها لا تريد أن تترك أرضاً محروقة لخلفها وترغب في تطبيع العلاقات مع الكرملين قبل تسليم زمام الحزب للاشيت. ومعلوم أن المستشارة لم تقطع حتى في أوج الأزمة مع روسيا خيط الإتصالات مع بوتين، ومضت في إنجاز خط الغاز “نورد ستريم-2” على رغم المعارضة الأميركية الشرسة والتهديد بمعاقبة الشركات الألمانية التي شاركت في تشييده.
الأوروبيون تزايلهم فكرة أن التخلي الأميركي عنهم لم يعد ضرباً من المستحيل. وترامب نموجاً. ولذا بدأوا ينظرون جدياُ إلى أن المضي في معاداة روسيا سيكون بمثابة كارثة على القارة
وعلاوة على القمة الاميركية – الروسية، فإن ألمانيا وفرنسا وهما عماد الإتحاد الأوروبي بعد الخروج البريطاني منه، لا شك أنهما بدأتا تنظران بواقعية أكبر إلى مصالح أوروبا في ضوء فشل سياسة العقوبات في جعل روسيا تتراجع في أوكرانيا أو في سوريا، وهما تخشيان من عواقب استمرار الأزمتين على الأمن الأوروبي، فكان لا بد من مبادرتهما التي لم تنجح.
كما أن برلين وباريس تحاولان البناء على نقطة الضعف الروسية الحالية في الإقتصاد بفعل العقوبات ووباء كورونا، وفي تراجع التأييد لبوتين داخلياً وعلى مستوى القارة، كي تنتزعان منه تنازلات أو على الأقل التزاماً متبادلاً بأن لا تؤدي التوترات المتكررة إلى نشوب حربٍ أخرى في القارة، على غرار الإعلان الذي خرجت به القمة الأميركية – الروسية في جنيف في ما يتعلق التعهد بعدم نشوب حرب نووية بين الجانبين.
وفي المقابل، كان لافتاً للإنتباه أن بوتين انتهز الذكرى الـ 80 للهجوم النازي على الإتحاد السوفياتي لينشر مقالاً في صحيفة “دي تسايت” الألمانية في 22 حزيران/ يونيو الجاري، كان المستغرب فيه، وفق ما يعلق ليونيد بيرشديسكي في موقع “بلومبرغ” الأميركي، أن يعيد الرئيس الروسي التذكير بفكرة لشارل ديغول عن أوروبا واحدة “تمتد من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال”، وأن يتحدث في المقال بلهجة تصالحية حيال الأوروبيين على عكس النبرة الحادة التي أطلقها في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007.
كما أن بوتين حاول أن يستغل لحظة الشك الأوروبية بالولايات المتحدة التي غرستها سياسة دونالد ترامب في صفوف الحلفاء التقليديين لأميركا، والتي برغم محاولة بايدن تبديدها، فإن الأوروبيين تزايلهم فكرة أن التخلي الأميركي عنهم لم يعد ضرباً من المستحيل. وترامب نموجاً. ولذا بدأوا ينظرون جدياُ إلى أن المضي في معاداة روسيا سيكون بمثابة كارثة على القارة.
(*) تصحيح: ورد خطأ في مقال “بايدن لأوروبا المترددة.. حيّدنا روسيا فتعالوا نذهب إلى الصين“، الأحد الماضي بتاريخ 20-6-2021، أن بريطانيا سترسل حاملة الطائرات “ونستون تشرشل” إلى المحيط الهادىء، والصحيح أن الحاملة هي “الملكة أليزابيث” فاقتضى التنويه.