حتى الآن، لا تكفي لا الوقائع اللبنانية الراهنة ولا السيناريوهات المتخيلة لإقناع اللبنانيين بوجوب “تسلم” جيشهم مقاليد السلطة في بلد تصدعت فيه السياسة حد موتها. المفارقة ان نائب رئيس مجلس النواب اللبناني والعضو “المنشق” عن تكتل “لبنان القوي” إيلي الفرزلي لم يتنبه أو تغافل، وهو يدعو الجيش اللبناني الى انقلاب او إلى إستلام السلطة لمرحلة انتقالية، أن المؤسسة العسكرية “وان كانت جديرة بالثقة”، هي احدى مؤسسات الدولة التي تضم الاطياف السياسية كافة وتعكس الانقسامات المجتمعية اللبنانية الأوسع، فإذا كان البلد مأزوماً، فإن مجرد استلام الجيش للسلطة سيجعله يرث مباشرة كرة نار الأزمة السياسية. فالجيش ليس كياناً مستقلاً، بل هو ابن البيئات والولاءات والتصدعات اللبنانية، وهذا ما اثبتته التجارب منذ الاستقلال الى يومنا هذا.
إذا جاز تعيين المسؤول الأول عن النهاية الكارثية للبنان، دولةً وشعباً ومؤسسات، فهو لن يكون إلا خيارات اللبنانيين أنفسهم وسكوتهم العميق عن كل ما حصل منذ العام 1990 من إرتكابات بحق معنى الدولة التي كانت وستبقى مشروعاً محتملاً. تخلى القادة اللبنانيون عن السياسة والإقتصاد بمعناهما الوطني الخالص لمصلحة الاستقواء بخارجٍ ما، وهو بالتعريف خارج سوري وسعودي وإيراني وفرنسي وأميركي وعدّد ما شئت من أمم.
هكذا صار هذا الخارج هو “ضابط” إيقاع اللبنانيين وجيشهم وباقي مؤسساتهم الأمنية التي كان “زمنها الجميل” في الفصل بين جمهوري ناديي الحكمة والرياضي، أو بين جمهوري النجمة والأنصار. ولهذا صار الآن إسم لبنان مقروناً بتعابير من نوع “الأزمة” أو “الإنهيار” أو “السقوط الحر” أو “الإرتطام” أو “الطوابير”. هذا الواقع مسحوباً إلى مداه الأبعد يجعل من أمر تولية الجيش إدارة لبنان مثار أخذٍ وردٍ.. وتأمل.
الخوف الأكبر هو من “تعليق الدستور” وترك العسكر يمسك بأعنة سلطة دولة مثل لبنان الذي هو بالواقع تعبيراً عن متناقضات مستمرة والجيش فيه لم يكن مرةً علامة جمع إلا في لحظات إستقرار إقليمية ودولية كانت تعلق إستخدام البلد صندوقة بريد. وأي كلام عكس ذلك هو كلام عاطفي يخلو من الوقائع الصلبة لحقيقة لبنان واللبنانيين.
ليس من السهل إقناع الديموقراطيين في الإدارة الأميركية بإمكان تسليم مقاليد السلطة إلى الجيش لا في لبنان ولا في أي بلد في العالم
هنا ثمة إستدراك لا بد منه: ليس من السهل ـ وهذا الكلام لا يُطلق جزافاً ـ إقناع الديموقراطيين في الإدارة الأميركية بإمكان تسليم مقاليد السلطة إلى الجيش لا في لبنان ولا في أي بلد في العالم، وإذا برّروا ذلك في بلد ما عليهم أن يبرروه في بلدان أخرى. لكن لنفترض أن الأميركيين أعطوا الضوء الأخضر، فإن الممر الإلزامي لتوفير النصاب الواقعي (إذا شئت قلْ النصاب الوطني) هو أن يوافق حزب الله ضمناً (كما يطرح الزميل سعد محيو في مقالته أمس الأول الأحد)، أو علناً كما يُردد كثيرون في الإعلام اللبناني في الآونة الأخيرة، أي لا بد من ممر أميركي ـ إيراني لهكذا “حكومة مهمة”!
الآن لا يعيش الجيش اللبناني أسوأ أيامه فحسب، بل أكثرها خطورة جراء المناداة به “مُنقذاً” في ظل تصارع الفيلة في الإقليم، وصراع القوى المحلية التي تملك بطاقات تعريف عن ذواتها تبدأ بالأوزان الطائفية ولا تنتهي بالعلاقات مع الخارج. هنا، يكون أفضل ما يستطيعه الجيش حالياً هو التوازن بين حرية “الجيش الأميركي” في قاعدة حامات الشمالية وبين حرية “حزب الله” في جنوب وشمال الليطاني.. وإذا صح أنه مُستاء من السياسة والساسة اللبنانيين يبقى أنه محكوم بواقع البلد وتراكيب قواه السياسية، برغم إصرار البعض على “أيقنة” الجيش، وهو ليس كذلك، أو إبراز الإجماع حوله، وهو أمر ممكن، إذا إنتفى القرار الدولي والإقليمي بأخذ لبنان إلى أتون الفوضى.. وربما الحرب الأهلية مجدداً.
والحال أن تعيين قدراته المحدودة وضيق ذات اليد تتعدى “هلوسات الوطنية اللبنانية” إلى معاينة دوره وقدراته على إدارة الجحيم اللبناني الراهن (السياسي والإقتصادي والمالي والإجتماعي). وذلك لا يرمي بحال من الأحوال إلى التشكيك بالجيش بل بقدراته وحده بمعزل عن أي داخلٍ وأي خارجٍ.
للمناسبة، دعكم من “الوطنية” في معاينة ومقاربة وضع المؤسسات العسكرية والأمنية. فالوطنية علاقة الفرد بالدولة، في حين أن المُزدهر عندنا هو طغيان الجماعات الطائفية على ما عداها. في هذا السياق، لا يمكن بحال من الأحوال غض النظر عن أهواء اللبنانيين السياسية. فهؤلاء يتحملون مسؤولية أخطائهم، وهنا يكمن معنى “الوطنية” وصوابها السياسي.
لقد قيل مراراً وتكراراً إن المشكلة الحقيقية في لبنان كانت عند اللبنانيين وفي كيفية تطويرهم أسوأ ما في إجماعاتهم الوطنية. عليه، ومنذ أن استقل لبنان عام 1943، لم يكن الجيش اللبناني بمنأى عن السياسة ولكنه كان يقف على الحافة في تعامله، ربما بين نارين، وحين ينجر الى ما هو أبعد من المرسوم له، يتعرض للتصدع والصدام.
فؤاد شهاب كان العسكري الاول الذي يتم التوافق على اختياره رئيساً للبنان، فكان الحل الامثل وسط محيط من الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق ومصر
الدرس الأول بدأ في عهد اللواء فؤاد شهاب، أول قائد للجيش بعد الاستقلال. آنذاك برزت في العام 1952 معارضة قوية سميت بـ”الثورة البيضاء” طالبت الرئيس بشاره الخوري بالتنحي بعد أن انتخب لولاية ثانية. رفض شهاب أن يتورط الجيش في هذه المواجهة السياسية. كما رفض أن يتدخل لصالح أو ضد أي من الأطراف المتخاصمة.
عندما أطيح ببشارة الخوري، عُيّن شهاب رئيساً لحكومة انتقالية مهمتها تنظيم وتأمين انتخاب رئيس جديد. آنذاك أهمل شهاب الدعوات المُبطنة والعلنية لتبوئه سدّة الرئاسة على قاعدة النأي بالجيش عن السياسة. كان في زمنه أكثر وعياً وإدراكاً ممن أتوا من بعده. فقد عمد إلى تنفيذ مهمته الطارئة بسرعة قياسية. بعد أربعة أيام، انتخب كميل شمعون خلفاً لبشارة الخوري، وبدأ يتصرف كرئيس ملك: يستحوذ على كل شيء، ويريد كل شيء، إنما في صورة المتواضع.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، أوكل الرئيس شمعون لفؤاد شهاب وزارة الدفاع إضافة إلى مسؤولياته كقائد للجيش، الاّ ان شهاب استقال من منصبه الوزاري بعد أربعة أشهر مفضلاً التركيز على واجباته العسكرية بعيداً عن عالم السياسة.
مع نهاية ولاية شمعون وبعد النزاع الحاد في مسألة قناة السويس بين مصر جمال عبد الناصر والدول الغربية، وقع انقسام سياسي حاد بين اللبنانيين: اذ صعّد كميل شمعون المنضوي في حلف بغداد، صراعه مع عبد الناصر الذي لم يكن في ذلك الوقت رئيساً لمصر وحدها وإنما كان أيضا رئيسا لسوريا في زمن الجمهورية العربية المتحدة. أيّد عبد الناصر قادة المسلمين الذين نظّموا حركة تمرّد في الشارع تعارض التجديد لشمعون لولاية ثانية. وعرفت هذه الحقبة بأزمة أو ثورة عام 1958.
بدأ النزاع في الشوارع والمدن، ورفض شهاب، كما في العام 1952، ان يتدخل الجيش في هذا الصراع الى جانب أحد، وفي الوقت ذاته، منع المتخاصمين، أي الاغلبية المسلمة المؤيدة للمعارضة، والاغلبية المسيحية المؤيدة لشمعون، من الاقتراب من المواقع الاستراتيجية، فحافظ الجيش على حياده ووحدته، وأصبح شهاب المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية نتيجة لذلك، وحظي برضى الأميركيين وعبد الناصر على السواء. فكان العسكري الاول الذي يتم التوافق على اختياره رئيساً للبنان، فكان الحل الامثل وسط محيط من الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق ومصر. والنجاح الذي حققه كان بحمايته خارجياً بالتوافق الأميركي ـ الناصري. أما داخلياً فكان السبب في مشاريعه الإصلاحية التي أعطت لبنان مكونات دولة ما زلنا نتفيأ بظلالها إلى يومنا هذا (جامعة وطنية وتفتيش وديوان محاسبة وهيئات رقابية إلخ..).
تولّى شهاب منصب الرئاسة في الفترة الممتدة بين 1958 إلى 1964. الثابت أن شهاب حمى الكيان اللبناني ووحدة الجيش، وكان جديراً بالرئاسة. وبرغم اهمية دوره في بناء الدولة ومؤسساتها، واحتضانه من النظام الناصري لم ينجُ مشواره من الازمات، بدءاً من انقلاب القوميين السوريين مروراً باعتماد شهاب نفسه لاحقاً على مديرية المخابرات (المكتب الثاني) لقيادة نهجه غير الحزبي لبناء الدولة، ما لاقى معارضة من اكثر السياسيين، بمن فيهم زعماء المسيحيين، ككميل شمعون وريمون إدّه وبيار الجميل الذين شكّلوا تحالفاً مناهضاً للشهابية.
بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، تضخم الدور السوري، وتولى قائد الجيش العماد اميل لحود توحيد الجيش ودمج ألويته وتثبيت عقيدته برعاية سلطة الطائف اللبنانية وبإشراف سوري على أدق تفاصيل المؤسسات العسكرية والأمنية
تاريخياً، لم يكن الحكم العسكري المخابراتي مُستساغاً من العائلات السياسية التقليدية والاقطاعية، فكانت تشعر ان بناء الدولة يُضعف نفوذها، وإن كان بعضها استفاد من الشهابية لفترة ما. وحتى الآن، فإن حساسية أغلبية السياسيين اللبنانيين من “حكم العسكر” عالية جداً. والتعبير الأمثل والأكثر وضوحاً عن هذه الحساسية تمثل في انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في العام 1970 إذ شكّل فرصة للانقضاض على الشهابية، وتمت محاكمة ضباط في المخابرات (المكتب الثاني) بتهمة “إساءة استغلال السلطة”.
مع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي اصبح لاحقاً معبراً للتصدع الأمني في لبنان ومع صعود “المقاومة الفلسطينية” بكل “تجاوزاتها” و”إمتداداتها”، كان لبنان يشهد تحضيراً “نموذجياً” لأرضية الحرب الأهلية، وصولاً إلى إندلاعها “رسمياً” في الثالث عشر من نيسان/ أبريل 1975، وبدور بارز للنظام السوري مناصراً “الجبهة اللبنانية” قبل أن ينقلب إلى الضد منها. ففي العام 1977، وتحديداً إثر زيارة أنور السادات إلى إسرائيل، إنقلب المشهد اللبناني “فحدث فيه ما يشبه انقلاب الصورة، إذ اهتز حبل الأمن ووقعت الاشتباكات، وتبدلت التحالفات، وصار الممنوع مطلباً، والمحظور حاجة. استحال خلال عام 1978 تحالف سوريا و«الجبهة اللبنانية» عداءً دموياً، وعداء سوريا والحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية انقلب حلفاً راسخاً وإن كان حذراً، استمر حتى رحيل المقاتلين الفلسطينيين من بيروت عام 1982″، كما يقول الراحل فؤاد بطرس، وزير خارجية لبنان الأسبق، في كتاب مذكراته.
وعلى مدى سني الحرب الاهلية اللبنانية طوال 15 عاماً، تعرّض الجيش اللبناني إلى ضغوط داخلية أدّت إلى انقسامه وتحوله جيوشاً في جيش. في هذا السياق، برز الملازم أحمد الخطيب كأحد المنشقين عام 1976، فأسس جيش لبنان العربي دعماً لمنظمة التحرير الفلسطينية أثناء الحرب الأهلية، ما سحب الثقة من مؤسسة لطالما كانت تشكل ضمانة للعيش المشترك. وإذ توحدت لاحقا ألوية الجيش عام 1977 في عهد الرئيس الياس سركيس وبقيادة العماد فكتور خوري، إلا أنه بين عامي 1982 و1990 عانى الجيش اللبناني من إقحامه في المعارك الداخليّة، بدءاً من “حرب الجبل” إثر الإنسحاب الإسرائيلي عام 1983، مروراً بـ”إنتفاضة” 6 شباط/ فبراير 1984 بسبب الصراع بين السياسيين اللبنانيين وأحزابهم وبين رئيس الجمهورية امين الجميل فكان أن سقط الجيش في هذا الصراع ووزع ولاءاته، فكان “اللواء السادس” في الشطر الغربي للعاصمة بأمرة ضابط مقرب من حركة أمل.. وألوية مقابلة تأتمر بأوامر قيادة الجيش التي آلت من إبراهيم طنوس إلى ميشال عون في العام 1986.
في العام 1988، ومع نهاية عهد أمين الجميل، صار لبنان أسير إدارتين سياسيتين، أولى حكومة عسكرية بقيادة الضابط ميشال عون وثانية حكومة سياسية بقيادة الرئيس سليم الحص. دخل الجيش (بألويته المسيحية بمعظمها) في صراعات دشنها ميشال عون بـ”حرب التحرير” ضد سوريا حافظ الأسد في العام 1989، وأكملها بمواجهة دموية مع القوات اللبنانية في ما عرف بـ”حرب الالغاء” في كانون الثاني/ يناير 1990. وفي 13 تشرين الاوّل/ اكتوبر من العام 1990، جرت عمليّة عسكريّة لبنانيّة ـ سوريّة بغطاء دولي وعربي ضد مناطق نفوذ العماد عون، نجم عنها إطاحته ونفيه إلى باريس.
بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، تضخم الدور السوري، وتولى قائد الجيش العماد اميل لحود توحيد الجيش ودمج ألويته وتثبيت عقيدته برعاية سلطة الطائف اللبنانية وبإشراف سوري على أدق تفاصيل المؤسسات العسكرية والأمنية.. وحتى السياسية والدستورية!
مرّ الجيش بإختبارات عديدة بين العامين 1990 و2005، لعل أخطرها حادثة إطلاق النار على تظاهرة حزب الله في العام 1993 إحتجاجاً على إتفاق أوسلو وأحداث الضنية في العام 2000 وإلتقاط نبض الشارع إثر الانسحاب السوري من لبنان في العام 2005، لتبدأ مرحلة جديدة بعد انتهاء التفويض الدولي والعربي لسوريا بادارة ملف لبنان.
ما يؤلم اللبنانيين في يومنا هذا أن جيشهم صار مادة تسول سياسي منذ أن شاعت أخبار كثيفة عن مساعدات عينية (أكل وشرب ومحروقات) ومادية تُجمع له عربياً (مصر والأردن والعراق والمغرب والسعودية) وغربياً تحت إشراف أميركي
وقف الجيش اللبناني على الحياد بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، ووجد نفسه في مواجهة لحظتين صعبتين: الأولى، معركة نهر البارد عام 2007 ، التي ما أن انتهت حتى اغتيل قائد العملية اللواء فرنسوا الحاج؛ الثانية، أحداث 7 أيار/مايو 2008. في هاتين اللحظتين، بدت المؤسسة العسكرية محرجة بين ناري الإشتباك السني الشيعي المفتوح منذ لحظة 14 شباط/ فبراير، سواء بـ”خطوط حمر” لم تصمد في “البارد” قابلها إتهام بتواطؤ جهات محلية وإقليمية في تبني ظاهرة “فتح الإسلام” أو بالوقوف موقف المتفرج إزاء إجتياح حزب الله للعاصمة بعنوان “السابع من أيار”.. لكن في كل الأحوال بدا أن الجيش ممراً للطموحات أكثر من كونه مؤسسة من مؤسسات الدولة التي يُفترض أنها ضمانة الإستقرار.
بعد اندلاع الاحداث في سوريا عام 2011، تم اتهام الجيش بانه يحمي ظهر حزب الله الذي تدخل صوناً لأوكسيجنه ومقدساته.. وحماية للنظام هناك، في وقت كان الكثير من المسلمين السنة في لبنان يحاولون دعم المعارضة السورية ويصطدمون بالجيش اللبناني هنا وهناك ونتج عن ذلك سلسلة ازمات، بدءا بمقتل احد المشايخ على حاجز للجيش عام 2013 مرورا بظاهرة احمد الاسير واحداث عبرا، من دون أن ينتهي الامر عند احداث عرسال عام 2014، ولم يقفل جرح الحدود الشرقية إلا مع معركة الجرود غداة إنتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وتعيين جوزيف عون قائداً للجيش.
كل هذه الأحداث أربكت الجيش في مكان ما، لكنه خرج منها بأقل خسائر ممكنة. ومع انطلاق انتفاضة 17 تشرين، كان هناك مسعى من بعض السياسيين الطامحين الى المواقع لإقحام الجيش في مواجهة الشارع المنتفض الا انه تفادى هذا المستنقع فوجهت إليه الاتهامات مجدداً. والدرس الدائم مما حصل ان هناك من يسعى دائما ليأخذ الجيش سنداً لمشاريعه.
هذا الواقع الذي يستدرج ما لا حصر له من حجج وسجالات ومغايرات سياسية يجعل الجيش في موقع لا يُحسد عليه، بمعزل عن عواطف صادقة أو مشبوهة لـ”الجيش” و”حامي الدستور” والديموقراطية اللبنانية المُدعاة.. فليس بالفصاحة تُبنى الدولة، وحتماً فإن نائب رئيس مجلس النواب يعي تماماً ان انقلاب عبد الحميد الاحدب دام ليوم واحد.
المؤلم أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لا تزال متماسكة. لكن الأكثر إيلاماً هو سكوت الجيش عن الأفخاخ التي تًنصب له وهو يعرف باليقين أنه ليس الحل، وأنه طالما تعذر على اللبنانيين التوافق لإنقاذ وطنهم والتحول إلى دولة فإنه يستحيل التوافق على توليته حاكماً لقوى سياسية تتحسس تلقائياً من المؤسسة العسكرية، لا بل أن الغالب من هذه القوى اشتبكت مع الجيش وكتبت تاريخها وصعودها بحبر القلب.. أي الدم.
ما يؤلم اللبنانيين في يومنا هذا أن جيشهم صار مادة تسول سياسي منذ أن شاعت أخبار كثيفة عن مساعدات عينية (أكل وشرب ومحروقات) ومادية تُجمع له عربياً (مصر والأردن والعراق والمغرب والسعودية) وغربياً تحت إشراف أميركي، وهذا لا يمنع من تسول اللبنانيين أي خشبة للنجاة من مأزقهم التاريخي الكبير، وعنوانه إنعدام الحد الأدنى من المسؤولية الوطني عند كل طبقتهم السياسية.
ماذا لو حصل التواطؤ المشتهى بين إيران والولايات المتحدة. بين حزب الله (من المفيد مراجعة خطاب السيد حسن نصرالله الأخير بكل مفرداته) والجيش اللبناني؟ هل يكفي هذا التساند لحل أزمة النظام أم المطلوب إدارة أزمة حتى يستقيم النظام إياه أو يتوفر البديل مستقبلاً؟
(*) هذا النص لا يبتغي مزايدة ولا ترويجاً بل إستدراج نقاش حول المخارج الممكنة من أزمتنا الوطنية المستعصية.. إقتضى التوضيح.