تركيا أسيرة خيارات متضاربة.. آن أوان الحسم!

السياسة الخارجية التركية الحالية في حيرة بالغة بين خيارات متضاربة، تتراجع ولا تراجع، كأنها تبحث عن أرض صلبة تقف عليها دون أن تصل إلى وجهتها الأخيرة.

بما هو ظاهر فإن مواقفها المستجدة تغلبها براجماتية زائدة دون أفق معروف لما يمكن أن تذهب إليه فى ملفات ملغمة تدخل فى شواغل قوى إقليمية ودولية نافذة.
وبما هو معلن فإنها تسعى للتهدئة مع مصر ودول الخليج دون أن تراجع فى العمق أسباب الصدام ودواعيه، وتعمل على خفض التوتر مع اللاعب السياسى الأوروبى، خاصة فرنسا، فى أزمتى ليبيا وغاز شرق المتوسط دون أن تتراجع عما اتخذته من مواقف وعقدته من اتفاقيات مطعون في شرعيتها مع حكومة «الوفاق الوطنى»، التى كان يترأسها «فائز السراج».
ثم أنها تسعى أولا وقبل كل شىء إلى ترميم جسورها مع الإدارة الأمريكية الجديدة بقدر حاجتها إلى تأمين مصالحها الاستراتيجية فى الأزمات المنخرطة فيها.
كان مؤتمر «برلين 2» اختبارا حقيقيا للمدى الذى يمكن أن تذهب إليه أنقرة فى الأزمة الليبية، كما كان كاشفا لقدر انعكاس المتغيرات العاصفة فى العالم والإقليم على هذه السياسة التى تحاول أن تتلاءم مع حقائقها دون تخل بقدر ما هو ممكن عن جوهر مواقفها.
فى ذلك المؤتمر تأكد التوافق الدولى على أولوية «سحب المرتزقة الأجانب بشكل متوازن ومتواز».
حدثت تفاهمات أولية تركية روسية فى الكواليس على بدء سحب المرتزقة بشكل تدريجى ودون إخلال بموازين القوى الحالية.
ليس هناك ما يطمئن أن ذلك سوف يحدث فعلا باليسر الذى كتبت به مقررات «برلين 2».
تفجير الموقف سيناريو غير مستبعد والألغام السياسية والأمنية ماثلة فى المشهد بما يهدد إجراء انتخابات ليبية نهاية العام تتولد عنها سلطة شرعية تعيد بناء مؤسسات البلد المتهدمة، توحد مؤسسته العسكرية وقواه الأمنية، وتضع حدا لمعاناة مواطنيه.

هناك أثمان سوف تدفع لإدماج تركيا مجددا فى المنظومة الاستراتيجية الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة، أول استحقاقاتها إسناد دور أمنى فى حماية مطار كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان خشية انهيار الحكومة ونشوء إمارة إسلامية على أنقاضها

لا تملك حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة «عبدالحميد الدبيبة»، المعترف بها دوليا، أي سلطة فعلية لإنفاذ واجباتها الأمنية والإشراف بنفسها على سحب المرتزقة، فأهدافها تتلخص فى تنفيذ مقررات النسخة الأولى من مؤتمر برلين وإجراء انتخابات عامة قبل نهاية هذا العام.
هكذا فإن ما جرى التوافق عليه فى «برلين2» هش إلى حد كبير ومرشح للانتكاس.
كل طرف متداخل فى الأزمة يحاول أن يفهم مخرجات «برلين 2» على النحو الذى يخدم مصالحه، لا مصالح الشعب الليبى.
الروس ينفون أن تكون لهم صلة بـ«مرتزقة فاجنر»، أو أن الكرملين من جلبهم إلى الأراضى الليبية، وغير مستعدين بالوقت نفسه للتخلى عن أى مكاسب استراتيجية حازوها.
والأتراك يتنصلون بصورة أو أخرى من المرتزقة السوريين، الذين أرسلوهم إلى ليبيا، لكنهم يتحفظون على الدعوة لسحب القوات الأجنبية، استنادا إلى أن وجودها «شرعى» وفق مذكرة أمنية موقعة مع حكومة «السراج».
بالنسبة لمصر وأطراف عربية أخرى فإنها لم تكن تخفى قلقها البالغ من التمركزات العسكرية بالقرب من حدودها الغربية، التى كادت تفضى إلى مواجهات عسكرية بالسلاح قبل أن يتم التوصل إلى تفاهمات وقف إطلاق النار والعودة إلى مسار برلين وما أعقبها من فتح حوارات معلنة وغير معلنة.
وبالنسبة للولايات المتحدة وأطراف أوروبية عديدة فإن تقليص النفوذ الروسى فى ليبيا أولوية مطلقة، تدعو إلى سحب جميع المرتزقة، لكن عينها أولا على مرتزقة «فاجنر».
زوايا المصالح متعارضة وفرص المراوغة حاضرة.
المتغير الأمريكى بصعود «جو بايدن» انعكس على مستوى اهتمام البيت الأبيض بالأزمة الليبية.
هناك الآن اندفاع دبلوماسى للمشاركة فى حلحلتها، أو التمركز بمواجهة النفوذ الروسى المتصاعد فى أزمات الإقليم.
هناك أثمان سوف تدفع لإدماج تركيا مجددا فى المنظومة الاستراتيجية الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة، أول استحقاقاتها إسناد دور أمنى فى حماية مطار كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان خشية انهيار الحكومة ونشوء إمارة إسلامية على أنقاضها.
المخاوف الأمنية الأمريكية تبحث عن رديف من داخل الإقليم للسيطرة على التفاعلات الأفغانية المتوقعة وتركيا ترحب بلعب مثل هذا الدور فى انتظار جوائزه حيث الأزمات التى تشتبك فيها – الليبية والسورية وغاز شرق المتوسط.

بالنسبة لفرنسا ـ بالذات ــ فإنها تحتاج إلى تسوية عاجلة للأزمة الليبية حتى تستطيع لملمة أوراقها المبعثرة بتشاد ومالى خشية مزيد من التدهور فى مركز نفوذها الإفريقى

كان اللقاء الذى جمع الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» مع «بايدن» إشارة أولى لإعادة توصيف الأدوار والعلاقات والمصالح بين البلدين.
المتغير الأوروبى حاضر بدوره فى الحساب التركى الجديد.
إذا كان هناك خيار افتراضى الآن بين فرنسا وتركيا، فإنها باليقين فرنسا، لا تركيا كما كان الأمر وقت «ترامب».
بحقائق القوة والمصالح فرنسا ذات أهمية جوهرية فى استراتيجية «بايدن» بحسبانها أهم لاعب سياسى فى الاتحاد الأوروبى، الشريك الطبيعى فى إعادة بناء التحالف الغربى بمواجهة الصين وروسيا بدرجة أقل.
الجدل الأوروبى الحالى حول مستقبل العلاقات مع تركيا تعبير عن حجم الشكوك المتراكمة، لكنه غير مستعص على الحل.
كان لقاء «أردوغان» مع الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» إشارة أخرى لتغيير الدفة فى السياسات التركية من الصدام المحتمل إلى التفاهم الممكن.
بحكم موقعها وحجمها وأدوارها فى حلف «الناتو» فإن هناك حاجة استراتيجية إلى تركيا.
مزعجة أحيانا، لكن لا يمكن الاستغناء عنها.
بالنسبة لفرنسا ـ بالذات ــ فإنها تحتاج إلى تسوية عاجلة للأزمة الليبية حتى تستطيع لملمة أوراقها المبعثرة بتشاد ومالى خشية مزيد من التدهور فى مركز نفوذها الإفريقى.
عواصف المتغيرات دفعت السياسة التركية إلى طلب المصالحة مع مصر ودول الخليج فى وصلات غزل دبلوماسى مفاجئة بداعى تجنب تفاقم الأزمات الداخلية على خلفية التورط فى سوريا والصدام مع مصر لأسباب أيديولوجية على خلفية ما جرى قبل ثمانى سنوات فى (30) حزيران/ يونيو (2013).
تراجع شعبية الحزب الحاكم وترنح قيمة الليرة التركية داعيان إضافيان.
القضية ليست فى إجراء أو آخر، تقدم مفاجئ أو انتكاس مؤقت، بقدر ما أن تجرى المصالحة على أسس واضحة تؤسس لعلاقات صحية ومستدامة.

إقرأ على موقع 180  عن رئيس أميركا.. وفستان رانيا يوسف!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  عودةُ ترامب.. اشتدّي أزمةُ تنْفرِجِيْ!