

هذه الردود المتبادلة تشي بتحريك ملف المفاوضات الأمريكية الإيرانية، ولو أن إدارة ترامب ترغب بجعل تعاملها مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نموذجاً في التعامل مع جميع قادة وقضايا العالم، وهو الأمر الذي وضعه خامنئي في خانة “البلطجة” المرفوضة. يأتي هذا المناخ غداة الحديث المتكرر عن قنوات تفاوضية هدفها تحريك المياه الراكدة بين واشنطن وطهران.
في هذا السياق، تقول مصادر مواكبة في طهران إن ترامب طلب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال تواصلهما الهاتفي لمدة تسعين دقيقة، قبل حوالي الشهر، اقناع الإيرانيين بالجلوس إلی طاولة المفاوضات مع الأمريكيين لحل ما تسمى “المسألة الإيرانية”، وأيضاً للحد من دعمهم لجبهة المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة. وقد وعد بوتين بمفاتحة الإيرانيين بالأمر. وبالفعل، كان هذا الطلب الأمريكي جزءاً من المهمة التي شدّ الرحال لأجلها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلی طهران وأثار الأمر مع نظيره الإيراني عباس عراقجي وأيضاً مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.
واللافت للانتباه أن المسؤولين الإيرانيين لم يُغلقوا الباب أمام ضيفهم الروسي لكنهم ألمحوا إلى أن البيوت يُدخلُ إليها من الأبواب وليس من النوافذ و”اللبيب من الإشارة يفهمُ”، أي عليه أن يدخل هذه البيوت من أبوابها!
وفي ظل هذه الأجواء، أعلن محمد جواد ظريف، معاون الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، الاستجابة لطلب رئيس الجهاز القضائي محسني ايجهأي الذي دعاه إلى ترك منصبه والعودة للتدريس في الجامعة لتخفيف الضغوط علی الحكومة الإيرانية، علی حد تعبير ظريف.
وحسب المتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني، فإن ظريف لم يُقدّم استقالته حتی تكون علی طاولة الرئيس لقبولها أم لا، وانما استُبعد من قبل القضاء بطريقة تليق بشخصيته وموقعيته السياسية والعلمية، وذلك علی خلفية القرار الذي أصدره البرلمان الإيراني بمنع تعيين أية شخصية في مراكز رفيعة في الحكومة إذا كان أحد الأبناء يحمل إقامة دائمة لدى دولة أجنبية أو جنسية تلك الدولة.
وإذا كانت هذه الخطوة قد جاءت بتوقيتها غداة زيارة لافروف لطهران، إلا أن مصادر إيرانية تنفي أن تكون هذه الخطوة قد جاءت علی خلفية المعلومات التي تتحدث عن وقوف ظريف وراء الجهود الرامية لفتح باب المفاوضات مع إدارة ترامب. لكن التيار الأصولي وتحديداً حزب “بايداري” (الصحوة) الإيراني، صاحب النفوذ الكبير في أجهزة الدولة الإيرانية، بما في ذلك في مجلس الشوری (البرلمان) نجح في الإطاحة به لأن قيادة الحزب تعتبر ظريف مهندس المفاوضات مع الجانب الأمريكي وأن وجوده في كابينة بزشكيان هدفه إعادة صياغة مسار المفاوضات مع واشنطن.
بدوره، حاول بزشكيان عدم الرضوخ للضغوط التي مارسها الأصوليون عليه، وعلى هذا الأساس، رفض استقالة كان قد تقدم بها ظريف في آب/أغسطس الماضي لكن الأصوليين نقلوا الأمر إلى البرلمان ونجحوا في استصدار قانون مفصل علی مقاس ظريف لابعاده عن حكومة بزشكيان، الأمر الذي وضع الأخير في زاوية ضيّقة، فلم يكن أمامه إلا خيار الموافقة لأن الرفض ربما يؤدي إلی عزله من رئاسة الجمهورية!
والملاحظ أن النخب الإيرانية منقسمة إلی فئتين حيال خطوة ابعاد ظريف بدلالاتها الموجهة ضد خيار التفاوض مع الغرب. فئة أولى تتميز بحساسيتها المفرطة إزاء الولايات المتحدة إلى حد تمسكها بمصطلح “الشيطان الأكبر”، وهذه الفئة تتماهى مع موقف المرشد خامنئي الذي وصف المفاوضات مع واشنطن بأنها “غير مُشرّفة”. وعلی أساس ذلك، يُصبح استبعاد ظريف من الكابينة الوزارية هو استبعاد لخيار المفاوضات مع الولايات المتحدة حالياً، ذلك أن هذه الفئة تعتبر أن هذه المفاوضات “مضيعة للوقت” ولا تخدم النظام السياسي في إيران.
أما الفئة الثانية فإنها تری في ظريف شخصية أكاديمية علمية مقتدرة تُشكّل “قيمة مضافة” لكابينة بزشكيان، ومن يُقدم على استبعاد هذه الشخصية من الحكومة، إنما يُساهم في تضييع فرصة ثمينة من شأنها إزالة العقوبات الإقتصادية ورفع الضغوط المعيشية عن كاهل جميع المواطنين الإيرانيين، إضافة إلی دوره في مساعدة الرئيس الإيراني في صياغة الملفات الاستراتيجية للبلاد في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والعلاقات الدولية.
وفي حقيقة الأمر، فإن قضية ظريف لم تكن شخصية بقدر ما هي سياسية لا بل تتصل بالأمن القومي الإيراني، وساعد منطق الفئة الأولى ما شهدناه من مجريات للقاء العاصف الذي عُقِد في البيت الأبيض بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وتعتقد أوساط دبلوماسية إيرانية أن فتح باب المفاوضات مع إدارة ترامب ممكن لكن يجب أن يتوفر الباب المناسب والظروف المناسبة والتوقيت المناسب لضمان نجاحها، وبالتالي ظروف هكذا مفاوضات لم تنضج بعد، إضافة إلی أن وجود موسكو كوسيط لا يخدم المفاوضات وإنما يستطيع أن يكون عاملاً مساعداً في ايجاد أرضية تفاوضية من دون التدخل بها وبنتائجها لأسباب متعددة أبسطها أن روسيا هي أحد أعضاء المجموعة التي وقّعت علی الاتفاق النووي عام 2015 وما زالت عضواً في هذه المجموعة، ما يفرض عليها أجواء لا تنسجم مع ظروف الوساطة، كما أن المفاوضات المباشرة بين طهران وواشنطن هي إحدی الركائز المهمة لنجاحها.
تبقی مسالة ارتياح الكيان الإسرائيلي لاستبعاد ظريف فذلك يعود بشكل واضح إلی معارضة تل أبيب لأية مفاوضات مع إيران لأن ذلك “قد” يؤدي إلی اتفاق وعودة العلاقات الدبلوماسية، وهذا ما لا يرتضيه الكيان ويعتبره متنافياً مع أمنه القومي، اللهم إلا أن تكون المفاوضات تدخل من النافذة الإسرائيلية.
في الختام، لا بد من انتظار مآلات القمة التي يُفترض أن تجمع ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في الرياض، في غضون الأسابيع المقبلة، في ظل تقديرات تشي بوجود إرادة أمريكية بتحقيق تقارب روسي أمريكي يُفضي تدريجياً إلى إبعاد موسكو عن الصين، لكن ماذا عن حضور المسألة الإيرانية في هذه القمة وهل يُمكن أن نشهد خروج الدخان الأبيض منها؟
لننتظر.. ثمة أسابيع وأشهر محمومة تنتظر الجميع في المنطقة.